سعيد الكحل
عاد إسلاميو البيجيدي إلى عادتهم القديمة المتمثلة في مناهضة حقوق النساء ورفع كل أشكال العنف والظلم الاجتماعي والقانوني والفقهي عنهن. فكلما طالبت النساء بإعادة النظر في الأطر الفقهية المرجعية التي تشرعن ظلم النساء وحرمانهن من الحقوق والكرامة إلا وأخرج البيجيدي أسلحته الإيديولوجية والديماغوجية متباكيا على الهوية والدين ومتهما خصومه بـ”استهداف الدين الإسلامي” والسعي إلى “تقويض” الأسرة.
هكذا تلقّفت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية بكل “استنكار” دعوة الأمينة العامة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى المساواة بين الذكور والإناث من الأبناء في الإرث، وأصدرت بيانا تحريضيا ضد السيدة الرئيسة وضد الهيئات النسائية والحقوقية المنادية بنفس المطلب (تتابع الأمانة العامة بقلق كبير المساعي الجارية من طرف بعض الجهات للمساس بنظام الإرث الجاري به العمل والذي يستمد مرجعيته من الشريعة الاسلامية، وتستنكر التصريحات المعبر عنها من طرف رئيسة مؤسسة وطنية يفترض فيها الالتزام بالقانون والحرص على احترامه، وتدعوها للكف عن الإساءة للثوابت الدينية للمغاربة).
هكذا يسمح البيجيدي لنفسه التصدي لكل المطالب بالمساواة والمناصفة ورفع الظلم الاجتماعي والاقتصادي عن النساء باسم الدفاع عن الشريعة الإسلامية. فما يهمّ الحزب ليس الشريعة ولا مقاصدها، ولكن يهمّه المتاجرة بالدين واحتكاره كأصل تجاري واستغلاله في عرقلة جهود التحديث. ذلك أن الحزب لا يمكن أن يخوض معارك سياسية من أجل تقوية المؤسسات الدستورية وتعزيز استقلاليتها، لأنها معركة خاسرة بالنسبة إليه وليست ذات مردودية انتخابية ؛ بل قد ينقلب سحرها عليها أمام عجزه وتخاذله في تنفيذ ما يطالب به حين كان على رأس الحكومة خلال عقدين كاملين. كما لا يمكنه قيادة معركة اقتصادية واجتماعية ضد الغلاء والبطالة والتهميش ونهب المال العام وقد وفّر كل الظروف والشروط “القانونية” لشرعنة الغلاء وحماية الناهبين بسلسلة من القرارات الجائرة (تحرير أسعار المحروقات، قرار “عفا الله عما سلف” ، التوظيف بالتعاقد ..).
فمنذ نشأة الحزب لم يجعل من قضايا النساء مجالا للنضال من أجل إنصافهن وحماية كرامتهن. بل كل معاركه السابقة تثبت مناهضته الشرسة لكل المطالب النسائية. فقد ناهض حق ولاية المرأة على نفسها في الزواج ، وطالب ، في المذكرة التي وجهها للجنة الاستشارية الملكية التي تكلفت بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية وتلقي اقتراحات الأحزاب والهيئات النسائية ، بحرمان الثيب من الولاية على نفسها التي كانت تضمنها لها مدونة 1993 ، وبفرض الولاية على كل النساء دون تمييز بين البكر والثيب ، الراشد والقاصر. ونفس الموقف اتخذته حركة التوحيد والإصلاح.
