12 يونيو 2025 / 10:14

الفقه: تحكيم للنص الشرعي…الأيديولوجيا تحكم فيه

يوسف حميتو

مدخل تأسيسي في جدلية النص والتأويل

تنطوي العلاقة بين النص الشرعي والممارسة الاجتهادية على توتر معرفي عميق يكشف عن طبيعة الوعي الديني ذاته في تعامله مع المقدس. هذا التوتر ليس مجرد إشكال منهجي عابر، بل يمثل نقطة التماس الحاسمة بين المطلق والنسبي، بين الثابت الإلهي والمتحرك البشري، بين سلطة النص وسلطة المؤول. ومن هذه النقطة تحديداً تنبثق الإشكالية الجوهرية التالية: كيف يتحول الفقه من كونه تحكيماً للنص إلى كونه تحكماً فيه؟ وما الآليات التي تمكن الأيديولوجيا من اختراق الحقل الفقهي وإعادة تشكيله وفق مقتضياتها؟

إن هذا التساؤل يقودنا بالضرورة إلى استكشاف الطبيعة المزدوجة للعملية الاجتهادية، التي تقوم في جوهرها على معادلة دقيقة بين الخضوع للنص والفعل فيه. فالمجتهد، من جهة، مطالب بالانقياد التام لسلطان الدليل الشرعي، ومن جهة أخرى، مدعو لإعمال عقله في فهم هذا الدليل واستنباط الأحكام منه. هي معادلة في توازنها الدقيق، تشكل جوهر المنهج الفقهي الأصيل، لكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها إمكانية الانحراف عن هذا التوازن، سواء باتجاه الجمود المطلق أو باتجاه التحرر المطلق من سلطة النص.

غير أن الخطر الأعظم على هذا التوازن لا يأتي من هذين الطرفين المتقابلين، بل من تسلل عنصر ثالث إلى المعادلة: الأيديولوجيا. فعندما تتدخل الأيديولوجيا في العملية الاجتهادية، فإنها لا تكتفي بالتأثير على طريقة فهم النص أو تطبيقه، بل تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة ذاتها بين المتعامل مع النص والنص، بحيث يصبح النص خاضعاً للأيديولوجيا بدلاً من أن تكون الأيديولوجيا خاضعة للنص. هنا تحديداً يكمن الفارق الجوهري بين التحكيم والتحكم، بين الاجتهاد الأصيل والتوظيف الأيديولوجي.

تحديد المصطلحات وضبط المعاني

لا يمكن الولوج في تحليل هذه الإشكالية دون ضبط دقيق للمفاهيم الأساسية التي تشكل عمودها الفقري. فالمصطلحات في هذا السياق ليست مجرد أدوات لغوية محايدة، بل هي حاملة لرؤى معرفية ومنهجية محددة، وأي التباس في فهمها يؤدي بالضرورة إلى التباس في النتائج المترتبة عليها.

يأتي مفهوم “التحكيم” في المقدمة، باعتباره المفهوم المحوري الذي يحدد طبيعة العلاقة السليمة بين المتعامل مع النص والنص. التحكيم، في جوهره، يعني الإذعان الواعي والمنهجي لسلطة النص الشرعي، بحيث يصبح هذا النص هو المرجع الأعلى والحاكم النهائي في العملية الاجتهادية. غير أن هذا الإذعان لا يعني الخضوع الأعمى أو التسليم المطلق، بل يعني التسليم المنهجي الذي يقوم على قواعد علمية محددة وضوابط معرفية دقيقة. إنه إذعان العارف لا إذعان الجاهل، إذعان من يدرك حدود عقله أمام الحكمة الإلهية، لا إذعان من يلغي عقله كلياً.

