القرآن الكريم وصَدِّ الخَطَرين
محمد التهامي الحراق
إن العناية بالقرآن الكريم تحتاج منا إلى بذل استثنائي للإصغاء العلمي لخطابه، وتجديد امتلاك علوم القرآن ومناقشة إجرائيتها المعرفية اليوم في ضوء الإبستمولوجيا المعاصرة؛ لتجديد أدوات الاستمداد من الوحي القرآني هنا والآن؛ أي بما يجيب عن أسئلة المؤمن المعاصر بل والإنسان المعاصر.
كثيرة هي المغالطات التي يقع فيها المتحاملون على القرآن الكريم اليوم مصدرها إما عدم اطلاع كاف على علوم القرآن والمعارف التي نشأت من مصدره واستمدادا منه، وإما عدم قدرة على تنسيب عدد من خلاصات تلك العلوم لارتباطها بسياقات القراءة لا بقداسة النص المقروء؛ والذي يبقى مفتوحا على آفاق لا متناهية للفهم والاستمداد وإنشاء المعارف واستخلاص “عجائبه التي لا تنقضي” كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا، وبقدر ما يجب النأي عن تغليطات المتحاملين على القرآن الكريم وتحريفاتهم وتصحيفاتهم، بقدر ما يجب النأي عن المتجمدين على بعض معارف الأجداد، لكونها فهوما بشرية نسبية للنص أضفى تقادم الزمن على بعضها قداسة لا تمتلكها. ومن ثم، نحن إزاء خطرين في التعامل مع القرآن الكريم:
خطر المقاربة التاريخوية التي تتحامل على النص الوحياني باسم التاريخ، فتطعن في جمعه وتدوينه وتناقله ونُسخه، وتسجن معانيه وأحكامه وقيمه في سياق ظهوره التاريخيّ والثقافي بشبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد؛
وخطر المقاربة التقليدانية التي تجمد على حرف النص، أو على المعارف الموروثة التي تشكلت حول النص، مضفية القداسة على تلك المعارف، ومماهية بين قراءتها للنص وبين وحيانيته؛ فيما تلك المعارف هي نتاج حوار عقل بشري نسبي مع النص المطلق الخالد، ومن حقوق النص على مخاطَبيه في كل زمان ومكان أن يحاوروه حسب أسئلتهم ومناهجهم وإحراجاتهم ومعارفهم، وتبعا لإبستميتهم وسقف العقل في عصرهم المعرفي. وهذا، في نظرنا، وهو معنى التجديد الذي يشير إليه حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم القائل: “يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها”.
إن التجديد هنا لا يفيد القطيعة مع مُنجَز الأجداد، بل يفيد التجاوز بما هو أسمى صيغ الوفاء؛ ويعني التجاوز الاستيعاب النقدي أولا ثم الذهاب بذاك المنجَز نحو أفق جديد يستبقي المفيد إجرائيا من ذاك المنجز ويتحرر من أسباب قصوره عن الإجابة عن الأسئلة المستجدة.
من هنا، ضرورة هذا التجديد اليوم في مواجهة الخطرين؛ لأن الخطر التاريخوي يعدم الوحي بانتحال اسم البحث العلمي التاريخي وتوثين صيرورة التاريخ، والثاني يعدمه بانتحال القداسة وتوثين الحرف والماضي وإنكار صيرورة التاريخ. فيما عظمة الوحي القرآني وفرادته لغة وبلاغة ومعرفة وأحكاما وقيما وجمالا وأفقا…هو قدرته المعجزة والخلاقة على تخصيب جدلية الثابت والمتحول، التعالي والتاريخ، الغيب والشهادة، اللا متناهي والمتناهي، الخالد والبائد، المطلق والنسبي، الإلهي والبشري. وكل اقتراب من الوحي القرآني، الوديعة الإلهية الأخيرة في الإنسانية، لا بستوعب هذه الخصيصة القرآنية؛ سيظل مهددا بالوقوع في أحد الخطرين المذكورين؛ ذاك الخطر التاريخوي الذي يشكل شعار المتحاملين على القرآن اليوم باسم صيرورة التاريخ؛ وذاك الخطر التقليداني الذي يشكل شعار المدافعين عن القرآن باسم قداسة جزء من التاريخ.
كلاهما يضيع ما يميز وحيانية النص القرآني؛ الذي استطاع أن يَنزل في التاريخ ويراعي شروطه وحيثياته من كل الوجوه، دون الانسجان به؛ بفضل ما امتلكه من خصائص لغوية وبلاغية ومعرفية وقيمية وروحية وجمالية .. أقدرته أن يكتب تاريخه الخاص الذي يحترم شرائط الصيرورة والنسبية دون أن يفقد قداسته وتعاليه العابرتين للأزمنة والأمكنة والعقول والقلوب.
بوركتم