أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
5 يوليو 2025 / 22:12

الفتوى الاقتصادية في نظَر وزير الأوقاف.. محاولة للفهم

محمد زاوي ـ دين بريس
يتجدد النقد الإيديولوجي الموجّه لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الدكتور أحمد التوفيق، تحت قناع “الدفاع عن الشريعة”، وكأن أحكام الشريعة لا تحتاج إلى “تحقيق مناط”، وكأن “الحكم الفقهي” يمنع من النظر في مستجدات الاقتصاد.

تحدث أحمد التوفيق عن تمييز ضروري بين “تصرف بالتشرُّع” (بالتعاقد والتراضي) و”تصرف بالتعبد”، إذ تدخل “فوائد البنوك” في الصنف الأول لا الثاني في نظره. وهذا نظر مسبوق، وليس وليد فهم وزير الأوقاف ونظره في أحكام الشريعة وواقعها. إلا أن البعض وجدها فرصة للتذكير بالأحكام ومطالبة الفقهاء بالتحرك “درءا للمفسدة”، والحقيقة أن النقاش الذي أثاره د. التوفيق لا يشكل خروجا عن منطق الشريعة، بل هو منها ومن تراثها يستمد قوته.

هناك منطق خاص بـ”النوازل والمستجدات” ناقشه أحمد التوفيق في كتابه “الإفتاء والتاريخ”، لكن القوم لا يقرؤون! ومن أراد أن يسلك معه طريقا للاختلاف، فليدفع بنظره الأسس التي يبني عليها التوفيق قوله في المستجدات والنوازل.. ومن عجز عن هذا الدفع، فلا جدارة له في اختلاف.

***

في ما يلي تتبع لعلاقة الفتوى بالاقتصاد في كتاب د. أحمد التوفيق “الإفتاء والتاريخ”:

لا يصحّ الإفتاء في قضايا الاقتصاد ومسائل الأموال، بل وفي كثير من مستجدات السياسة العامة، إلا باعتماد علم الاقتصاد السياسي بما هو “دراسة لتاريخ أنماط الإنتاح وواقعها الملموس”، وبما هو “دراسة للسياسة بالاقتصاد، ولهذا بتلك”؛ أي بما هو اعتبار لقواعد العلاقة بين الاقتصادي والسياسي. إن غياب هذا العلم عن وعي المفتي يضعف قدرته على “تحقيق المناط”، كما قد يجعله عاجزا عن تنزيل الأحكام حسب واقعها العيني. والحال هذه، فإما أن يكون المفتي ملما بالاقتصاد السياسي، وإما “يحقق مناطَه” أصحابُ الاختصاص في هذا العلم.

وعندما يغيب الاقتصاد السياسي، يضطر الفقيه إما للخروج عن التاريخ بفتواه ف”يميل إلى التحريم”، أو “يجامل التاريخ” ف”يميل إلى التجويز” كما هو شأن الفقيه المغربي أحمد المامون الحسني البلغيثي الذي كتب كتابه “بيان الخسارة في بضاعة من يحط من مقام التجارة” للدفاع عن نشاطه التجاري ومعاملاته التجارية. فبدل أن يعرِّف التجارة ومعاملاتها من قبيل “الإطرة والأوراق البنكية والتأمين على البضائع” بناء على “ما هي به في الواقع”، نجده “يستشهد بالنصوص والآثار لتبرئة سلوكه عندما رام القيام بأنواع يرتضيها من معاملات البيع والشراء. فلا شيء بدهي إذا تعلق الأمر بمعرفة المقبول والمذموم شرعا، كأن الشرع هو تلك المرآة التي ينظر فيها كل صباح ليرى وجها يحرص على أن يظل سليما من الخدوش” (أحمد التوفيق، الإفتاء والتاريخ، ص 54).

