دين بريس ـ سعيد الزياني
يرى رود دريهر (Rod Dreher) أن العالم الغربي يعيش أزمة روحية عميقة، حيث فقد الإنسان الحديث إحساسه بالمقدس، وتحول الدين إلى فكرة مجردة لا تلامس أعماق الحياة اليومية.
ويحاول “دريهر” في كتابه Living in Wonder (العيش في الدهشة أو الحياة في عالم مدهش)، تقديم تفسير لهذه الأزمة، باحثا عن سبل لاستعادة الحس الروحي المفقود، ومستندا إلى تجارب شخصية، وشهادات تاريخية، وأبحاث في علم الأعصاب والأنثروبولوجيا الثقافية، إضافة إلى رؤية الكنيسة الأرثوذكسية للعالم.
وينطلق الكتاب من تجربة شخصية مر بها الكاتب عندما تلقى هدية غير متوقعة من فنان في جنوة عام 2018، حيث قدم له نقشا يصور قديسا من العصور الوسطى يدعى “غلغانو”، دون أن يدرك “دريهر” في ذلك الحين مدى أهمية هذه الإشارة لحياته الروحية.
وبعد عامين، وسط أزمة نفسية عميقة، عاد القديس نفسه ليظهر في حياة “دريهر” بطريقة بدت وكأنها رسالة إلهية تدعوه للبحث عن مغزى أعمق لوجوده، هذه الحادثة ليست سوى نموذج صغير مما يرويه الكاتب حول تجارب مماثلة مر بها أو سمع عنها، حيث يؤمن بأن “الله يتواصل مع البشر باستمرار”، لكن الحداثة المادية جعلتهم يفقدون القدرة على الإحساس بحضوره.
ويعود المؤلف إلى التاريخ ليشرح كيف تراجعت “الحساسية الروحية” في الغرب، ويرى أن هذا التراجع بدأ مع التحولات الفكرية الكبرى التي فصلت بين العالم الطبيعي والعالم الروحي، ففي السابق، كانت المسيحية تقدم من خلال التجربة الحية، حيث كانت المعجزات والرؤى والرموز المقدسة جزء من النسيج اليومي، مما جعل الإيمان ينبض بالحياة، لكن مع صعود العقلانية الحديثة، أصبح الله فكرة بعيدة ومنفصلة عن الواقع، وفقدت المسيحية طابعها السحري، فتحولت الكنائس إلى مؤسسات بيروقراطية، وفقدت الشعائر الدينية قدرتها على التأثير العميق في النفوس.
ويحاول “دريهر” تقديم بدائل للخروج من هذه الأزمة، ويستند في ذلك إلى تقاليد الكنيسة الشرقية، حيث يرى أن “الأرثوذكسية” تحتفظ بروحانية عميقة لم تفقدها الكنائس الغربية، ويؤكد أن استعادة الحس الروحي يتطلب التزاما بممارسات عملية مثل الصلاة العميقة، والتأمل، والتفاعل مع الجمال في الفن والموسيقى والأدب، حيث يرى أن الجمال بوابة لاستعادة الروحانية، ويقترح على القارئ ممارسة الصلاة، وهي تكرار مستمر لعبارة قصيرة مع التنفس المنتظم، مما يساعد على تركيز الذهن والانفتاح على التجربة الروحية.
ويتطرق الكتاب إلى ظواهر خارقة للطبيعة، مثل المعجزات والرؤى والتجارب الصوفية، ويؤكد أن هذه الأحداث ليست خرافات، وإنما هي إشارات على أن الواقع أكثر تعقيدا مما نتصور، ويناقش أفكارا مثيرة للجدل، مثل أن هناك معركة روحية تدور خلف الكواليس بين قوى النور والظلام.
هذه الطروحات قد تبدو غريبة للبعض، لكنها تعكس قناعة “دريهر” بأن الحداثة لم تلغ الماورائيات، بل استبدلتها بأشكال جديدة من المعتقدات، مثل الروحانيات البديلة، والتنجيم، وعبادة الطبيعة، التي غالبا ما ترتبط بأيديولوجيات سياسية تقدمية..
ويمثل الكتاب دعوة صريحة للعودة إلى الإيمان الحي، ويتبنى موقفا نقديا من الحداثة الغربية، ويرى أن الحركات النسوية، والنشاط البيئي المتطرف، والمثلية الجنسية، قد تحولت إلى بدائل دينية جديدة تحل محل الإيمان التقليدي، هذا الطرح يعكس رؤية محافظة تعيد ربط القيم الدينية بالأخلاق والمجتمع، لكنه قد يثير اعتراضات لدى من يؤمنون بأن التقدم الاجتماعي لا يتعارض بالضرورة مع الإيمان الديني.
ويتجاوز الكتاب كونه مجرد نقد للحداثة، فهو محاولة لفتح نافذة نحو استعادة الإحساس بالعالم كمكان مليء بالمعجزات، ويدعو القارئ إلى التفاعل مع الجمال والتاريخ والتقاليد الدينية بطريقة تخلق تجربة روحية جديدة، إنه يرى أن العالم لم يفقد الايمان، بل نحن الذين فقدنا القدرة على رؤيته، وأن الطريق إلى استعادته يمر عبر إعادة تعلم كيفية الإحساس بالحضور الإلهي في التفاصيل اليومية.
Living in Wonder هو كتاب يحمل مزيجا من التأمل الفلسفي، والتحليل الثقافي، والشهادات الشخصية، مما يجعله نصا ملهما للبعض، لكنه قد يبدو جدليا للبعض الآخر، ويحاول إحياء تجربة روحية عميقة، رغم أنه في طريقه إلى ذلك، يعبر عن مواقف محافظة قد لا تلقى قبولا عالميا، وسواء اتفقت مع أفكاره أم لا، فإن الكتاب يمثل دعوة للتفكير في معنى الإيمان في عالم فقد إحساسه بالدهشة..
هذه أبرز الخلاصات العامة التي يقدمها الكتاب، وهي تتقاطع مع العديد من الديانات والمعتقدات، إلا أن بعض التفاصيل قد تثير جدلا أو لا تتوافق مع الرؤية الإسلامية مثلا، كما أن التجربة الشخصية للكاتب تنبع من سياق ثقافي وروحي مختلف عن بيئتنا، ومع ذلك، يحمل الكتاب إشارات ودعوات إلى البشرية لاستعادة صلتها بالله وإحياء الإيمان الحي في القلوب..