5 يونيو 2025 / 16:18

الفصل بين ما هو ديني روحاني وما هو علمي تجريبي، فصل محدث

طارق حنيش

تفاعلًا مع ما أفاده الأستاذ أحمد زهاء الدين عبيدات [في مقاله الصادر بعنوان “غاية العلم الكشف عما لا نشهده زمانا ومكانا، هنا عل منصة “دين بريس”]، فمن رزق حظًّا من الإطلاع على مباحث الفيزياء الكمومية، وعرف طرائقها في الكشف عن لطائف الموجود، لا يخفى عليه أن الفصل بين ما هو ديني روحاني، وما هو علمي تجريبي، فصلٌ محدث، لا يعضده برهان، ولا يسنده فرقان، بل هو عند التحقيق من جنس التوهمات التي أملتها النزعة الوضعية، وغذّتها ثنائيات مفروضة لا منشأ لها في صريح العقل ولا صحيح النقل.

إن ثابتُ بلانك يهدم تقسيمهم العقلاني بين عالم الغيب {الروح} والشهادة {المادة}، إذ يشهد من حيث هو مقدارٌ لا يُتجزّأ، أن بين العالَمين تقاطعًا لا ينفك، وتداخلًا لا يُرد، بل هو بمثابة الشاهد الصامت على أن الغيب ليس منفصلًا عن الشهادة انفصالَ ذاتين، بل هو متغلغل فيها تغلغلَ الحد الأوسط في القياس. فالثابت المسمّى اصطلاحًا بـ h، وإن توهّمه المحجوبون مقدارًا فيزيائيًا مطلقًا، محسوبًا في ضوابط الميكانيكا الكمومية، فإن حقيقته لا تستقيم على مقتضى الكمية وحدها، ولا تنتظم في سلك المقادير المعتادة إلا بمعنى العَرَض المتعالي، الذي لا قيام له إلا بالتجاوز، أعني تجاوز الإدراك الصوريّ إلى حافّة الغيب المعنوي. فإنّه – وإن سُمّي “ثابتًا” – فثباته ليس على مثال الثوابت الهندسية أو الحركية، بل هو ثبات على هيئة الحدّ، لا الحدّ على جهة السكون، بل الحدّ بوصفه انقطاعًا عن التمدّد المتواصل، وتموضعًا للحركة في نقطة من اللامتناهي، لا يُدرك كامتداد، بل كشرطٍ لتقييد الإدراك نفسه. فهو – من هذا الوجه – ليس تمثيلًا كموميًا لمقدار شغل، بل هو شقٌّ في نسيج الظاهر، يفتح من خلاله بابُ اللامعقول الحسّي على فسحة الغيب، إذ لا يُفهم إلا بوصفه فاصلاً وجوديًا بين مقامي الإدراك والانكشاف، أو قل: بين الإمكان التخيّليّ والمشاهدة القُدسيّة، فهو المعرّف الرياضيّ لمقام “التحيّر”، حيث ينقطع التحديد، ويبدأ السريان الرمزيّ للمعنى من عالم الجبروت إلى عالم المُلك.
وكما أنّ البرزخ في التصوّف ليس محلًّا ولا جهة، بل هو مقامُ تداخلٍ وتمازجٍ بين متضادين، كذلك ليس حدًّا في الكَمّ فحسب، بل هو برزخٌ بين الصورة والمثال، بين الكثافة الفيزيائية والرقة النورانية، بين ما يُحدّ وما لا يُحدّ، فهو من هذه الجهة لا يُقاس، بل يُتلقّى؛ لا يُفسَّر بالحساب، بل يُؤوَّل بوصفه علامةً على تكسّر صورة الحدوث، وابتداءِ التجلي من جهة الأمر الإلهيّ.