هذا المفهوم للتحكيم يقودنا بالضرورة إلى مفهوم مقابل هو “التحكم”، الذي يمثل النقيض المعرفي والمنهجي للتحكيم. التحكم يعني إخضاع النص لرؤية مسبقة أو أجندة محددة، بحيث يصبح النص مجرد أداة لتبرير هذه الرؤية أو خدمة هذه الأجندة، وفي هذه الحالة، تنقلب المعادلة الأساسية للاجتهاد، فبدلاً من أن يكون النص هو الحاكم والمتعامل مع النص هو المحكوم، يصبح المتعامل مع النص (أو الأيديولوجيا التي يحملها) هو الحاكم والنص هو المحكوم، وهذا الانقلاب ليس مجرد تغيير في الأولويات والمواقع، بل هو تغيير جذري في طبيعة العملية المعرفية ذاتها.

أما مفهوم “الأيديولوجيا” فيحتاج إلى تحديد أكثر دقة، نظراً لتعدد استخداماته وتنوع دلالاته في السياقات المختلفة. الأيديولوجيا، في السياق الذي نتحدث عنه، تعني النسق الفكري المغلق الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة ويسعى لإخضاع جميع المعارف والنصوص بتفسيراتها وتأويلاتها لرؤيته الخاصة.

هذا النسق يتميز بخصائص محددة:

– الإطلاقية في الادعاء.

– الشمولية في التفسير.

– الإقصائية في التعامل مع الآخر.

– الأداتية في التعامل مع النصوص.

هذه الخصائص تجعل الأيديولوجيا، بطبيعتها، نقيضاً للمنهج العلمي الذي يقوم على التواضع المعرفي والانفتاح على النقد والمراجعة.

لكن الأيديولوجيا لا تعلن عن نفسها صراحة كأيديولوجيا، بل تتخفى وراء أقنعة مختلفة: قناع العلم، قناع الدين، قناع الأصالة، قناع التجديد. هذه الأنماط من التخفي يكون كشفها أمراً معقداً يتطلب أدوات تحليلية دقيقة وحساسية معرفية عالية. فالأيديولوجيا الدينية على سبيل المثال، لا تقدم نفسها كأيديولوجيا، بل كتفسير صحيح للدين، ولا تعلن عن سعيها للهيمنة على النصوص، بل تدعي خدمتها والدفاع عنها.

من هنا تأتي أهمية مفهوم “احتكار المفاهيم الشرعية”، ولنكن أقل حدة ولنقل: احتكار تفسير المفاهيم الشرعية، الذي يمثل إحدى أخطر آليات الهيمنة الأيديولوجية على الحقل الديني. هذا الاحتكار لا يعني منع الآخرين من استخدام المفاهيم الشرعية، بل يعني ادعاء امتلاك التفسير الوحيد الصحيح لهذه المفاهيم، ورفض أي تفسيرات أخرى باعتبارها خاطئة أو منحرفة، وتحقيق ذذلك يتم عبر آليات متعددة ومتطورة، تبدأ بإعادة تعريف المفاهيم وتنتهي بإقصاء المخالفين، مروراً بالتلاعب بالمعاني والسياقات.

الأسس النظرية: في فلسفة العلاقة بين النص والمؤول

إن فهم الآليات التي تحكم العلاقة بين النص والمؤول يتطلب العودة إلى الأسس النظرية التي تحكم هذه العلاقة. هذه الأسس ليست مجرد افتراضات فلسفية مجردة، بل هي المبادئ العملية التي توجه الممارسة الاجتهادية وتحدد مسارها. ومن هنا تأتي أهمية استكشاف هذه الأسس وتحليلها، لأن أي خلل فيها ينعكس بالضرورة على الممارسة العملية.

الأساس الأول يتعلق بطبيعة النص الشرعي ذاته. النص الشرعي، في التصور الإسلامي، ليس مجرد نص بشري قابل للتفسير والتأويل وفق الأهواء والميول، بل هو نص إلهي يحمل في طياته الحكمة المطلقة والهداية الكاملة. هذا التصور يفرض على المتعامل مع النص موقفاً معرفياً محدداً: موقف التسليم والانقياد، لا موقف الهيمنة والتحكم. لكن هذا التسليم ليس تسليماً أعمى، بل تسليم واع يقوم على الإيمان بأن النص يحمل من الحكمة ما يفوق إدراك العقل البشري المحدود.

