الفقه: حفظ وفهم واستنباط

15 نوفمبر 2025

ذ. محمد المهدي اقرابش 

عضو أكاديمية نيم الفرنسية وعضو منتدى الإسلام بفرنسا

عضو مؤسس للجامعة الشعبية للأديان بنيم

 

قال الله تعالى: “فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.” الآية 122 سورة التوبة.

و عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “من يُرِدِ الله به خيرا يُفَقِّهْهُ في الدين”. متفق عليه.

لقد ذكر الشرع الحنيف ادلة نقلية سمعية ( ايات واحاديث نبوية شريفة) وعقلية كثيرة تدل على الفقه وأهميته في حياتنا اليومية. والفقه كما هو معلوم، لغةً هو الفهم الدقيق. قال الله تعالى”قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول” الآية 91 سورة هود.

واصطلاحا: معرفة الاحكام الشرعية من حيث الوجوب والنهي والنذب والكراهة والإباحة، وهي عملية و مكتسبة من أدلتها التفصيلية من الكتاب والسنة.

ويطلق عليه تجوزا بالفقه الأصغر أو فقه الفروع. أما العقائد فلنا أن نسميها بالفقه الأكبر، كما ذهب إلى ذلك الإمام التابعي ابو حنيفة النعمان. وكذلك الامام الشافعي المطلبي في كتابه “الكوكب الأزهر في شرح الفقه الأكبر”. وقد ذكر الإمام ابو حنيفة تعريفا جامعا ومانعا للفقه، فقال: الفقه هو ان تعرف النفس مالها وما عليها.

إن الفقه -الذي يعني الفهم الدقيق- يستلزم ذهنا حاضرا ووقادا، كما كان عليه حال أسلافنا العلماء الذين نبغوا ومهروا في المنقولات والمعقولات! ففقيه الأمس كالفقيه القانوني اليوم الذي يدرس القوانين والاجتهادات القانونية الصادرة عن المحاكم خاصة محاكم الاستئناف ومجلس النقض الخ..

لقد كان الفقهاء في ما مضى وبعضهم في عصرنا وهم قلة يتميزون بعقل ذكي واع وفطن مدركين أن الفقه الإسلامي واقعي معمول به في جميع مجالات الحياة.

إن عمل الفقيه مرتكز على ثنائية الأخذ بالدليل ومراعاة التنزيل،أي ربط الواقع بالاجتهاد اضطرادا. وبمعنى آخر فإننا نقول: إن الصناعة الفقهية تقتضي ربط دلائل الحكم بالواقع، وهذه الدلائل إما أن تكون تفصيلية وهي في غالبها ظنية او إجمالية تكون محل اختصاص الفقهاء الأصوليين.

إن الأخذ بالدليل ومراعاة التنزيل لا يتحققان إلا من خلال الاجتهاد في السبر والتقسيم أو بمعنى آخر من خلال تحقيق وتنقيح وتخريج المناط. وهنا أستحضر توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن، فقال له : “كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟” قال: أقضي بكتاب الله، قال: “فإن لم تجد في كتاب الله؟”، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟” قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله”. ليس إسناده بمتصل، سنن أبي داود وجامع الترمذي.

ان الاجتهاد ينصب أساسا في فهم الدليل وتنزيله على الواقع عن طريق السبر والتقسيم أي بمعنى البحث في علة أو سبب الحكم وهو الذي يعرف عند الفقهاء بتحقيق المناط أو تنقيحه أو تخريجه.

و المناط معناه لغة الشيء الذي يعلق شيء آخر كالمشجب . أما في الشرع، فهو الوصف الذي يناط به الحكم ومن معاني الوصف العلةأو بعبارة أخرى مُتَعَلَّقُ الحكم وتنزيله أي علة الحكم.

وكما هو معلوم فإن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.

يعبر الفقهاء القانونيون الفرنسيون عنها في القانون الوضعي بقولهم:

Raison justifiant et lien de causalité entre la cause et ses conséquences.

لقد ذكر الفقهاء في معرض كلامهم عن تحقيق المناط العلة المستخرجة من الحكم الشرعي ظنا و اجتهادا و السبب المنضبط الواضح نصا أو ووضعا ككون دخول الوقت سببا في صحة الصلاة المفروضة والحكمة التي قد تظهر في فهمنا للحكم الشرعي وقد تخفى إذا كانت العبادة غير معقولة المعنى.

