اسامة البحري ـ طالب بمسار التميز العمل الإجتماعي بجامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال
إهداء لمسار التميز العمل الإجتماعي ببني ملال أستاذة وطلبة
المحاور :
1. إميل دوركهايم وتعريف المجتمع
2. المدرسة والإدماج الإجتماعي
3. الأسباب الإجتماعية للإنتحار
4. سيرج بوغام – الأنوميا والعمل الإجتماعي من الرابط الإجتماعي إلى الإرتباط الإجتماعي
تقديم :
تعالج هذه الورقة التوجه الوظيفي لتفسير المجتمع، ونذكر هنا عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم الذي يعود له الفضل في التفرقة بين الأسباب الاجتماعية والأسباب النفسية للمرض. وتأخذنا مفاهيم الورقة بعيدًا عن علم الاجتماع إلى حقول أخرى، من بينها العمل الاجتماعي. فهذا الأخير هو مجموعة من العمليات الموجهة للأفراد قصد تلبية حاجياتهم وتعزيز رفاهيتهم من خلال العدالة الاجتماعية والاقتصادية والتعامل مع أساليب الفقر والقضاء عليه. وهو أداء مناط بما هو إداري حكومي أو غير حكومي، وهو أيضًا محاولة ممنهجة ومضبوطة بآليات ووسائل محددة.
ويرتبط هذا التفسير بآليات التدخل وديونتولوجيا العمل الاجتماعي. لكن إن عرفنا العمل الاجتماعي كونه آليات تدخل، سيبقى قاصرًا في سياقه النظري، لأن العمل الاجتماعي هو معرفة من جهة وآليات تدخل من جهة أخرى. فصحيح أن العامل الاجتماعي يستند إلى قوانين، وعلى معرفته بمؤسسات أخرى، وعلى علاقته بالجهات المعنية أثناء تدخله، لكن كل هذا ينطوي تحت مفهوم نظري مهم وهو الإدماج الاجتماعي.
فإدماج الفرد في مجتمعه ليس عملية تستند إلى ما هو سيكولوجي، ولا على تقديم خدمة تطوعية، وهو أيضًا ليس تقنيات مواكبة وتدخل فقط، بل هي عملية تستدعي معرفة أهمية المجتمع بالنسبة للفرد والقدرة على أجرأتها من جهة أخرى، في علاقتها طبعًا مع ديونتولوجيا العمل الاجتماعي أو أخلاقيات هذه المهنة.
فالمجتمع اليوم يعرف تفككًا للروابط الاجتماعية وتنامي الفردانية، ويتطلب بناء الهوية في المجتمعات الحديثة الانخراط في مجموع الروابط الاجتماعية التي يقسمها سيرج بوغام على سبيل المثال إلى أربعة:
1. رابط القرابة الذي يربط الأبناء مع الآباء.
2. الرابط التشاركي وهو المرتبط بالأصدقاء.
3. رابط التشارك العضوي وهو المرتبط بالعمل، بحيث أن الفرد اليوم مطالب بالاشتغال في وظيفة معينة لتقسيم العمل الاجتماعي.
4. رابط المواطنة وهو الذي يربط الأفراد في نظام سياسي معين له قيمه الأخلاقية والاجتماعية الخاصة به.
ويرى سيرج بوغام، متفقًا مع أطروحة إميل دوركهايم لتقسيم العمل الاجتماعي، أنه كلما ضعفت هذه الروابط يختل توازن الفرد الاجتماعي ويقل اندماجه، وهو ما يسفر عن اختلال في التوازن النفسي والاجتماعي للفرد. واختلال التوازن هذا سببه اجتماعي وليس نفسيًا، وهو ما جعل العديد من الأطروحات بفرنسا، ككتاب “غوفمان والعمل الاجتماعي” لستيفاني غامو، و”علم الاجتماع في خدمة العمل الاجتماعي” لباتريك ديباشو، و”السوسيولوجيا والفهم للعمل الاجتماعي” لجون ديتراني، يثيرون مسألة الموضوع في العمل الاجتماعي.
