عبدالله لعماري
قبل ثمان سنوات في مثل هذا اليوم تاسع وعشري شتنبر، رحل عنا إلى دار الرحمة والمغفرة والبقاء، الرجل الذي أعتبره مدرستي الأولى في القيم وفي الدين وفي الوطنية الحقة والمثالية، الرجل الذي أرهقته في حياته محنة وعذابا وعناء، لما تحولت تلك القيم الذي أشربها إياي طفلا إلى وقود لاختيار الطريق الصعب والشاق واللاحب، طريق النضال والكفاح والعمل المضني والمتجرد من أجل وطن تكون فيه الوطنية الخالصة الصادقة هي القيمة السيدة والسائدة والرائدة والمشرقة، و مغرب تنزاح فيه من أرضه جذوع الإقطاعية والإنتهازية والإستغلال والإستعباد والفساد.
رجل القرآن، والذي أذكر أنه ما نسي القرآن حتى وهو في آخر دقائق حياته، إذ وعندما تجمدت الحركة والحياة في جسده، ساعة إحتضاره، ولم يبق له من وسيلة للتواصل والحياة سوى حشرجة الموت، التي كانت تتردد صوتا راتبا في صدره، وكنت على رأسه أقرأ عليه من كتاب الله، فلما أخطأت خطأ في آية من الآيات غير من رتابة الحشرجة بصوت مسموع انتبه إليه جمع الحاضرين، وفهموا قصده، وما إن أصلحت الخطإ حتى عاد إلى تليين صوت حشرجته.
رجل القرآن كان، أذكر أنه خاض معي معركة قاسية من أجل تحفيظي كتاب الله، ولم يقهر تمردي وتمنعي حتى ذكرني بأن سلالة أجداده يحفظون القرآن سلسلة أبا عن جد، ورجاني أن لا أنزع هذه السلسلة من يده وأقطعها في عهده، فكان الحفظ الذي قاد الصبي إلى الدرب المضيء بأنوار التضحيات.
عند وفاته وبعد تشييعه، وكان قد غسله أخي ورفيق الدرب عبدالرحيم مهتاد، أذكر أنه إنتحى بي جانبا وهو في غاية التأثر، فأخبرني أنه غسل أمواتا كثرا، ولايحدث عما يراه، ولكن حالة في الوالد رآها غاية في الغرابة والعجب، أثارته بقوة وملكت عليه نفسه، هو أنه ساعة غسل الوالد كانت قدماه تشعان نورا وبياضا، بشكل مثير وملفت، لم ير معها قط من قبل مثيل هذه الظاهرة، ولشدة ثأثره كان يسأل عن العمل الذي هو سبب ذلك، فأخبرته أن واحدة من الأسباب نعرفها وهو أنه كان مشاء كثيرا في صلة الرحم، يمشي المسافات الطويلة على قدميه في بادية الأهل والأقارب، يزور من يواصله ومن يقاطعه، ولا يتخلى عن الجنائز يحضرها و ويمشي فيها.
والثانية نعرفها جميعا وهو ماأكثر مامشت تلك القدمين في زيارة السجون، وما أكثر ماتورمت وانسلخت وتعبت بالمرابضة وقوفا وإنتظارا مضنيا ومهينا أمام بوابات السجون، تحت لفح الشمس وهجير القيظ، أو تحت شآبيب الأمطار الباردة، طيلة السنوات العشر الطوال من اعتقال الإبن، وما أكثر مارابضت ورابطت تلك القدمين أمام بوابات مخافر الإعتقال والمعتقل السري يترجى صاحبها الأخبار ولا ينالها عن ابنه المعتقل، ويتسقط الٱخبار الشحيحة هنا وهناك، ويسترق السمع دون جدوى، وهو يتشوى بالظنون ماإذا اكان إبنه يتلوى تحت التعذيت أو قد يموت تحت التعذيب، كان ذلك سنوات 1979و1981و 1982و 1983 وكان أيضا سنة 2003 ، في هذه السنة أصبحت القدمان واهنتين ولكنهما كانتا تكابدان الوقوف والقيام والانتظار.
وثالثة الأسباب هي أن تلك القدمين نالتا نصيبهما من التعذيب والسلخ سنوات الإستعمار، حينما إكتشف الجلاوزة الفرنسيون أن الفقيه الوديع البسيط كان ينسق مع الفدائيين ويتخد من كتابه المسيد بكريان سنطرال الذي يتعلم فيه الأطفال نقطة تمرير وتخزين للأسلحة وقفف الرصاص، وكانت له وداعة بالنهار وصولات بالليل.