هذا الأساس يقودنا إلى أساس ثان، يتعلق بطبيعة العقل البشري وحدوده. العقل البشري، مهما بلغ من الذكاء والعلم، يبقى محدوداً في إدراكه وقاصراً في فهمه. هذا القصور ليس عيباً في العقل، بل هو طبيعته الأصلية التي تفرض عليه التواضع أمام النص الإلهي دون أن يعني ذلك إلغاء دور العقل، بل يعني توجيهه نحو فهم النص وتطبيقه، لا نحو الحكم عليه أو تعديله. إنه تواضع الأداة أمام الغاية، تواضع الوسيلة أمام المقصد.

الأساس الثالث يتعلق بالغاية من التعامل مع النص. الغاية الأساسية من الاجتهاد الفقهي ليست إثبات صحة رأي مسبق أو خدمة أجندة محددة، بل هي الوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح الذي يحقق مقاصد الشريعة ويخدم مصالح العباد، وهو ما يفرض على المتعامل مع النص موقفاً أخلاقياً محدداً: موقف الباحث عن الحق، لا موقف المدافع عن الرأي. إنها غاية تتطلب الأمانة العلمية والنزاهة المعرفية والاستعداد لتغيير الرأي إذا ظهر دليل أقوى.

هذه الأسس الثلاثة تشكل، في تفاعلها وتكاملها، الإطار النظري للتحكيم السليم. لكن هذا الإطار يواجه تحديات جدية من قبل الأيديولوجيا التي تسعى لإعادة تعريف هذه الأسس وفق مقتضياتها الخاصة. فالأيديولوجيا تعيد تعريف النص ليصبح مجرد مادة خام قابلة للتشكيل وفق الحاجة، وتعيد تعريف العقل ليصبح الحاكم الأعلى على النص، وتعيد تعريف الغاية لتصبح خدمة الأيديولوجيا بدلاً من خدمة الحق.

في طبيعة التحكيم: من الخضوع إلى الفهم

إن الحديث عن التحكيم في السياق الفقهي يستدعي بالضرورة العودة إلى الجذور المعرفية التي تؤسس لهذا المفهوم وتحدد مساره. فالتحكيم ليس مجرد موقف عملي من النص، بل هو موقف وجودي شامل يحدد طبيعة العلاقة بين الإنسان والوحي، بين العقل المحدود والحكمة المطلقة، وذلك انطلاقا من إدراك عميق لطبيعة النص الشرعي باعتباره حاملاً للحقيقة الإلهية التي تتجاوز حدود الإدراك البشري، ومن ثم فإن التعامل معه يتطلب نوعاً خاصاً من التواضع المعرفي الذي يجعل المتعامل مع النص في موقف المتلقي لا المرسل، في موقف الباحث عن الحق لا المدعي لامتلاكه.

هذا التواضع المعرفي لا يعني -كما قد يُتوهم- إلغاء دور العقل أو تعطيل آلياته، بل يعني توجيه هذا العقل نحو وظيفته الأصلية في فهم النص واستنباط الأحكام منه. إنه تواضع الأداة أمام الغاية، تواضع الوسيلة أمام المقصد. فالعقل، في هذا السياق، يصبح خادماً للنص لا حاكماً عليه، مفسراً له لا مشرعاً بديلاً عنه. هذا التوجه يفرض على العملية الاجتهادية منطقاً خاصاً يبدأ من النص وينتهي إليه، يستمد منه مشروعيته ويعود إليه للتحقق من صحة نتائجه.