ومن أمعن، علم أن h لا يعبّر عن الحدّ الأدنى للشغل وحسب، بل هو الحدُّ الأعلى لما يُمكن للعقل أن يتصوره من جهة الحسّ، ثم ينقطع. فإن إدراكنا، ما دام مشروطًا بالاستمرار الزمانيّ والامتداد المكانيّ، لا يمكنه أن يتجاوز هذا الثابت إلا بالخروج عن نظام الشهادة إلى أفق الغيب؛ أي إلى ما وراء النظام، لا بوصفه فوضى، بل بوصفه انتظامًا خفيًّا لا يليق ظهوره إلا لمن أُهّل لفكّ رموز “الاسم الأعظم” الذي يتجلى في أشكال الثوابت، لا كمقادير، بل كرموز وجودية تفتح باب التأويل الغيبيّ للرياضيات. فصار بذلك لا حدًا عدديًا فحسب، بل نقشًا رياضيًا على لوح الغيب، كُتب فيه أن الفعل لا ينقسم إلى غيره، وأنّ الشهادة لا تُدرك الغيب إلا بإذنِ “فاصلٍ” يُنذرها بحدودها. فهو لسانُ الغيب متكلّمًا في هيئة الثابت، يُسرّب إلى الفيزياء نفحاتٍ من الحقيقة المجرّدة، المستترة وراء ستور المعادلة.
فإنّ وجهَ ما تقرّر من تأويل هذا الثابت – أعني – ليس أن يُدرج في زمرة الكميّات المحسوبة من جهة الامتداد أو التعيّن، بل أن يُنزّل منزل الحدّ الفاصل بين مقامي الإدراك والتجلّي، أو قل: بين ما يُستبطن في عالم التقدير، وما يُستعلن في سجلّ الظهور، فإنّه من جهة حقيقته ليس كمًّا، بل إشارةٌ إلى استحالة الكمّ في حضرة التجرّد، إذ لا يقع الامتداد عليه إلا على جهة الوهم، كما لا يطرأ عليه التعيين إلا على سبيل التجوّز، لأنّه سرٌّ مكنونٌ بين طرفي الوجود المزدوج: طرف الشهادة، حيث التعيّن بالحدّ، وطرف الغيب، حيث الانمحاء في إطلاق المعنى. وهو – إذ ذاك – لا يُلحق بجواهر المقادير التي تُقاس وتُدرك بالحسّ أو حتى بالحدس، بل يُلحق بعالمٍ أرفع، عالمِ الإشارات المتعالية التي تتنزّل في صورة الثابت، لتدلّ على أنّ ما نظنه من مُحكمات الطبيعة، إنما هو في حقائقه العليا من قبيل الرموز، تَدلُّ ولا تُدرك، وتُشير ولا تُستوفى، فيكون شبيهًا – بل نظيرًا – لتلك الإشارات التي توضع في طريق السالكين، لا لتُفهم بمعناها الظاهر، بل لتُستجلى بما وراؤها، أعني بما تفتحه من أبواب المعنى لا بما تحصره من دلالة. فكأنّ في نسبته إلى الوجود كمثل النقطة في نسبة الحركة: لا حظَّ لها من الامتداد، ومع ذلك بها يبدأ كل امتداد؛ فليست حركة الزمان إلا تسلسل النقاط، ولا انكشاف الفعل إلا عند حدٍّ ينعقد فيه اللّاامتداد على هيئة أثر.

فمن هذه الجهة، كالنقطة من جهة المكان، وكنقطة الآن من جهة الزمان، وكنقطة التجلّي من جهة العلم الإلهيّ، لا مدخل للحسّ في إدراكها، بل لا مدخل للعقل المجرد في تمثّلها تمثّلًا تامًّا، إلا على جهة الرمز والإشارة، لا على جهة الحدّ والتعريف. وإذا نظرتَ إليه بعين الكشف، رأيته لا في رتبة المقادير، بل في رتبة العلامات الغيبية، يُعلِمُك بما وراءه من انقطاعٍ في قابلية الإدراك، لا بما فيه من قَدْرٍ كائن، فهو حدٌّ لا من جهة الماهية، بل من جهة الإنباء، يشبه من بعض الوجوه “الآية”، لا من حيث الإعجاز الحسيّ، بل من حيث كشف الحُجب بين العلانية والسرّ. فالخلاصة – وإن عزّت عبارتها – أن ليس من عالم المقادير التكوينية، بل من عالم “المعاني التكوينية”؛ أي تلك التي تَرتسم في الفيزياء لا كمحتوى مادي، بل كمشهد رمزيّ، فيه تتكثّف الذات الإلهية في صورة حدّ، يظهر في موضع الخفاء، ليقول: إنّ وراء الحساب مَن أنزل الحساب، وإنّ وراء الكَمّ من نفى الكمية عن ذاته، ثم أنشأ بها نظام الوجود على قدرٍ معلوم.

