9 أكتوبر 2025 / 19:25

المذهب المالكي… عين السنة وترجمة لعمل أهل المدينة

محمد المهدي اقرابش 

زعم أحد دعاة المشرق في حوار بيني وبينه أن المذهب المالكي لا يأخذ بالدليل وإنما بأقوال الرجال! وإني لأعجب من هذا القول ويزداد عجبي عندما يصدر ممن ينتسب إلى الإمامة والدعوة والإرشاد!

فأجبته قائلا: قد غاب الصواب عنك في هذه المسألة وحبذا لو سألت عن سبب اختيار المغاربة للمذهب المالكي عوض الأخذ بالدليل الذي تراه واضحا ولاإشكال فيه!

إن المذهب المالكي هو عين السنة وهو ترجمة فعلية لعمل أهل المدينة. وعمل أهل المدينة هوأصل فقهي مدحه وقدره واعتبره ابن تيمية نفسه ولا أخالك تخالفه وهو العمدة عندكم.

وإن شئت فسمه مذهب أهل المدينة أو إجماع أهل المدينة من القرون المفضلة. والمذهب بمعناه العام هو طريقة في فهم نصوص الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومن جاء بعدهم. وهنا سؤال يتبادر إلى الذهن: الطريقة بفهم من؟

لا شك أن الفهم المقصود هو فهم الإمام مالك وقبل أن ندلف إلى محل الإشكال لا بأس أن نعرض ولو بقدر يسير مكانة وفضل هذا الإمام. والذي قال فيه الإمام الشافعي “إذا ذكر العلماء فمالك النجم”.

كان الإمام مالك إمام وعالم دار الهجرة فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله علي وسلم قال: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلايجدون أحدا أعلم من عالم المدينة” أخرجه الحاكم في المستدرك.

وقد استقر في المدينة وتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدب جم؛ حتى إنه كان يمشي على قدميه، ولا يركب دابة احتراما لجسد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تلطف الإمام مالك بأبي جعفر المنصور عندما رفع صوته في مناظرة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ” يا أمير المؤمنين لقد أدب الله أقواما فقال “ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيء” الآية 2 سورة الحجرات ومدح أقواماً فقال “إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى” الآية 3 سورة الحجرات. وإن حرمته صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا “. وقد شهد له العلماء بالعلم والفضل. قال عنه الإمام النووي الشافعي: “أجمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته وعظم شأنه وتبجيله وتوقيره والإذعان له في الحفظ وتعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وهذا من الأسباب التي دفعت بالأندلسيين والمغاربة إلى أن يدينوا بالمذهب المالكي. ونهجه يوصف بالحزم والتشدد في قبول الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم. وقد لقب بأمير المؤمنين في الحديث والفقه معا فاجتمع فيه ما تفرق في غيره. “ذلك فضل الله يوتيه من يشاء” الآية 20سورة الحديد

أخطأ من ظن ان المذهب منفصل عن الدليل وأنه يكتفي فقط بالفروع دون التوحيد او العقيدة. فالإمام مالك وابن أبي زيد القيرواني والشيخ خليل والقرافي وابن عاشر وغيرهم من المالكية قد ذكروا العقيدة في مصنفاتهم لأنه الفقه الأكبر.

لقد أبعد النجعة من ادعى عدم التزام المذهب بالدليل ونحا منحى المستشرقين غير المنصفين كشاخت الألماني الذي زعم ان المذهب جاء لملء بياضات وفراغات وقصور في القرآن والسنة وهذا خطأ شنيع وجهل بأصول الفقه وقواعده.

إن المذهب هو ترجمة لعمل أهل المدينة وهو رواية جماعة عن جماعة أو ألف عن ألف يستحيل تواطؤهم الكذب على سنن الأصوليين؛ وعليه فالأصوب والأحوط ان نأخذ به بدل خبر الآحاد او حديث لم يعمل به لسبب وجيه قد نعلمه أويخفى علينا.

إن الامام مالك لم يضع المذهب وقواعده كما يظن البعض وانما تلامذته هم الذين استقرؤوا وفهموا ودونوا طريقة استنباط مالك وفهمه للنصوص الشرعية بناء على فهم من تقدمه من التابعين والصحابة الذين أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

لقد نشأت بواكير هذا المذهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجده في فقه أبي بكر وعمر وعلي وعائشة وابن مسعود وزيد بن ثابت وابي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين وفي فقه الفقهاء السبعة وهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن ابي بكر الصديق وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود الهذلي وأبوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث. ونذكر معهم أبان بن عثمان وسالم ونافع وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعلي بن الحسين وابن شهاب الزهري وربيعة بن عبد الرحمن الملقب بربيعة الرأي وزيد بن أسلم ويحيي بن سعيد الأنصاري وهؤلاء شموس في سماء العلم والفقه والديانة.

وهاكم مثالا يوضح مدى تمسك الإمام مالك بالسنة والأثر:

من المعلوم على أن الأصوليين يقولون: “إن دلالة العام على أفراده هي ظنية”،

لهذا قد يرى الإمام مالك بتخصيص عموم القرآن بالحديث الآحادي المسنود بعمل أهل المدينة كما في قول الله تعالى «يوصيكم الله في أولادكم” سورة النساء الآية الآية 11. فقد خصص أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما الآية العامة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ” لا نورث ما تركناه صدقة” البخاري.

وقد يبقي الإمام مالك النص القرآني على عمومه إذا لم يتقو بعمل أهل المدينةً أو قياس أو إجماع. مثاله قول الله تعالى” قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أُهل لغير الله به” سورة الأنعام الآية 145. فإنه لم يخصصه بما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “نهى عن كل ذي مخلب من الطير” سنن أبي داود كتاب الأطعمة.

إن اجماع اهل المدينة هو ما تطمئن اليه النفس لكون المدينة هي موطن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة والتابعين وتابعي التابعين. وإن عمل اهل المدينة هو رواية لجماعة عن جماعة وهو تواتر عملي. فإذا اختلف حديث مع عمل أهل المدينة فإما أن الحديث منسوخ أو ذكر في واقعة خاصة وقد ذكر الشاطبي ذلك جليا في كتابه الموافقات.

أضف إلى هذا شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للمدينة وأهلها بقوله “إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها” ومعناه أن الإيمان مبتدؤه ومنتهاه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد اعتمد الإمام مالك عمل أهل المدينة كدليل إجمالي في الاستدلال وهو جلي في كتب المالكية من ضمنها عمدة المذهب مختصر الشيخ خليل. ولايعني هذا غياب الاستدلال به في بقية المذاهب المشهورة.

وأختم بإشادة ابن القيم الذي اجتمعت عليه المذاهب الأربعة بمختلف مشاربها وطرائقها؛ بالشيخ خليل إسحاق بن موسى الجندي “لم تزل ألطاف الله بالمالكية تتوالى حتى أخرج لهم شابا جمع لهم مذهبهم في أوراق يتأبطها الرجل وهو يخرج وهو عمدة المذهب اليوم. يحفظه الناس كما يحفظون القرآن”.

والله أعلم.