لكن هذا المنطق يواجه تحدياً جوهرياً يكمن في طبيعة اللغة ذاتها باعتبارها الوسيط الذي يحمل النص إلى المتلقي. فاللغة، مهما بلغت من الدقة والوضوح، تحمل في طياتها إمكانيات متعددة للفهم والتأويل، وهذا ما يفتح المجال أمام تدخل العقل البشري في عملية استخراج المعنى. هنا تحديداً تكمن النقطة الحرجة التي يمكن أن تتحول فيها العملية الاجتهادية من تحكيم للنص إلى تحكم فيه، من خدمة للمعنى إلى توظيف له.

إن إدراك هذا التحدي هو الذي دفع علماء الأصول إلى وضع ضوابط دقيقة للعملية الاجتهادية تضمن بقاءها في إطارها الصحيح. هذه الضوابط لا تهدف إلى تقييد العقل أو منعه من الاجتهاد، بل تهدف إلى توجيهه نحو الفهم الصحيح للنص وحمايته من الانحراف عن مقاصده. إنها ضوابط تنطلق من فهم عميق لطبيعة العلاقة بين النص والمؤول، وتسعى لضمان أن تبقى هذه العلاقة علاقة تحكيم لا تحكم.

في طبيعة الهيمنة الأيديولوجية: من الإقناع إلى الإخضاع

إن فهم كيفية تحول الفقه من تحكيم للنص إلى تحكم فيه يتطلب بالضرورة فهم طبيعة الأيديولوجيا وآليات عملها. فالأيديولوجيا ليست مجرد مجموعة من الأفكار أو الآراء، بل هي نسق فكري متكامل يسعى للهيمنة على الوعي والسلوك الإنساني. هذا النسق يتميز بخصائص محددة تجعله قادراً على اختراق المجالات المختلفة، بما في ذلك المجال الديني، وإعادة تشكيلها وفق مقتضياته الخاصة.

تقوم الأيديولوجيا، في جوهرها، على ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة والتفسير الشامل للواقع. هذا الادعاء يجعلها تنظر إلى نفسها ليس كرؤية من بين رؤى متعددة، بل كالرؤية الوحيدة الصحيحة التي يجب على الجميع تبنيها. هذا الموقف الإطلاقي يدفعها بالضرورة إلى السعي لإخضاع جميع المعارف والنصوص لرؤيتها، بما في ذلك النصوص الدينية. فالأيديولوجيا لا تقبل وجود مصادر للحقيقة خارج إطارها، ومن ثم فهي تسعى لإعادة تفسير هذه المصادر بما يتوافق مع رؤيتها أو إقصائها كلياً إذا تعذر ذلك.

هذا السعي للهيمنة لا يتم بطريقة مباشرة وصريحة، بل يتم عبر آليات خفية ومتدرجة تجعل عملية الاختراق تبدو طبيعية ومقبولة. فالأيديولوجيا تدرك أن الهجوم المباشر على النصوص الدينية سيثير مقاومة شديدة من قبل المؤمنين، ومن ثم فهي تلجأ إلى استراتيجيات أكثر دهاء وخفاء. إنها تبدأ بالتسلل إلى عملية التفسير والتأويل، وتعيد تعريف المفاهيم تدريجياً، وتحول المعاني شيئاً فشيئاً، حتى تصبح النصوص الدينية حاملة لمضامين أيديولوجية دون أن يشعر المتلقي بهذا التحول التدريجي الذي يجعل الأيديولوجيا خطيرة جداً على النصوص الدينية.