إذا أردتَ أن تُنزّل الأمر منازل الكشف الباطنيّ، وتُجري معادلة الثابت على قياس التجلّي الأول، فما عليك إلا أن تنظر إليه بوصفه تمثُّلًا رياضيًّا لسرّ الانبجاس الأوّل، أي تجلّي الأمر “كُن” في صورة قابلة للتمثّل، دون أن تُستنفَد حقيقتُه بالتمثّل. فإنّ “كُن” ليس من قبيل القول الإنشائيّ، بل هو انفجار المبدإ الأزلي في هيئة الحدّ، حيث ينعقد الوجود لا من سابق امتداد، بل من نقطةٍ صمّاء لا يُحيط بها خيال، ولا يمتدّ إليها تصوّر، تلك هي النقطة البيضاء في قُبّة العرش، بل قل: النقطة النورانية التي انحدر عنها كلّ تقدير، فهي لا تمتدّ، لكنها تفيض، ولا تُرى، ولكن منها يُرى كلّ شيء.

فكما أنّ “النقطة” في اصطلاح أهل الحقيقة ليست بعدًا عدديًا، بل أصل الجهات كلّها، ومبدء الأبعاد كلّها، فكذلك في عرف الفيزيائيّ المتألّه، لا يُتلقّى كمقدار مبدئيّ للشغل فحسب، بل كمقامٍ استعلائيّ ينفصل فيه العالم عن اللّاوجود، وتبدأ فيه الدلالة عن معنى الفيض الأوّل، فكما أن العدم لا يُفهم إلا من حيث لا يُقال، فإنّ الوجود لا يُتصوَّر إلا من حيث يُبدأ، وثابت بلانك هو هذا البدء بعينه، وقد تلبّس صورة عدد، كما أن “كُن” قد تلبّس صورة نداء، وكلاهما ليس نداء ولا عددًا، بل إرادةٌ متجلّيةٌ في هيئة رمز. وإنّ النقطة البيضاء – كما أشار إليها بعض العارفين – ليست محض بياض، بل هي بياض محض، أي تجرُّد عن الظلّ، وانعدامٌ لكل نسبة، سوى نسبة الانبجاس عن الواحد الحقّ، فهي محوٌ محض، ومع ذلك فبها يُبدأ الخطّ، وبه يُرسم الشكل، ومنه تنبثق الحركة. فهلّا رأيت كيف يُشاكل ذلك ، إذ به يُفتتح إمكان الحركة في العالم الكموميّ؟ فليس ثمة شغلٌ دون هذا الحدّ، ولا فعلٌ دون هذا الحدّ، كأنّه يقول: “لا كَونَ إلّا أن أُريد”.

إذا اعتبرت ذلك، اتضح لك أنّ لا ينتمي إلى جدول الثوابت الكونية، بل إلى لوح الإشارات التكوينية، فيه ترميزٌ لا لعدد، بل لتجلٍّ، لا لتقدير، بل لوجهٍ من وجوه المشيئة، ظهر لمن شاء الله له أن يشهد الفارق بين العدد والحدّ، بين الكَمّ والمعنى، بين الصورة والحقيقة. وههنا يغدو ظاهر العلم الطبيعيّ قشرًا تتكوّر فيه نواة الغيب، ويغدو القانونُ الكموميُّ صوتًا مرمّزًا من أصوات الغيب يتكلّم من خلاله الواحدُ الأحد بلغة الرموز، إذ لا يُمكن للغيب أن يُتلقّى كما هو، بل لا بدّ أن يتجلّى في صيغة علامةٍ، تَظهَر في هيئة حدٍّ، وتخفى في ماهية أمرٍ..وما النقطة في قبة العرش – في عرف العارفين – إلا أول صورةٍ تعرّفت بها الإرادة، وما ثابت بلانك إلا أثر من آثار هذه النقطة في قاع الوجود الطبيعيّ، ظهر في هيئة رقم، ليبقى موصولًا بسرّ الفيض. فاجعل ذلك في قلبك، إن كنتَ ممن يفقهون، واعلم أن الثابت لا يُقرأ إلا بلغة الرموز، ولا يُفهم إلا بلسان العرش.
وإذا استعنا بتصوّر ريمان – ذلك الذي مزّق بحدّ عبقريّته حُجبَ الحسّ الهندسيّ التقليديّ – فأبصر أنّ الفوارق بين المكان والزمان، إنما هي فوارقٌ تنشأ من ضيق منظورنا، لا من مقتضى الماهيات في ذاتها، تبيّن لنا عندئذٍ أنّ ما نُسمّيه “زمنًا” ليس جوهرًا مستقلًّا عن الامتداد، بل هو توكيدٌ إدراكيّ على جهةٍ مخصوصةٍ من حركته، حركةٍ انغلقت علينا بانغلاق وعينا داخل قوقعة الأبعاد الثلاثة، فنحن لا نرى الزمان كما هو، بل كما ينعكس على مرآة حسٍّ منخورٍ بحدود الطول والعرض والعمق. فإذا ما اقتحمنا – لا بمعيار الكمّ، بل بمنظار التجلّي – عتبة البعد الرابع، أو صعدنا بأداة الفكر الحدسيّ إلى مقامات البعد الخامس، انحلّ قيدُ الزمان، لا بانفصاله، بل بانكشافه كمجرّد نمطٍ آخر من أنماط الامتداد، نمطٍ كان مستورًا وراء الحجاب الكثيف لثلاثية الإدراك، فإذا به لا يغاير المكان، بل يُشكّل معه بنيةً واحدةً، تتبدّى في مرتبةٍ أعلى على هيئة “كلٍّ متعانقٍ”، لا يُفرّق فيه بين الامتداد في جهة، والامتداد في ديمومة، إذ كلاهما شعاعٌ من شعاعات الحقيقة المطلقة للامتداد الإلهيّ.