تعتبر هذه الأطاريح أن موضوع العمل الاجتماعي هو التدخل الاجتماعي وليس النفسي. وبذلك فإن موضوع الاجتماعي يتطلب دراية بمعرفة: ما المجتمع؟ ما بنياته؟ ما الرابط بين الفرد والمجتمع؟ ما وظائف الفرد في المجتمع؟ وما الذي يقع للفرد حين تختل روابطه مع المجتمع؟
وسنبسط إجابتنا على هذه الأسئلة في أربعة محاور: أولها تعريف دوركهايم للمجتمع، ثم تصور دوركهايم لأدوار المدرسة، ثم أطروحة دوركهايم حول الانتحار، وأخيرًا تصور سيرج بوغام لمسألة التدخل بالعمل الاجتماعي على ضوء أطروحته حول الارتباط الاجتماعي.
1- إميل دوركهايم وتعريف المجتمع:
يُعتبر عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم أحد المؤسسين للمنهج السوسيولوجي. فقد حاول في كتابه “قواعد المنهج في علم الاجتماع” الفصل بين السوسيولوجيا والفلسفة الاجتماعية، مركزًا بذلك على الجانب العلمي في التفسير السوسيولوجي. ومن بين القواعد التي أسس لها دوركهايم في علم الاجتماع هي دراسة الظاهرة الاجتماعية كشيء، وقد بيَّن لنا من خلالها الإطار الإبستيمولوجي لهذا العلم وكذلك خصائص الظاهرة الاجتماعية التي تتميز بشيء لا يمكن للفاعل الاجتماعي رؤيته أو التفكير فيه لأنه يوجد داخل الوعي المجرد للإنسان.
ولم يقف دوركهايم هنا، بل نجده قد أصدر أعمالًا تطبيقية ككتاب “الانتحار”، الذي اعتبر فيه أن هذه الظاهرة ليس لها دافع سيكولوجي فقط، بل هناك أسباب أكبر من المستوى الفردي وهو الجانب الاجتماعي، مضيفًا بذلك في حقل العلوم الإنسانية تفسيرًا علميًا جديدًا وهو تفسير الاجتماعي بما هو اجتماعي؛ أي اعتبار أن المشاكل التي يواجهها الأفراد داخل المجتمع لا ترتبط بالمستوى النفسي فقط، بل هناك مستوى آخر يؤدي إلى بروز “الفقر / الانتحار / الهشاشة / الجريمة / الهدر المدرسي” وهو مدى اندماجه في الجماعة أو عدمه.
ويُعتبر إميل دوركهايم أحد العلماء الصارمين في تحديد موضوعه. ففي دراسته للانتحار نجده قد حلل هذه الظاهرة من خلال قواعد المنهج التي أسس لها، وهي تعريف المجتمع والتطرق لأهميته بالنسبة للفرد، ثم دراسة الظاهرة كشيء “الحياد”، واعتماد الإحصائيات لتكميم الظاهرة. وهي ليست أدوات تحليلية فقط، بل هناك من اعتبرها هوية للباحث أو الدارس أو الموجه. وهذا ما يجعلنا نعتبر أن الملامح الإبستيمولوجية للعمل الاجتماعي قد ظهرت مع دوركهايم، خاصة حينما أسس لمقاربة وجود أمراض اجتماعية بسبب الاندماج المطلق أو عدمه، زد على ذلك وضعه لتقنيات التعامل مع الظواهر الاجتماعية “الموضوعية / اعتماد الإحصائيات”.
وهو إطار نظري مهم للعاملين الاجتماعيين، بحيث إن مهمتهم وفق هذا الإطار الإبستيمي تغدو مرتبطة بالإدماج الاجتماعي وليس تقديم حلول نفسية أو خدمات اجتماعية. وهو ما يفرض عليهم التكوين المعرفي، أي معرفة “معنى المجتمع / أهميته بالنسبة للفرد / وظائفه / آليات اشتغاله”.
وسنأخذ موضوعين اهتم بهما إميل دوركهايم لتبيان تصوره ومن بينهما المدرسة وظاهرتا الانتحار والجريمة. فيُعتبر المجال المدرسي حسبه محصلة لنظريته حول المجتمع. وهنا نستحضر أهمية فهم العامل الاجتماعي لمعنى المجتمع لأن أولويته، كما قال ستيفن ريلاك في عمله “علمية العمل الاجتماعي”، هي معرفة الفراغات التي يعاني منها الفرد داخل المجال الاجتماعي، وهذا يقتضي منه التكوين المعرفي الجيد.