اليوم جاء البيجيدي ليناهض إصلاح منظومة الإرث بما يتماشى مع التحولات التي عرفها المجتمع وينسجم مع المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب. فالمجتمع المغربي بات يعرف ارتفاع نسبة النساء المعيلات (3/1) أو المساهمات في تحمل الأعباء المادية للأسرة . بل إن كثيرا من الأسر تتولى فيها الإناث إعالة الإخوة الذكور أنفسهم. الأمر الذي يجعل القاعدة القرآنية “للذكر مثل حظ الأنثيين” لا تحقق العدل والإنصاف للإناث اللائي يساهمن في تكوين ممتلكات الأسرة ومراكمتها بدرجة أكبر من مساهمة الذكور. وقد تكون الأنثى ساهمت في تدريس أخيها وتأهيله لضمان عمل أو وظيفة بما وفرته من كدّها وعملها ، ليعود ، بعد وفاة الأب ، ويطالب بضعف نصيبها فيما ساهمت في تكوينه ومراكمته . فيوم كان الذكور هم المكلّفون بالإنفاق وإنتاج ثروة الأسرة وتحمّل الأعباء المادية للإناث ، كانت قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” تحقق العدل الاجتماعي.
أما ما يزعمه مناهضو المساواة في الإرث من كون الحالات التي ترث فيها الأنثى مثل أو أكثر من نصيب الذكر كثيرة ، فهو زعم مردود عليه من حيث كون حالات الأمهات أو الأخوات للأم اللاتي يرثن الأبناء أو الإخوة يشكّلن نسبة جد ضئيلة مقارنة مع نسبة البنات في الأسر النووية . إن أغلبية حالات الإرث تكون بين الأولاد ذكورا وإناثا. فلا يُعقل أن نتخذ من حالة الأم التي ترث ابنها قاعدة للقول بأن الأنثى ترث ضعف نصيب الذكر. فكم هو عدد الأمهات اللائي يرثن أبناءهن مقارنة مع الإناث اللائي يرثن آباءهن وأمهاتهن؟ إنها حالات شاذة ؛ والشاذ لا يقاس عليه. وما دام العدل من أهم مقاصد الشريعة (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ)، فإن أي حكم لم يعد يحقق العدل، تبعا لتطور المجتمع ، فإن تعطيله يُجسد روح الإسلام ومقاصده. وعبر تاريخ المسلمين تم تعطيل كثيرا من الأحكام والحدود لكونها لم تعد تحقق المقاصد من تشريعها.
من هنا يكون على الإسلاميين أن يتعاملوا مع مصالح المجتمع بمبدأ “القرآن يفسره زمانه”، وبمنطق حركية المجتمعات التي تستوجب مواكبتها بالفهم والاجتهاد حتى لا يكون الدين مصادما لمعاشها ومصالحها كما هو الحال في التعصيب الذي يسمح للأعمام أو أبنائهم بالاستحواذ على نصف أو ثلث تركة الأسرة التي لم تنجب ذكرا وما يترتب عنه من مشاكل مادية واجتماعية للبنات (في كثير من الحالات تعرضت البنات للتشرد بعد بيع المنزل الذي بناه الأب والأم بكدّهما ) فالتعصيب لا أصل لها في القرآن الكريم ، فهو أكل أموال الناس بالباطل الذي نها عنه الله تعالى.
إلا أن الإسلاميين أبعد ما يكونوا عن روح الدين ومقاصد الشريعة ، بدليل أن حالات الحيف والظلم التي تعاني منها النساء لا تثير أي اهتمام لديهم بحكم الثقافة الذكورية التي تشبعوا بها فقها وأعرافا وممارسات. لهذا كلما أثيرت قضايا النساء إلا واحتمى هؤلاء بالفقه الذكوري الذي يكرس ظلم النساء ويشرعنه .فعلى امتداد التاريخ الإسلامي طغت القيم الذكورية على الاجتهادات الفقهية فيما توارت الاجتهادات التنويرية على قلتها.
وتبقى حجة مناهضي حقوق النساء أنه “لا اجتهاد مع النص” دون أن يكلّفوا أنفسهم البحث في أحكام المواريث عن درجة مطابقتها أو مخالفتها للنص كما في “المسألة العمرية” على الشكل التالي:
في حالة توفيت امرأة وتركت زوجا وأما وأبا ، فنصيب الزوج النصف ، والأم ترث نصف التركة والباقي يرثه الأب وفق ما تنص عليه الآية الكريمة ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ). لنفترض أن الهالكة تركت 9 ملايين درهم ، فإن نصيب الزوج 4.5 ملايين ، ونصيب الأم 3 ملايين ، أما الأب فيأخذ ما بقي أي 1.5 مليون. ونظرا لكون هذا التقسيم لا ينسجم مع القيم الذكورية بسبب حصول الأب/الذكر على 1.5 مليون ، أي نصف نصيب الأم (3 ملايين) ، سيخالف الفقهاء صراحة وعنوة النص القرآني باجتهاد يقضي بإعطاء الأم/الأنثى “الثلث الباقي” ليس من التركة ، بل مما تبقى منها بعد أن يأخذ الزوج نصيبه . بهذا يصير نصيب الأب/الذكر ضعف نصيب الأم .