لقد غاب “تاريخ الرأسمالية عن معارف المفتي (أحمد البلغيثي)، علما أن هذا الابتكار (أي الرأسمالية) يرجع تاريخه إلى أربعة قرون (قبل القرن 19/ وهو القرن الذي عاش فيه الفقيه البلغيثي)”. ولما كان الأمر كذلك فإن المفتي لم يهتد إلى تصور “الإطرة” (الكمبيالة) باعتبارها “وسيلة التبادل التجاري ظهرت في بدايات الرأسمالية الأوروبية، استدعى ظهورها نشاط لم يسبق له مثيل في كثافته واتساع آفاقه في القارة وخارج القارة أي في ما وراء البحار”. (نفس المرجع، ص 58)

كما لم يهتد البلغيثي إلى استيعاب “مراحل تطور وسائل التبادل في تاريخ الرأسمالية من نقود مجسمة إلى نقود مجردة، مرورا بتاريخ الائتمان ونظرياته، وانتقالا من نظام المعدنين النفيسين وتحديد التناسب بينهما إلى نظام المعدن الواحد فإلى نظام النقود الكتابية والودائع والابتعاد عن تغطية الذهب”، فناقش “الأوراق المالية” ـبسبب ذلك- معتمدا على ما وقعت عليه يده من نصوص الآثار، لا على تاريخ تطور التبادل في النظام الاجتماعي الرأسمالي.

ونفس الأمر يمكن قوله عن مسألة “الضمان” حيث بنى المفتي البلغيثي نقاشه على “حرمة الميسر”، في حين أن “الحركة التاريخية التي تمخض عنها تطور الضمان ليشمل السلع وغيرها لا تمت إلى المقامرة بصلة وإن كانت تنطوي على جانب من المخاطرة أو عدم اليقين، لكنها ظاهرة تندرج في سيرورة تطور متوافق تداعت فيه عدة شروط للنمو بحيث المستفيدون مصالحهم في الابتكارات المختلفة لحماية نشاطهم المتسع ولو بدفع مصاريف تدخل بدورها في كلفة الإنتاج أو الخدمات التي يبيعونها” (نفس المرجع، ص 59).

إن الاقتصاد السياسي كما يغيب عن الفتوى من حيث البناء، قد يحضر فيها من وراء حجاب، وربما بخلفية إيديولوجية. وقد أشار أحمد التوفيق إلى ذلك عندما تحدث عن الخطبة باعتبارها “فتوى باحثة عن التاريخ”، تجعل النص الديني تاريخيا، وتؤوله في تاريخ خاص. إن قول الخطيب -مثلا- إن “الدول القوية لا تستغل الدول الضعيفة فتبخسها بضاعتها في مقابل أثمنة باهظة تفرضها لمنتوجاتها الصناعية، فتزداد الدول الغنية غنى كما تزداد الدول الفقيرة فقرا”؛ هذا القول حسب أحمد التوفيق “مقتبس من مقولات الاقتصاد السياسي للعالم الثالث في أواخر القرن العشرين” (نفس المرجع، ص 97). الخطاب هنا تصريف منبري لتحليل اقتصادي اجتماعي يعبر بشكل أو بآخر عن مصلحة أحد طرفي التناقض العلمي أو المحلي.

لقد أصبح العالم أكثر تعقيدا في معاملته الاقتصادية والمالية، وبالتالي في علاقاته الدولية والسياسية والثقافية أيضا. إن هذا التعقيد يعكس تعقيدا في بنية الإنتاج الرأسمالي العالمي، كذا في تداخل المصالح بين الأطراف المتناقضة أو تلك المتحالفة أيضا.

إذن، لم يعد بمقدور الفقيه والمفتي الحديث في كل القضايا السياسية والاجتماعية الكبرى وكأنها من صميم اختصاصه، بيد أنها تحتاج إلى تدخل ذوي الاختصاص لبيان حقيقتها وتحديد جوهرها الاجتماعي وطريقة تكوينها تاريخيا وواقعيا. في القضايا الكبرى لا محيد اليوم عن الاقتصاد السياسي، فضلا عن باقي العلوم المساعدة والمفسرة. فإما ينظر فيها الفقيه، وإما يردد أقوالا وأحكاما لا تنتمي إلى عصره، ونادرا ما يحالفه الحدس!