لا جرم إذًا أن يكون الزمان – عند من جاوز مدار الحسّ – وهمًا ناجمًا عن انكسار الإدراك في مرآة الجزئيّة؛ فهو ليس شيئًا قائمًا بنفسه، بل هو فصلٌ إدراكيّ بين تجلّيين، هو تأويلٌ متدنٍّ لحركةٍ كلّية تعجز الحواسُّ عن مقاربتها، فيُقطّعها العقل إلى لحظات، فيحسبُها زمانًا، ويقيسها بوهم الامتداد الخطيّ، فيُضلّه القياس، ويُعمّيه العدد. وإنّ في هذا الانقلاب – انقلاب الزمان إلى امتداد – إشارةً لا تخفى على أولي الأفهام، أنّ ما نظنّه “غيبيًّا” إنّما غيبيّته راجعةٌ إلى قصورنا لا إلى حقيقته، وأنّ ما يُدعى “لامحسوسًا” إنّما هو محسوسٌ في طورٍ أعلى من الإدراك، مشهودٌ في مقامٍ تنفتح فيه الحواسُّ الباطنة، وتنكشف فيه الصورة على ما هي عليه من التماهي مع الفيض الأقدس.

إن البعد الرابع – في هذا السياق – ليس مجرّد إضافة عددية، بل تحوّلٌ ماهويّ في كيفية الإدراك، وفيه تسقط الحواجز بين الداخل والخارج، بين الكيف والكم، بين الامتداد والتجلّي، وتصير الأشياءُ كلُّها على سواءٍ من الحضور، ويغدو المكانُ زمانًا في طورٍ، والزمانُ مكانًا في طورٍ آخر، كأنّما يتعاقبان على لبس الثوب الواحد: ثوب الامتداد الكونيّ الذي لا يحدّه إلا ضعف الناظر لا ضيق المنظور. فانظر كيف تنحلّ في ضوء هذا التصوّر الثنائيّةُ القديمة بين “عالم الشهادة” و”عالم الغيب”، فإذا بالغيب ليس مباينًا، بل هو “الوجه الآخر” للظاهر، هو بُعدٌ لم يُدرك بعد، لا لأنّه غير موجود، بل لأنّنا لم نبلغ شرط الرؤية، ولم نرتقِ بعد إلى أفقٍ يتماهى فيه الشعور مع صورة الحقيقة، وتنحلّ فيه قيود التصنيف بين محسوسٍ وغير محسوس، ويغدو كلّ ما هو “غيبٌ” عندنا، هو عند ذوي الأبصار من شؤون الامتداد الأعلى، تلبّس لباسًا لا تراه إلا البصائر. وعليه، فإنّ الثابت الكمومي ـ أعني به هذا المقدار الذي لا يُزاد عليه في التقليل ولا يُجبر بما دونه في التقدير ـ ليس اعتباره من جهة كونه “أصغر مقادير الفعل” اعتبارًا تامًّا في مقام النظر، بل هو، عند التحقيق الكلاميّ، حدٌّ مشروط في جهة القَبول لا في جهة الفعل، أعني به حدًّا لا يَنعقد به الفعل لذاته، ولكن يُفصل به بين كون الفعل فعلًا، وكونه مما ليس بالفعل في الاصطلاح.