آليات الاختراق: من التسلل إلى الهيمنة

إن عملية اختراق الأيديولوجيا للحقل الفقهي لا تتم دفعة واحدة، بل تمر بمراحل متدرجة ومتداخلة، كل مرحلة تمهد للتي تليها وتعمق من تأثيرها. تبدأ المرحلة الأولى بما يمكن تسميته “التسلل المفاهيمي”، حيث تبدأ الأيديولوجيا بإعادة تعريف بعض المفاهيم الشرعية بطريقة خفية ومتدرجة. هذه الإعادة لا تتم بشكل صريح ومباشر، بل تتم من خلال التركيز على جوانب معينة من المفهوم وإهمال جوانب أخرى، أو من خلال ربط المفهوم بسياقات جديدة تغير من دلالته تدريجياً. هذا التسلل يستغل ثراء المفاهيم الشرعية وتعدد أبعادها، فيركز على البعد الذي يخدم الأيديولوجيا ويهمل الأبعاد الأخرى.

وتأتي المرحلة الثانية لتعمق من هذا التسلل من خلال ما يمكن تسميته “الانتقائية المنهجية”. في هذه المرحلة، تبدأ الأيديولوجيا بالتعامل مع النصوص الشرعية بطريقة انتقائية، حيث تختار النصوص التي تدعم رؤيتها وتتجاهل النصوص التي تعارضها. انتقائية لا تتم بشكل فج ومكشوف، بل تتم من خلال التركيز على نصوص معينة وإعطائها أهمية مفرطة، أو من خلال تأويل النصوص المعارضة بطريقة تجعلها تبدو متوافقة مع الرؤية الأيديولوجية.

أما المرحلة الثالثة فتتمثل في “التأويل القسري”، حيث تبدأ الأيديولوجيا بتأويل النصوص بطريقة تجعلها تخدم أغراضها، حتى لو كان بعيداً عن المعنى الظاهر للنص. هذا التأويل يتم من خلال استخدام أساليب لغوية معقدة ومتكلفة تبرر الوصول إلى المعنى المطلوب. إنه تأويل يقلب المعادلة الأساسية للاجتهاد، فبدلاً من أن يكون النص هو الذي يحدد المعنى، يصبح المعنى المطلوب هو الذي يحدد كيفية تأويل النص.

وتصل العملية إلى ذروتها في المرحلة الرابعة، وهي مرحلة “الاحتكار المفاهيمي”، حيث تدعي الأيديولوجيا امتلاك التفسير الصحيح والوحيد للمفاهيم الشرعية، وترفض أي تفسيرات أخرى باعتبارها خاطئة أو منحرفة. في هذه المرحلة، تصبح المفاهيم الشرعية أسيرة للأيديولوجيا، وتفقد قدرتها على التطور والتجديد. إنها مرحلة الهيمنة الكاملة، حيث تصبح الأيديولوجيا هي المرجع الأعلى في تحديد معاني النصوص وتفسيرها.

المعايير التشخيصية للتمييز بين التحكيم والتحكم

إن التمييز بين التحكيم والتحكم ليس مجرد تمرين أكاديمي نظري، بل هو ضرورة عملية ملحة لحماية الفقه الإسلامي من الانحرافات الأيديولوجية. هذا التمييز يتطلب وضع معايير دقيقة وواضحة تمكن من كشف الفروق الجوهرية بين المنهجين، وتحديد نقاط التحول من أحدهما إلى الآخر. هذه المعايير لا يمكن أن تكون معايير شكلية سطحية، بل يجب أن تنفذ إلى عمق العملية المعرفية وتكشف عن الافتراضات الأساسية التي تحكمها.

يأتي في مقدمة هذه المعايير معيار “اتجاه الحركة المعرفية”، الذي يحدد ما إذا كانت العملية الاجتهادية تنطلق من النص نحو الحكم أم من الحكم المسبق نحو النص. في التحكيم السليم، تبدأ العملية المعرفية من النص وتنتهي إلى الحكم، حيث يكون النص هو نقطة الانطلاق والمرجع الأساسي في تحديد الحكم. أما في التحكم الأيديولوجي، فإن العملية تبدأ من حكم مسبق أو رؤية أيديولوجية محددة، وتسعى للعثور على ما يدعمها في النصوص.