إن عمليات تخريج المناط وتنقيحه وتحقيقه مترابطة في ما بينها ويقع بينها التأثير والتأثر.

-فأما تخريج المناط فيكون عند وجود حكم شرعي منصوص دون بيان علته. فيحاول الباحث استخراج علة الحكم المنصوص في الآية أوالحديث النبوي الشريف. فقد استخرج الفقهاء مثلا العلة من تحريم الخمر فقالوا بالإسكار ومخامرة العقل وتغييبه.

وأما تنقيح المناط فيكون بتخليص مناط الحكم من الأوصاف الجانبية والثانوية التي لا تُعَلِّلُ الحكم ولا تؤثر فيه وقد ساق الفقهاء على ذلك مثال الأعرابي، الذي أتى أهله في رمضان فقال هلكت يارسول الله (صلى الله عليه وسلم)فتنقيح المناط هنا يكون بالطريقة الآتية :

– صفة “الأعرابي” لا تأثير لها على علة حكم الكفارة.

– قوله: “هلكت يارسول الله صلى الله عليه وسلم” لا تأثير له على علة حكم الكفارة.

– جماعه في نهار رمضان متعمدا هو سبب و علة الحكم بالكفارة.

وعليه فإن تنقيح المناط في هذه الواقعة يكون باستبقاء الوصف والسبب المتعلق بتعليل الحكم وهو: أنه جامع في نهار رمضان متعمدا. أما الأوصاف الأخرى( كونه أعرابيا، خوفه، قوله:هلكت، جماعه في رمضان دون تعيين ظرف زمان الذي هو نهار رمضان و العمد) فإنها تقصى ولا تؤخذ بعين الاعتبار في بيان علة الحكم بالكفارة. والمالكية والأحناف قد نقحوا المناط بمزيد من الاجتهاد في هذه الواقعة فحذفوا اختصاص الجماع بالكفارة وإنما اعتبروا الإفطار العمد مطلقا مسبب موجب للكفارة. فإذا أكل المسلم أوشرب أو وطئ عامدا في نهار رمضان فإنه يقضي ويلزم بالكفارة. لأن تعريف الصوم هو الإمساك عن الشهوتين من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد.

 

-تحقيق المناط: هو تنزيل الدليل أي الحكم الشرعي على النازلة أو الواقعة لعلة سواء ثبتت بنص أو إجماع أو استنباط. مثاله أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى كل صحابي بمايناسبه ويوافق حالته فقال لأحدهم “لا تغضب” وقال للآخر: “قل آمنت بالله ثم استقم ” و مثاله أيضا تحقيق مناط الزواج وتكييف حكمه حسب حالة الشخص : مباح لمن أمن على نفسه من الفتنة وواجب على من خاف الفتنة وحرام على من به داء جنسي ومرض معدي وسنة للآمن على نفسه ومكروه لغير القادر على الزواج.

والمناطات متعددة ومتنوعة نذكر منها: المناط المستمر أو بعبارة أخرى مناط الأجناس باعتبار أنهم مخاطبون بالتكليف. نتعرف على مناط الأجناس أو المناط المستمر عند عبارة “ياايها الناس..”او “ياايها الذين امنوا..”أو “يابني آدم..”. فيدخل المكلفون جماعات وفرادى في الخطاب.

وهناك مناط منقطع أو مناط أشخاص، وهو متعلق بشخص معين في ظرفية معينة انتهت وزالت. فمثلا في سورة القصص يقول الله تعالى: “وأوحينا إلى أمّ موسى ان ارضعيه” الآية 7 سورة القصص. فمناط الأشخاص هنا هو أم موسى ولم يعد لأمّ موسى وجود في الدنيا. وعليه فالمناط منقطع ولكن الرضاع هو مناط مستمرو غير منقطع لكل مرضعة.

وهناك المناط المتردد الذي يعني توجيه الأحكام الشرعية وفقا لحال الشخص.فالصلاة تتردد بين الإتمام والقصر بحسب حال الشخص إن كان مسافرا أو غير ذلك. والتيمم بحسب وجود الماء او انعدامه أو مشقة استعماله أو قلته الخ..

