28 أغسطس 2025 / 16:51

المؤمن بين البحث عن المعنى وحجاب الكبر

فاطمة الزهراء الشباني
‎فقير وليلة عتماء..
‎وجودنا في هذه الدنيا وجود موقوت، هذه حقيقة بدَهِيَّة.
‎ قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.
‎وكل من تعلّق بشيء غير وجه الله خذله ذلك الشيء خدمة لكلمات الله التي هي من نور.
‎لكوننا كائنات موقوتة، وأن ربنا الكريم وحده الباقي، فمن أراد الانتساب إليه، أي أن يكون ربانيا، لا بد أن يخرج قليلا عن التحليلات الموقوتة، خصوصا فيما يخص الأمور الروحية، وينقّب في القوانين الأزلية التي جرت على الأنبياء والمرسلين، والتي أتى بها الكتاب (الرسالة).
‎الكتاب نفسه الذي أثنى الرسول الكريم على الجن اليهود، حين أحسنوا الانصات له فقال ﷺ لصحابته الكرام: “لقد استمع إلى القرآن الليلة نفرٌ من الجن، ما أحسن استماعهم! إذ جاءوا فكانوا أحسن منكم إنصاتًا، فلما فرغت ولّوا إلى قومهم منذرين.”
‎أنصتوا للحق ولم يستكبروا، فكانوا ربانيين بإحسانهم الإصغاء، وهم من هم.. زمرة ثبتت على الحق ما يناهز ألفي سنة، ولم تمُتْ ربانيتهم بعد موت سيدنا موسى عليه السلام ولم ينكروا دعوة سيدنا محمد ﷺ لكي يظلوا بنسبتهم لسيدنا موسى الأفضل، مثلا. فقالوا في تواضع وخضوع للحق: ﴿يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾.
‎لقد كانوا فقراء إلى الله، كما وصف الله المؤمنين جميعًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾. والفقير في خيالي هو من فرّغ وعاءه وتواضع أمام غنى الله ليملأ كأسه، غنى لا علاقة له بغنى المال. سل أصحاب الأموال هل وجدوا الاكتفاء بما جمعوا، وهل وجدوا بعد شربهم من بحوره ارتواء. الفقير عند من يحاول أن يسلك منهاج النبوة، هو المتواضع لله، المستعد لتلقي المدد منه.
‎غير أن الخلل يحدث دائما حين يتدخل الشيطان، والذي قُرن في القرآن الكريم ذكره بالكبر. وهو في الحقيقة لا يتدخل بل يتم استدعاءه، بمجرد ما يتبنى المؤمن خلُق الشيطان هذا: الكبر. الأمر أشبه بتطبيق يتم تنزيله للاستعمال، فيرافقه برنامج خبيث يفتح تطبيقات أخرى ويعبث ببيانات، يمسح ملفات ويعطل أحيانا كل شيء.
‎الكبر عموما ليس فقط مشي خيلاء أو عُجبا، بل هو ظن المؤمن أحيانا أنه أحاط بالحكمة الإلهية كلها، يوقعه إبليس بذلك فيما وقع فيه حين أُخرج من الجنة.
‎هي حقيقة توصل لها العديد من الناس في لحظات البحث عن المعنى، والتي عموما تكون ليلة عتماء، أن النور لا يُعرف إلا بضده، أليس كذلك؟ يسأم الإنسان فيها من كل فان، فيدعو الله أن يعرّفه إياه وأن يريه الطريق. فيستجيب الله، ولكن ليس على قدر عقولنا الضيقة، بل على قدر رحمته الواسعة، فيهيئ لعبده طريقًا يخرجه بها من الظلمة إلى النور.
‎الطريق الرباني، لا يكون دائما سهلا ومعبدا
‎قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۗ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾. المثقلة هي النفس.