ويأتي معيار “طبيعة العلاقة مع الدليل” ليضيف بعداً آخر إلى عملية التمييز. في التحكيم السليم، يخضع المتعامل مع النص للدليل الشرعي ويبني اجتهاده عليه، حتى لو كان هذا الاجتهاد مخالفاً لرأيه الشخصي أو توجهه الفكري. إن هذا الخضوع يعكس التواضع المعرفي والأمانة العلمية التي تجعل المتعامل مع النص يقدم الحق على الهوى. أما في التحكم الأيديولوجي، فإن المتعامل مع النص يسعى لإخضاع الدليل لرؤيته المسبقة، ويؤوله بما يتوافق مع أيديولوجيته.

أما معيار “الموقف من التعدد والاختلاف” فيكشف عن جانب مهم من جوانب العملية الاجتهادية. التحكيم السليم يقر بوجود اجتهادات متعددة ومشروعة في المسائل الاجتهادية، ويحترم هذا التعدد باعتباره ثراء في الفهم وليس تشتتاً في الحق. إن هذا الإقرار ينطلق من إدراك أن النصوص الظنية الدلالة تحتمل أكثر من فهم، وأن العقل البشري محدود في إدراكه. أما التحكم الأيديولوجي فيرفض هذا التعدد ويدعي امتلاك الفهم الصحيح الوحيد، ويعتبر أي اجتهادات أخرى انحرافاً عن الحق.

ويأتي معيار “القابلية للمراجعة والتطوير” ليضيف بعداً زمنياً إلى عملية التمييز. التحكيم السليم يتسم بالتواضع المعرفي والاستعداد لمراجعة الاجتهاد في ضوء أدلة جديدة أو فهم أعمق للنص. إن هذا الاستعداد ينطلق من إدراك أن الاجتهاد البشري قابل للخطأ والصواب، وأن الحقيقة أكبر من أي فهم بشري محدود. أما التحكم الأيديولوجي فيتسم بالإطلاقية ورفض أي مراجعة أو نقد، ويعتبر اجتهاداته حقائق مطلقة لا تقبل التغيير.

علامات التحول: من التحكيم إلى التحكم

إن عملية التحول من التحكيم إلى التحكم لا تحدث فجأة، بل تمر بمراحل تدريجية يمكن رصدها وتحليلها. هذا الرصد ضروري لفهم كيفية حدوث هذا التحول والعوامل التي تساهم فيه، وبالتالي وضع آليات للوقاية منه أو إيقافه في مراحله الأولى.

تبدأ العلامات الأولى للتحول بظهور ما يمكن تسميته “التحيز التفسيري”، حيث يبدأ المتعامل مع النص بإظهار تفضيل واضح لتفسيرات معينة دون مبرر علمي قوي. هذا التحيز قد يكون في البداية خفياً وغير واضح، لكنه يتزايد تدريجياً حتى يصبح نمطاً ثابتاً في التعامل مع النصوص. إن هذا التحيز يعكس بداية تدخل عوامل خارجية في العملية الاجتهادية، سواء كانت هذه العوامل أيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية. هذه العلامة تتطلب حساسية عالية لرصدها، لأنها قد تختفي وراء مبررات علمية ظاهرية.

وتتطور العلامات لتشمل “الانتقائية المنهجية”، حيث يبدأ المتعامل مع النص بالتعامل مع النصوص بطريقة انتقائية واضحة، يختار منها ما يدعم رؤيته ويتجاهل ما يعارضها. هذه الانتقائية تتجاوز مجرد التفضيل إلى الإقصاء الواضح لبعض النصوص أو التقليل من أهميتها دون مبرر علمي مقنع. إن هذه العلامة تكشف عن تحول جوهري في طبيعة العلاقة مع النص، حيث يصبح النص خاضعاً لمعايير خارجية بدلاً من أن يكون هو المعيار الأساسي.