قد ينتج عن الاندماج المطلوب في المجتمعات المعاصرة بتغيراتها وظروفها خاصة في الغرب نوع من التنازع بين الفقه الإسلامي والقوانين الصادرة عن البرلمانات والمجالس النيابية. ولا شك في أن المسلم ملزم باحترام قوانين البلد وتشريعاته بل الانخراط في التشريع على مستوى البرلمانات والبلديات وغيرها من المؤسسات. ومن رحمة الله بنا أنه جعل من كمال الشرع انتظامه للكليات أما الجزئيات والفروع فالعقل الفقهي مطالب بالاجتهاد فيها. و يكون هذا الاجتهاد ضمن نطاق الكليات والمبادئ العامة للدين لأن نصوص الشرع متناهية والحوادث غير متناهية. ومايتناهى لايحصي ما لايتناهى.

إن مناط ( أي العلل والأسباب) الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لها أثر في توجيه الاحكام الشرعية. و فقه المآلات أو فقه النتائج (conséquences) مؤثر على الحكم الشرعي.

ويظهر هذا جليا في قول الله تعالى: “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم”. الآية 108 سورةالأنعام.

الفقيه الحصيف يأخذ بالميسور و لا يتركه بسبب المعسور. و قد يراعي الخلاف في مسألة آخذا برأي فقهي لمذهب المخالف تيسيرا وتحقيقا لمصلحة معتبرة و راجحة، وهو أصل عظيم من أصول المذهب المالكي.

و قد يأخذ الفقيه بالأحوط و سد الذريعة أو فتحها استنادا للقاعدة الفقهية: “وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.

رحم الله الإمام ابن القيم الذي بَيَّنَ تحقيق المناطات في قوله: إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والنيات”.

ولدينا بحمد الله في فرنسا نخبة من الفقهاء حصلوا على زاد معرفي وتطبيقي للأخذ بالدليل ومراعاة التنزيل ولكنهم قلة. فحبذا لو اجتمعوا في مجامع فقهية للعمل الجماعي و المؤسساتي بدل الاجتهاد الفردي الذي قد يجنح إلى يمين أو يسار بدل ان يلتزم الوسط.

إن خير الأمور اوسطها ولا يتأتى إعمال النظر في مسائل بلاد الغرب إلا لمن درس الفقه وأصوله وكلام العرب والمنطق واستأنس بالعلوم الإنسانية الغربية لفهم العصر والواقع والمجتمع. وينبغي أن يعيش الفقيه بين ظهراني من يفتيهم. هذا إلى جانب تعلم اللغة و في هذا السياق يتبادر سؤال فلسفي حول اللغة والفكر . هل هما متساوقان او يسبق أحدهما الآخر؟ لأن اللغة حاملة لفكر وذوق واختيارات مجتمعية قد تختلف من بيئة إلى أخرى. وصدق الله العظيم إذ يقول “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم” الآية 4 سورة إبراهيم.

يجب على الفقيه أن يكون مشاركا في القانون و عالما بالضوابط الدينية والثقافية التي تعين على التمييز بين الديني والثقافي.

فالضابط الديني يُفْهَمُ منه ورود دليل نقلي وعقلي على عمل ثابت مشروط بنية التعبد و غير خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم كالوصال في الصوم مثلا او خاص بغيره صلى الله عليه وسلم.

أما الضابط الثقافي،فهو ان يختلف العمل باختلاف الأقوام والمجتمعات، كاللباس إذ نجد مثلا الطربوش وجلابة في المغرب والغترة والمشالح في المشرق والبذلة وربطة العنق بالغرب وهكذا.. فلا وجه للتعبد في اللباس ولكن عادة الناس هي المُحَكَّمة بشرط أن لا تكون فاسدة عقلا وشرعا. والموقف هذا يأخذه المسلم في حق نفسه باعتبار دينه دون أن يفرضه على الآخر آخذا بعين الاعتبار النظام العام وقوانين البلد.

وختاما أقول: إن المسلم يحتاج في حياته إلى الفقه والفهم الدقيق عن الله ورسوله. والفقيه هو الطبيب الحاذق والماهر في في الفقه. فهو طب للبدن و النفس و لا يكون صلاحهما إلا به

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب” متفق عليه.

ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.

والحمد لله أولا وآخرا.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...