محمد عسيلة*
تُعتبر ظاهرة العنف بين الشباب المسلمين الذكور من خلفيات مهاجرة في المجتمع الألماني كمجتمع عالى التعدد الثقافي والديني إحدى الظواهر الاجتماعية التي تثير جدلاً واسعاً وتستدعي اهتماماً علمياً مستفيضاً حيث تشير بعض الدراسات إلى أن هذه الظاهرة تتداخل فيها مجموعة من العوامل الاجتماعية والنفسية والثقافية، مما يؤدي إلى تفاقم السلوك العنيف بين هذه الفئة من الشباب.
يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال الاستناد إلى نظرية مثلث العنف التي طورها عالم الاجتماع يوهان غالتونغ، والتي تقسم العنف إلى ثلاثة أنواع رئيسية: العنف المباشر، العنف البنيوي، والعنف الثقافي. هذه النظرية تُمكننا من فهم ديناميكيات العنف في مستوياته المختلفة.
إن العنف المباشر، المتمثل في الأذى الجسدي أو النفسي الواضح، هو الشكل الأكثر وضوحاً. لكن جذور العنف غالباً ما تكمن في العنف البنيوي، الذي يتجسد في الهياكل الاجتماعية غير العادلة التي تُكرس الفقر والتهميش. بالإضافة إلى ذلك، يُعزز العنف الثقافي هذه الظواهر من خلال الشرعية التي يضفيها على السلوكيات العنيفة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ويظهر العنف الثقافي بشكل خاص في التقاليد والعادات والمفاهيم التي تجعل من العنف وسيلة مقبولة لتحقيق الأهداف أو فرض السيطرة.
من الأمثلة البارزة على العنف الثقافي ما يُمارس في بيئات العمل تجاه النساء، حيث يتجسد التحرش الخفي تحت مظلة “التقدير” أو “الاحترام”. في كثير من الحالات، يتم تقديم “الإعجاب أو الثناء” بطريقة تخفي وراءها أشكالاً من التمييز أو الهيمنة أو التحرش الغير المباشر. يُفسر هؤلاء تصرفاتهم على أنها تعبير عن “الأخوة” أو “الإعجاب”، ولكنها في الحقيقة تُعيد إنتاج أنماط من السيطرة الذكورية الرمزية التي تضع النساء في موقف دفاعي أو سكوني خوفا من الفضيحة أو العقاب أو الإقصاء الإداري خصوصا إذا كان هؤلاء “الرجال!!!\الذكور” رؤساء هاته الشريحة من النساء.
إن الأبحاث تُظهر أن الشباب من خلفيات مهاجرة غالباً ما يعانون من الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، مما يولد لديهم شعوراً بالاغتراب واليأس. يعيش هؤلاء الشباب في أحياء تفتقر إلى الفرص الاقتصادية والتعليمية، مما يجعلهم أكثر عرضة لتبني سلوكيات عدوانية كوسيلة للتعبير عن إحباطهم. هذه البيئات تؤدي إلى تراكم الضغوط النفسية، حيث يُصبح العنف أداة للتعامل مع الصعوبات اليومية.
العنف الثقافي لا يقتصر على بيئات العمل أو الشباب المهاجرين، بل يمتد ليشمل السياقات الاجتماعية العامة. توضح الباحثة الألمانية Inhetveen أن الثقافة، بحد ذاتها، تحمل في طياتها أشكالاً من العنف المتأصل، حيث تُستخدم الأنماط الثقافية كأدوات لإضفاء الشرعية على الهياكل العنيفة. ترى Inhetveen أن هذا العنف يُصبح جزءاً من النظام الاجتماعي، مما يجعل من الصعب تمييزه عن الممارسات اليومية المقبولة.
لمواجهة هذه الظاهرة، يجب تبني استراتيجيات شاملة تشمل تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للشباب، وتعزيز الحوار بين الثقافات لتقليل التحيزات والتمييز. من الضروري أيضاً تطوير برامج تدريبية تُعزز مهارات إدارة الغضب وحل النزاعات بطرق بناءة. أما في بيئات العمل، فيجب تنفيذ سياسات واضحة لمكافحة التحرش والتمييز، مع تعزيز ثقافة الاحترام المتبادل والمساواة.
في هذا السياق، لعب عالم الاجتماع يوهان غالتونغ دوراً محورياً في وضع الأسس النظرية لتحليل وفهم العنف.
وُلد غالتونغ في النرويج عام 1930، وهو مؤسس علم دراسات السلام والصراع. من أبرز إسهاماته نظرية “مثلث العنف” التي تشرح التداخل بين العنف المباشر، البنيوي، والثقافي. عرّف غالتونغ العنف بأنه كل ما يُعيق الإنسان عن تحقيق إمكاناته الكاملة، مشيراً إلى أن العنف الثقافي يعمل على إضفاء الشرعية على العنف البنيوي والمباشر. هذا التحليل يُتيح فهماً أعمق للظاهرة ويوفر إطاراً عملياً لمعالجتها.
إن التصدي لظاهرة العنف الثقافي وما يرتبط بها من تأثيرات خفية يتطلب تضافر جهود الأفراد والمؤسسات مع تعزيز الكفاءات الفردية لمواجهة هذا العنف الظاهر والمستتر، بما في ذلك التحرش الذي يتم تغليفه أحياناً بمظاهر الإعجاب أو الاحترام. ينبغي أن يتم ذلك من خلال أساليب سلمية تُثير القيم والأخلاقيات بشكل واعٍ ومستفز أخلاقياً. إن تعزيز الفهم الثقافي والنقد البناء لهذه الأنماط يشكل خطوة محورية نحو خلق بيئة اجتماعية أكثر عدلاً وتسامحاً.
يبقى البحث العلمي المستمر أداة أساسية لفهم هذه الظاهرة وتطوير حلول مبتكرة ومستدامة لمعالجته.
ـــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22594