أما العلامة الثالثة فتتمثل في “التأويل المتكلف”، حيث يبدأ المتعامل مع النص بتأويل النصوص بطريقة متكلفة وبعيدة عن المعنى الظاهر لتجعلها تتوافق مع رؤيته المسبقة. هذا التأويل يتجاوز حدود المعقول والمقبول في التفسير، ويلجأ إلى أساليب لغوية معقدة ومتكلفة لتبرير الوصول إلى المعنى المطلوب.

وتصل العلامات إلى ذروتها في “ادعاء الاحتكار”، حيث يبدأ المتعامل مع النص بادعاء امتلاك التفسير الصحيح الوحيد للنصوص، ورفض أي تفسيرات أخرى باعتبارها خاطئة أو منحرفة. هذا الادعاء يتجاوز مجرد الثقة في الرأي إلى ادعاء العصمة والإطلاقية. إن هذه العلامة تكشف عن اكتمال عملية التحول من التحكيم إلى التحكم، حيث يصبح المتعامل مع النص هو المرجع الأعلى في تحديد معاني النصوص بدلاً من أن تكون النصوص هي المرجع الأعلى.

خاتمة: استعادة التوازن المفقود

إن الرحلة التحليلية التي قطعناها عبر تضاريس العلاقة المعقدة بين النص الشرعي والممارسة الاجتهادية تكشف لنا عن حقيقة جوهرية مفادها أن هذه العلاقة تمثل نقطة التوازن الحاسمة في البنية المعرفية للفكر الإسلامي. هذا التوازن، الذي يتجسد في مبدأ التحكيم، ليس مجرد موقف منهجي تقني، بل هو موقف وجودي شامل يحدد طبيعة الوعي الديني ومساره. ومن هنا تأتي خطورة أي اختلال في هذا التوازن، لأنه لا يؤثر فقط على العملية الاجتهادية ذاتها، بل يمتد ليشمل البنية الفكرية والثقافية للمجتمع الإسلامي ككل.

لقد أظهر تحليلنا أن التحكيم، في جوهره الأصيل، يقوم على معادلة دقيقة بين الخضوع الواعي للنص والفعل المنهجي فيه. هذا التوازن يتطلب نوعاً خاصاً من التواضع المعرفي الذي يجعل المتعامل مع النص يدرك حدود عقله أمام الحكمة الإلهية، دون أن يلغي دور هذا العقل في فهم النص واستنباط الأحكام منه. إنه توازن يحقق الغاية الأساسية من الاجتهاد، وهي خدمة النص وتحقيق مقاصده، لا استخدامه لخدمة أغراض خارجية.

في المقابل، كشف تحليلنا عن الطبيعة التدميرية للتحكم الأيديولوجي، الذي يقلب هذه المعادلة رأساً على عقب، فيجعل النص خاضعاً للأيديولوجيا بدلاً من أن تكون الأيديولوجيا خاضعة للنص. هذا الانقلاب لا يحدث فجأة، بل يتم عبر عملية تدريجية ومحسوبة تبدأ بالتسلل المفاهيمي وتنتهي بالاحتكار الكامل للمعنى. هذه العملية تستغل نقاط الضعف في البنية المعرفية للمجتمع، وتلعب على العواطف الدينية للناس، وتتخفى وراء أقنعة مختلفة تجعل كشفها أمراً معقداً.

إن خطورة هذا التحول لا تكمن فقط في تشويه الفهم الديني، بل تمتد لتشمل تدمير الثقة في المؤسسات الدينية والعلماء، وانتشار الصراعات الأيديولوجية التي تتخفى وراء قناع ديني، وتراجع قدرة الفقه الإسلامي على تقديم حلول عملية للمشكلات المعاصرة. هذه النتائج تتراكم مع الزمن وتتعمق، حتى تصبح جزءاً من البنية الثقافية للمجتمع، مما يجعل عملية الإصلاح أكثر تعقيداً وصعوبة.