لم يخرج إذن، مناهضو حقوق النساء باستنكار مخالفة النص ولا رفعوا قاعدة “لا اجتهاد مع النص” ليعيدوا للمرأة حقها الذي شرعه القرآن الكريم. إن الاجتهاد المطلوب هو الاجتهاد الذي يتوخى تحقيق العدل والإنصاف اللذين هما من مقاصد الشريعة. ومن نماذج هذا الاجتهاد ، الإفتاء “بحق الكدّ والسعاية” لصالح الزوجة في حالة الطلاق أو الترمّل. فضلا عن هذا ، يتجاهل مناهضو حقوق النساء حقيقة تجاوز المجتمع للأحكام الفقهية التراثية في كثير من ممارساته سواء تعلق بالوصية الواجبة التي لا أصل لها في القرآن والسنة والفقه ، فيتم تمكين أبناء الابن ، ذكورا وإناثا ، من نصيب أبيهم المتوفى في تركة الجد. فبعد أن كان هؤلاء يُحرمون من الميراث ، صاروا من الورثة.
ومن تناقضات منظومة الإرث أن الأب يرث في الابن المتوفى فرضا وتعصيبا، لكن الأبناء اليتامى لم يكونوا يرثون في جدهم حتى بادر الحكام بعدد من الدول العربية بإدخال الوصية الواجبة في نظام الإرث بعد أن كان الفقهاء يحرمونهم وفق القاعدة العُرْفية “لي مات باه قبل جدو يدي الهمّ ﯕدو”؛ فللحاكم حق تقييد المباح. هكذا أحدثت المادة 76 من قانون الوصية المصري 71 سنة 1946م (السوري سنة 1953 ، والتونسي سنة 1956 )فنصت على مقدار الوصية الواجبة.
أما في المغرب فقد نص الفصل 266 من مدونة الأحوال الشخصية الملغاة سنة 2004، على ما يلي: “من توفى وله أولاد ابن وقد مات ذلك الابن قبله أو معه وجب لأحفاده هؤلاء في ثلث تركته وصية بالمقدار والشروط الآتية” .وتداركت مدونة الأسرة مسألة إقصاء أبناء البنت ، فنصت المادة 372 منها على ما يلي “تكون هذه الوصية لأولاد الابن وأولاد البنت ولأولاد ابن الابن وإن نزل واحدا كانوا أو أكثر للذكر مثل حظ الانثيين، يحجب فيها كل أصل فرعه دون فرع غيره ويأخذ كل فرع نصيب أصله فقط”.
لا غرو أن المجتمع المعاصر بحاجة إلى اجتهادات فقهية تناسب الظروف الاجتماعية الحالية وخصوصيات الأسرة النووية التي لم يعد للأعمام أو أبنائهم أي دور في كفالة أبنائها ولا المساهمة في تنمية ثروتها ومراكمتها. لهذا يقتضي الواقع والعقل والدين توسيع مجال الوصية الواجبة لحماية حق البنات في الاستئثار بكل تركة الأبوين بعد وفاتهما ولم يخلّفا ولدا ذكرا.