‎يحمل الله تعالى على فُلْكِ عنايته الفقير إليه ويريه من خلال الآية أنه يجب أن يتحمل مسؤولية وجوده في هذا العالم استعدادا للقائه، لكي لا يخرج من الدنيا مثقلا بأعماله السيئة، ويخبره تبارك وتعالى ألا ينتظر من أي قرابة، حتى من زوجه أو ولده أن ينفعوه بشيء. لا ينفعه إلا عمله في الدنيا، عمل نابع من إيمان كامل بالله وقوانينه الغيبية (إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ) وصلاة تُقام ظاهرا وباطنا، وتزكية للنفس وأولها تطهيرها من الكبر، إذ هو أعظم الحُجُب عن الله.
‎في تلك الليلة العتماء، بعد دعاء المؤمن المفتقر إلى الله، يستجيب الله لدعائه فيهدي قلبه أحيانا لشخص من أولئك الناس الربانيين، فتكون أحيانا الحكمة من وجود هذا الشخص هو إرشاد مريد الحق لخبايا تلك النفس التي قد تخفى عنه، ليساعده على تزكيتها من كل شوائبها ليلقى الله بالزاد الخالص والصادق من العمل.
‎الرحلة ربانية مباركة منذ بدايتها، طلبُها كان مباركًا منذ البداية نابعا من صلة بتلك النفخة من روح الله التي تسري في كل مخلوق. يجد المؤمن العناية الربانية بعدها تقوده لشيخ يعلمه خبايا نفسه ليزكيها. يظن المريد أن العارف بالله هو في طريقه ليعلمه كيف يقرأ السطور بعيني رأسه لكنه بالأحرى يعلمه كيف يقرأ كتاب الكون بعيني بصيرته، خدمة منه لكلمة من نور (اقرأ)، وليعلمه أن ينصت بحاسة قلبه، تماما كما أنصت الجن الذي أثنى عليهم نبينا.
‎يحكى أن رجلا قصد شيخا يطلب منه مالًا، فلم يعطه وقال له أنه لا يملك مالا. ثم جاء ثان لا يعلم عن الأمر شيئا فأعطى الشيخَ مالًا، وبعده ثالث طلبَه نفس الطلب فأعطاه الشيخ المال كله. التقى الثالث بالأول، فساء ظن الأول بشيخه. وجود الشيخ المبارك في حد ذاته دون كلام أو تلقين علَّم المريد بعد أن فهم الأمر أن نفسه تخدعه: هل طلبه كان لله حقًا أم للمال؟ أصدقه مع نفسه ومع الناس ناقص لدرجة عكس الأمر حتى على شيخه فشك في صدقه؟ هل فعلا عنده يقين أن الله هو الرازق، لا الشيخ؟
‎في رأيي، وجود الشيخ في حد ذاته تربية، وأحيانا من بركاته أن حتى موته تربية وذكره تربية وخلَفَه ومريديه وحركاته وسكناته تربية.. وأن المؤمن الذي يخاطبه القرآن لا يرى في ذلك كله إلا الله، وتنزهه في خلقه.
‎العارف بالله لم يفتقر فقط لله بل بلغ افتقاره له فناء جعله الله به قناة يهدي بها كل مفتقر له، وكان اصطفاء الله له أحيانا غير مفهوم كما في قصص الأنبياء التي تعطينا فكرة أن الأمر بعيد عن العقل وعن التخطيط وأن كل اصطفاء لنبي له قصة فريدة، كما أن لكل شيخ قصة خاصة..
‎وبمثل هذه العناية يظل المؤمن آمنا في رحلته متمسكا بافتقاره التام لله، صادقا في سلوكه، عاضا على الحق الذي أراه الله إياه حين استجاب له دعوته، كما عضت زمرة الجن اليهودي على دين نبيهم موسى ما يناهز ألفي سنة، وموقنا أن رحلته مباركة مادام وجه الله هو قصده ومادام نبيه محمد ﷺ وما دام صادقا. وأنه هو في هذه الدنيا ليجمع زادا من العمل الصالح وأن الله كريم يسخر له الكون كله يساعده على ذلك إذا صدق. وأن الله تعالى إذا شاء وفرغ له إناء عبد من عباده (هو أعلم به) جعل بإنائه نورا يهتدي به الناس.
‎من واجب كل مؤمن أن يتحمل في الأول والآخر مسؤولية وجوده في هذا العالم ولا يحملها لأحد غيره.