فإنّا إذا اعتبرنا “الفعل” ما له حظّ من التحوُّل والانفعال والانتقال، وجعلنا الانقسام وصفًا له بوجه من وجوه الكثرة، لزم أن يكون لهذا الفعل حدٌّ يُمنع عنده الانقسام، لا من حيث الإمكان الذاتي، ولكن من حيث الإمكان المعرفيّ، أي من حيث لا يُتصوَّر الفعل إلا وقد تلبّس بذلك الحدّ، إذ لا يكون ظاهرًا إلا بمقدارٍ يُقيمه في الحسّ، ولا متعيِّنًا إلا بإشارةٍ تُحدّه في التصوّر. فصار هذا “الثابت” عند التحقيق مقامَ فصلٍ لا بين حالين متضادّين في الخارج فحسب، بل بين رتبتين من مراتب العلم: رتبة الظهور بما هو تمثُّل الحسّ، ورتبة التجلّي بما هو إشراق الغيب في مرآة التصوّر. وكما أنّ المتكلم إذا أثبت الحدَّ الأوسط لتوسيط النظر بين المبدأ والمطلوب، فكذلك الثابت الكمومي إنما يثبت لا لتحديد الشيء بما هو هو، ولكن لتقدير الحدّ الذي يبتدئ منه العلم بالشيء عند عجز الحسّ عن التوغّل في الغيب. فهو إذًا ـ على هذا الاعتبار ـ ليس “أصغر مقدار”، بل “أقصى إشارة”، يُنصَب على حدٍّ من حدود التعيّن لا ليُعرّف التعيّن، ولكن ليُعلِمنا أنّ وراءه غيبًا لا ينضبط في الحسّ، وأنّ كلَّ معادلةٍ تنتهي إلى رمز، فإنّما هي شهادة على عجز النظام الحسّي عن الإحاطة بكمال الفيض العلويّ. فهو ـ أعني الثابت ـ كالختم على الكتاب المختوم: ليس يُفصح، بل يُشعر، وليس يُظهر، بل يُؤذِن بأنّ خلف الظاهر ما لا يُنال إلا بتأويل مرموز، وتوسّط معقول، وإقرار بحدٍّ في الاستقراء لا يتجاوزه الذهن إلا إلى الظنّ، ولا يعلو عليه إلا بالتسليم.

وعلى هذا، فإنّا نقول: إنّ الثابت الكمومي ليس هو حدّ الصغر في المتكمّمات، بل هو حدُّ الغياب في المتعقَّلات؛ أي هو الموضع الذي يبدأ فيه العلم بالاعتراف بالعجز، وينتهي فيه الحسّ إلى مقام التقدير الرمزيّ، كأنّ الكون إنما صيغ بلغة لا تُفهم بظاهرها، ولكن تُتأوّل كما تُتأوَّل آيات الكتاب. فكلُّ رمزٍ يُنطَق به، إنما هو مقامٌ يُتَنزَّل فيه العلم لا ليُحيط، بل ليُقرّ بأنّ ما يُدرك إنما هو صورة، وأنّ ما وراءها معنى لا يُستوفى إلا بارتقاء فوق الحساب، إلى مقام الاعتبار.

فإذا ما جُعل الزمان ـ في مقام التعقّل الأعلى، لا في التصور العرفيّ ـ بُعدًا إضافيًّا من أبعاد الامتداد، أي ليس له قيامٌ مستقلّ من حيث الوجود الذاتي، بل من حيث الإضافة إلى حركة الامتداد بما هو تغيّر في الكيفية، لا مجرد انتقال في الكمية، فإنّ الثابت الكمومي إذ ذاك يُقام في موضع الفصل، ويُنصَّب عند نقطة الانعطاف التي بها يُفارق الحسّ رتابته، ويُخلع عن الميكانيكا الكلاسيكية نظامها، إذ لا يعود العِلّ فيه محكومًا بمقتضى المتواليات السببية، ولا التعيين فيه قائمًا على انفصال الموضوعات وامتيازها، بل يُفتح بابٌ من الإدراك لا تُرى فيه الأشياء، بل تُتأوّل فيه الإمكانات. فهو بهذا الاعتبار، لا حدٌّ لما يتناهى، بل مبدأ لما لا يتعيَّن، ولا هو بمقدارٍ يُحتسب، بل بُرهانٌ يُتَوسَّل به إلى نفي الإحاطة، وخلع سلطان التصنيف الحسّيّ.