أما بخصوص الحديث النبوي الذي يحاجج به مناهضو حق البنات في كل تركة الوالدين (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)، فقد ضعّفه كثير من الأئمة والفقهاء لكون راويه عبد اللّه بن طاوس مجروحا . فقد روي عن ابن عباس وطاووس والد عبد اللّٰه تكذيبه، وتبرؤهما من هذا الخبر، روى ذلك أبو طالب الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثني سفيان، عن أبي إسحاق، عن قارية بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس و هو بمكة فقلت: يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك و طاووس مولاك يرويه: أن ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت؟ قلت: نعم قال: أبلغ من وراءك أني أقول: إن قول اللّٰه عز و جل (آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لٰا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ) وقوله (وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ) وهل هذه إلا فريضتان و هل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا، و لا طاوس”.
وفي المقابل أفتى ابن عباس بالتركة كلها للبنت في عدم وجود الابن الذكر. فقد أخرج الحاكم في المستدرك أنه سئل ابن عباس عن رجل توفى وترك بنته و أخته لأبيه و أُمه فقال: ليس لأخته شيء والبنت تأخذ النصف فرضاً و الباقي تأخذه رداً، الحديث .وفي نفس السياق روى البخاري في باب ميراث البنات قال: (حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: مرضت بمكة مرضاً فأشفيت منه على الموت فأتاني النبي (صلى الله عليه وسلم) يعودني فقلت: يا رسول اللّٰه إن لي مالًا كثيراً، و ليس يرثني إلا ابنتي أ فأتصدق بثلثي مالي؟ قال:لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث كبير، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس) .
وهذا الحديث ينص على بطلان القول بالتعصيب، لأنه قال: (و ليس يرثني إلا ابنتي) و لم ينكر عليه رسول اللّٰه (صلى الله عليه وسلم). ومما يعضّد بطلان التعصيب ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن سويد بن غفلة في ابنة و امرأة و مولى قال: كان علي (عليه السلام) يعطي الابنة النصف، و المرأة الثمن و يرُد ما بقي على الابنة”.
خلاصة القول ، إن “الحكم الشرعي يدور مع علته وجودا وعدما” ، كما تقول القاعدة الفقهية. وما ينبغي استيعابه هو أن الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى أخرى إذا تغير الزمان أو المكان أو الحال. وهذا الذي جسده الإمام الشافعي باجتهاداته الفقهية بما يتوافق مع طبيعة المجتمع العراقي وأعرافه الاجتماعية ، بينما حين حل بمصر اجتهد لأهلها بما يتناسب مع ثقافتهم وأعرافهم ، فلم يلزمهم بمذهبه في العراق.
والمغرب، كما اختار الانفتاح على باقي المذاهب بما تقتضيه المصالح الاجتماعية، اختار كذلك الانفتاح على منظومة حقوق الإنسان وقيم العصر. ويتجسد هذا الانفتاح في كل من مدونة الأسرة والوثيقة الدستورية. إنها حركية المجتمع والتاريخ التي تتقدم باستمرار ولا يمكن تعطيلها أو إخضاعها للفقه القروسطي.
ولتعلم قيادة البيجيدي أن مطلب المساواة في الإرث والوصية الواجبة هو حاجة مجتمعية تعبر عنها الهيئات النسائية، وهي كذلك تَوَجُّه واستعداد لدى الدولة للاستجابة لهذا المطلب عبرت عنهما السيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي هو مؤسسة دستورية. فالأمر لا يتعلق “بإحلال حرام أو تحريم حلال”، كما تزعم قيادة البيجيدي ، بل تحقيق للمصلحة ورفع للمفسدة والمظلمة في حق النساء تحقيقا للعدل الإلهي والاجتماعي.
والمجتمع المغربي منفتح على المساوات في الإرث التي باتت تطبق في الأراضي السلالية (تناهز 15 مليون هكتار ) من طرف ساكنة تقدر بـ 10 ملايين نسمة ، أي ما يقارب ثلث سكان المغرب.وهذا دليل قاطع على أن الشعب المغربي ، كما قبِل بالمساواة في أراضي الجموع دون أن يعتبرها مسا بالدين أو تهديدا لهويته ، سيقبلها في الملكية الخاصة بين أبناء الأسرة الواحدة.
فلا تنصّبوا أنفسكم، أيها الإسلاميون، أوصياء على الشعب.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17894