وأنا أمرر شريط الذكريات التي لا تنتهي، أذكر أن واحدة كانت قاصمة لظهر الوالد رحمه الله، سنة 1978،روكنت قد حصلت على الباكلوريا بامتياز، غير أن تلك الباكلوريا نسختها أضاعتها الإدارة المركزية بالرباط حينما سلمتها لها لإصلاح خطإ طارئ عليها، وأنكرت أنها تسلمتها مني، ولم يجد معهم أسبوعا كاملا من المرابطة أمام هذه الإدارة ومراجعتها الماراطونية لٱحل ذلك، والحل عندهم كان أن أنتظر إلى شهر شتنبر ليقرر مديرهم الأكبر، ومعنى ذلك ضياع فرص التسجيل في المدارس العليا.
يومها بكى الوالد من هذا الواقع المرير للإدارة المغربية، عندها يمم وجهه وأنا معه شطر المركز العام لحزب الإستقلال حيث القيادة العليا للحزب، إستقبلتنا القيادة بحفاوة بالغة وأدب جم، عبدالكريم غلاب رحمه الله والمديرالعام بنشقرون رحمه الله، ودون كثير كلام كان الهاتف يتحرك نحو وزير التربية الوطنية، وكان ديوان الوزير ينتظرنا في دقائق معدودة وتفتح لنا البوابات من دون الناس التي تتراكم من حولها تحت الشمس الحارقة، وكان مدير الديوان والكاتب العام في انتظارنا بكرم بالغ، وفي أقل من ربع ساعة، كانت نسخة الباكلوريا جاهزة وقادمة بجناحين من الإدارة التي أنكرتنا، كنت أتفرج على هذا المغرب العجيب، الذي أنالني حقي في ظرف ساعتين، وكان سيحرمني منه لشهور، ليس هذا هو القصد من هذه الذكرى، ولكن القصد هو أن هاته القيادات العليا للحزب في المركز العام أو في الوزارة كانت تحدثني باحترام وتشجعني على العمل وتفتح لي الٱفاق وتطلب مني الرجوع إليهم في وقت.
في طريق العودة وقد ظفرنا بغرضنا المنشود، فاتحني الوالد رحمه الله في موضوع الإنتماء لحزب الإستقلال وقال لي ها أنت رأيت المغرب بأم عينيك، وها أنت رأيت كيف خاطبك القادة، وهم يريدونك، وفي هذا الحزب ستكسب الإسلام الذي تهتم به والوطنية التي تنشدها وتضمن المستقبل الكريم مع هؤلاء الذين أحبوك، أبديت له رفضي، وكيف أنه لاوجود لمنظومة الأحزاب في عقلي، وكيف أننا سنصنع مغربا آخر، فأجابني بغضب، الشقي لاتنفعه الموعظة، وأنت أخترت طريق الشقاء، والمغرب الذي تبحث عنه ستجده في السجون والمعتقلات وأنا لن أتبعك ولن أعينك في هذه السجون، كان يتقطع من أحشائه على الفرص التي يراها تضيع من يدي، قلت له بمكابرة واستعلاء سأتحمل مسؤولتي.
ومرت الأيام، وانجر المرحوم معي إلى مكابدة ما أصابني، بل إنه أصابه ولفحه في طريقي لهيب الإعتقال ليدل على مكان إختفائي وليرشدهم إلى رفاقي، وتحمل الإعتقال فترة ولم يرشد إلى شيء.
وهذا كان هو دأب كل آباء وأمهات المعتقلين السياسيين إسلاميين ويساريين خلال سنوات الجمر والرصاص، إختار أبناؤهم طريقهم، ووجدوا أنفسهم دون إرادتهم يتحملون ماإختاره الأبناء.
سيرة المرحوم الحاج الجيلالي لاتنقضي أشجانها وشجونها، ماهذا سوى النزر اليسير.
أسأل الله أن يرحمه ويجعله في الفردوس الأعلى في جنات ونهر، هو وكل ٱباء وآمهات المعتقلين السياسيين السابقين وكل الأبرارالأحرار.
Source : https://dinpresse.net/?p=10726
amine bellahkim4 سنوات ago
مقال مؤثر يحكي عن معاناة رجل لازلنا ندكره فنحزن لفراقه…