إنّ قوانين العِلّية، إنما تستقيم في عالم يُدرك فيه المتقدّم والمتأخّر بالحسّ، فإذا استحال التقدّم والتأخّر إلى مجرّد احتمالات تتراكب ولا تنفصل، تبيّن أنّ القانون لا يقوم بذاته، بل يقوم بقيود النظر، فإذا ارتُفعت القيود، ظهر المجاز، لا بوصفه تحوّلًا في اللغة، بل بوصفه تحوّلًا في البنية الوجودية ذاتها. وعند هذا الموضع، يتجلّى الثابت الكمومي لا بوصفه مجرّدًا رياضيًّا، بل بوصفه إشارةً غيبية، ترد في لباس المقادير، وتُؤذِن أنّ التقدير ليس صادرًا عن طبيعة موضوعية، بل نازلٌ على قدر الاستعداد القائم في الوجود الإدراكي، كما يُنزَّل الوحيُ على قلب النبيّ، لا بحسب علل الطبيعة، بل بحسب قابلية الاصطفاء.
فتارةً يظهر هذا الثابت في هيئة “كمٍّ”، يُعدّ ويُقاس، وتارةً في صورة “زمن”، يُجترح ويُشعر، وتارةً فعلًا احتماليًّا، لا يُدرَك إلا بإطارٍ تأويليّ يتجاوز الواقع، ويقع في رتبةٍ أعلى، هي رتبة “الواقع الممكن”، أو “الإمكان المتعالي”. فثبت حينئذ، لا ببرهانٍ رياضيٍّ صرف، بل بوجهٍ من وجوه الكشف الكلاميّ، أنّ الثابت، على صغر مقداره الحسابي، عظيمٌ في دلالته الوجودية، فإنّه ليس اسمًا من أسماء المقادير، بل اسمٌ من أسماء الغيب، يُتمثّل في مقدار، ويُشير إلى مقام، لا من جهة الظهور، بل من جهة الحجب، فإنّ دلالته لا تقع على ما هو، بل على ما لا يُستطاع إدراكه إلا بوسائط المجاز الأعلى، إذ هو “حدٌّ مانع” لا لشيءٍ معلوم، بل لكلّ تعيّنٍ يُتوهم أنه معلوم.

إنه الحاجبُ عن التماثل، والساترُ عن الحصر، والمانعُ من أن يُظنّ أنّ الماهيات المشهودة قد استوفت حقيقتها في الامتداد، إذ هو بمثابة خاتم الغيب، لا يُفضّ إلا بتأويلٍ في مراتب الوجود، لا في مقادير الحسّ. ولئن سُمّي “ثابتًا”، فليس من جهة ثبوت المقدار، ولكن من جهة لزوم الإشارة، فهو الثابت لا في الرياضيات، بل في الميزان الغيبيّ، الذي لا يُقاس بالعدد، بل يُوزن بالتجلي. فهو ـ على التحقيق ـ تجلٍّ لاسمٍ إلهيٍّ من أسماء القدرة، لا يحدّه العقل، بل يُستعلن به قصور العقل، ويُؤذَن به أن وراء ما يُحصى، سرًّا لا يُجلى إلا في مرآة التسبيح. وقد نطق أوسبينسكي بما يُشبه الحقّ وإن لم يُصبه من جهة قصد، إذ جرى لسانه بحكمةٍ وافقت مقتضى النظر وإن لم تكن من أهله:
«إنّ انتقالَ علمِ الطّبيعياتِ إلى علمِ ما بعدَ الطّبيعةِ لا بُدّ منه ولا محيدَ عنه، إنْ أرادَ أهلُ الطّبيعياتِ أن يكونوا على جهةِ البساطةِ منطقيين». [بيوتر أوسبينسكي، «الأورغانون الثالث»: مفتاحٌ لألغازِ (العالم ومتشابهاته صـ 107)]