دين بريس ـ سعيد الزياني
تعبر زيارة الملك تشارلز الثالث وزوجته الملكة كاميلا هذه الأيام إلى روما للقاء البابا ليون الرابع عشر عن تحول نوعي في مسار العلاقات بين الكنيسة الأنجليكانية والفاتيكان، بعد قرون من الانقسام الذي بدأ مع الإصلاح الديني في القرن السادس عشر.
وتشهد هذه الزيارة حدثا غير مسبوق منذ أكثر من 500 عام، إذ صلى ملك بريطاني إلى جانب البابا في كابيلة سيستينا، وهو مشهد يرمز إلى طي صفحة الخلافات العقائدية التاريخية بين الكنيستين وفتح باب جديد للتقارب الروحي.
ويعكس القصر الملكي البريطاني من خلال هذه الزيارة رغبة واضحة في ترسيخ الحوار بين التقاليد المسيحية المختلفة، وإعادة تعريف دور الكنيسة في الحياة العامة، في زمن يشهد فيه العالم تراجعا للقيم الدينية وتصاعدا للتيارات المادية.
ويظهر الملك تشارلز الثالث توجها خاصا نحو الجمع بين الإيمان والإنسانية، إذ عرف منذ شبابه باهتمامه العميق بالأديان المختلفة وبالبحث عن المشتركات الروحية التي تجمع بين المؤمنين، وهو ما يفسر اختياره التركيز على “وحدة القيم” بدل “وحدة العقائد”.
ويسعى الملك من خلال هذه الخطوة إلى تعزيز مكانته كرمز وطني جامع يتجاوز الانقسامات المذهبية والسياسية، فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما تبعه من جدل حول هوية الأمة وموقعها في العالم، بدا أن القصر يحاول استعادة التوازن من خلال “الدبلوماسية الروحية”، أي استخدام الرموز الدينية كوسيلة لتجديد الروابط مع أوروبا والعالم المسيحي.
ويعبر الفاتيكان بدوره عن انفتاح غير مسبوق تجاه الكنيسة الأنجليكانية، إذ رأى البابا ليون الرابع عشر في هذه الزيارة فرصة لتأكيد أن المسيحيين، رغم اختلاف مذاهبهم، يشتركون في الإيمان بالرسالة الأخلاقية الجامعة القائمة على الرحمة والعدل والسلام.
وأكد أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين أن هذا اللقاء يمثل “لحظة تاريخية من النعمة”، مشيرا إلى أن التقارب بين الكنائس لا يعني الذوبان العقائدي، بل التعاون في القضايا الإنسانية التي تواجه البشرية.
ويتجسد هذا البعد الإنساني في الحوار الذي دار بين الملك والبابا حول الأزمات العالمية الكبرى، فقد تناول اللقاء قضايا البيئة والمناخ، وسبل تعزيز السلم في الشرق الأوسط، وضرورة حماية الأقليات الدينية وحرية المعتقد.
وعبر البابا عن تقديره لمبادرات الملك في الدفاع عن البيئة باعتبارها مسؤولية أخلاقية مشتركة بين البشر، فيما شدد الملك على دور المؤسسات الدينية في محاربة التطرف والكراهية، مؤكدا أن القيم الدينية يمكن أن تكون رافدا أساسيا في بناء السلام العالمي.
وتثير هذه الزيارة اهتماما خاصا من كون صلاة الملك مع البابا تظهر أن أوروبا، رغم علمانيتها، لا تزال تعتبر الدين جزء من هويتها الحضارية، ويبرز ذلك أهمية الإيمان في تشكيل الأخلاق العامة والسياسات الثقافية، وهو ما يمكن قراءته ضمن إطار أوسع يتعلق بمسؤولية الأديان عن إعادة التوازن الروحي في عالم يعاني من التفكك القيمي.
وتعكس الزيارة كذلك تطورا في المفهوم الغربي للعلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، فبعد قرون من الصراع بين الكنيسة والدولة، باتت العلاقة اليوم أكثر توازنا، قائمة على التعاون في المجالات الأخلاقية والإنسانية دون المساس باستقلال كل طرف، وهذا النموذج الجديد في التفاعل بين الملوك والباباوات يعبر عن نضج في الوعي الديني والسياسي الأوروبي، إذ يُعترف للدين بدوره في تهذيب الضمير الإنساني دون أن يُعاد إلى موقع الهيمنة السياسية.
يمثل لقاء تشارلز الثالث والبابا ليون الرابع عشر أيضا نقطة تحول في النظرة إلى مفهوم “الوحدة المسيحية”، فالمقصود اليوم ليس التوحيد المذهبي بقدر ما هو البحث عن خطاب ديني مشترك يواجه تحديات العصر الحديث: الفردانية المفرطة، النزعات الاستهلاكية، وانحسار الإيمان في المجال العام، وهذا ما يسميه بعض اللاهوتيين “الصحوة الروحية الأوروبية”، أي عودة الوعي بأهمية الدين كعنصر من عناصر الصمود الثقافي في مواجهة التفكك القيمي.
وتطرح هذه الزيارة أيضا بعدا دبلوماسيا ذا حساسية عالية، إذ تزامنت مع تصاعد الحروب والنزاعات في مناطق متعددة من العالم، أبرزها الحرب في غزة، التي تمثل اختبارا حقيقيا لموقف الكنائس الغربية من العدالة الإنسانية.
وقد أشار الملك والبابا إلى ضرورة وقف معاناة المدنيين والعمل من أجل سلام شامل، في موقف إنساني يجد صداه لدى المسلمين الذين يثمنون الدعوات إلى العدالة ورفض العنف ضد الأبرياء.
يعيد هذا الحدث إلى الواجهة سؤال الهوية في أوروبا الحديثة، وهل يمكن للمسيحية أن تلعب دورا في تجديد المعنى الأخلاقي داخل المجتمعات الغربية، فالعلمنة، رغم نجاحها في تحرير السياسة من سلطة الكنيسة، خلفت فراغا روحياً جعل الإنسان الغربي يبحث عن بدائل للقيم الدينية في الفلسفة أو الفردانية أو الاستهلاك.
ويبدو أن القصر الملكي والفاتيكان يدركان هذه الأزمة، ويسعيان إلى تقديم نموذج “إيمان عقلاني” يتوافق مع قيم الحداثة دون أن يفقد جوهره الأخلاقي.
وتؤكد زيارة الملك تشارلز الثالث إلى الفاتيكان أن أوروبا لا تزال في حاجة إلى الروح بقدر حاجتها إلى التنمية، وأن الإيمان ما زال قادرا على بناء الجسور بين الأمم، وفي هذا المعنى، تلتقي رسالة الملك والبابا مع رسالة الإسلام التي تدعو إلى التعارف بين الشعوب ونبذ الكراهية والتعاون على البر والتقوى، وعن إدراك مشترك بأن العالم الحديث يحتاج إلى مرجعية أخلاقية تقيه من الانحدار نحو العدمية.