ويُعتبر دوركهايم أحد أهم علماء الاجتماع الذين أسسوا لفكرة أهمية المجتمع بالنسبة للفرد من جهة، ومشاكله حينما تنفك عراه معه من جهة أخرى. بحيث إن الفرد حسبه لا يُولد كائنًا اجتماعيًا بل يمر من مراحل التنشئة الاجتماعية ليصبح كذلك، وهو ما يجعله جزءًا من الجماعة التي ينتمي لها. فالفرد حسب دوركهايم يتسع نشاطه الخلقي كلما ازداد سنه في جماعته، ويرسم هذا النشاط الخلقي حدود السلوك الفردي ويحدد له أدواره في المجتمع (تقسيم العمل الاجتماعي).
ويعتبرها في هذا السياق بيار بورديو “منطق لعب”، بحيث إن الفرد داخل جماعته هو يشبه اللاعب، فلكي يلعب جيدًا يجب أن يتعلم قواعد اللعبة، وهي التي تُسمى في الطرح الدوركهايمي بالأخلاق. فهي قواعد اجتماعية يتطبع بها الفرد وتتملكه فيصبح بذلك جزءًا من المجتمع. وتتمظهر هذه الأخلاق في “اللباس / اللغة / أمنيات الفرد / الذوق”.
وسيُشبه دوركهايم المجتمع بالمثل الأعلى للفرد؛ فهو يخضع له بكونه ذلك الكائن الخارجي عنه والذي يتملكه. فداخل كل فرد بالمجتمع ضمير أخلاقي ناتج عن الوعي الجمعي الذي هو المجتمع. فتفكير الإنسان في أخلاقه وكيف تكونت هو شبه مستحيل لأنها جزء منه، وعبرها يتفاعل مع الآخرين ويحظى بالاعتراف الاجتماعي.
وتحدد هذه الأخلاق دائرة السلوك الفردية بحيث أنها تحدد ما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون، والخروج عن هذه القواعد يقابل بالقهرية. وهي مقاومة حسب دوركهايم تقوم بها مجموع الأخلاق المنقوشة داخل الفرد أمام السلوكيات التي تخالف النظام العام.
ويعتبر دوركهايم الفرد الأناني هو الذي يتمرد على الاجتماعي والذي يقطع مع روابطه التي تجمعه مع المجتمع. وهو ما يجعله حسبه عرضة للانهيار، وذلك لكون أن القطع مع المجتمع يعني القطع مع الضمير الأخلاقي وهو الذي يقاوم السلوكيات التي تخالف قواعد المجتمع. كما أن دوركهايم، علاوة على ما سبق، يعتبر أن القاعدة العامة للمجتمع خيرة لأنها تسلك صوب سلوك جمعي سابق على وجود الفرد نفسه، وهي اتفاق جمعي وتنظيم جمعي حول ما يصح أن يكون.
وهنا يربط دوركهايم بين الأمراض الاجتماعية وعدم الاندماج. فالإنسان حسب دوركهايم هو من الناحية المادية جزء من الكون، لكن من الناحية المعنوية هو جزء من المجتمع. وإن حاول تجاوز الحدود التي تفرض عليه من النظام العام فهو يتناقض مع طبيعته، والتي يلخصها في كونه كائنًا اجتماعيًا.
فغاية المجتمع حسبه هو أن يحول سلوكياتنا من سلوكيات عشوائية إلى أفعال أخلاقية أو أفعال غير شخصية. فالأفعال الأخلاقية هي علاقات بين ضمائر مجتمعية تتخذ من المجتمع ومن النظام العام هدفًا.
فيُعتبر هذا الإطار النظري مهمًا لفهم دور المدرسة وظاهرة الانتحار لدى دوركهايم من زاوية العمل الاجتماعي.
2 – المدرسة والإندماج الاجتماعي:
انطلق دوركهايم في تناوله للمدرسة من اعتبار أن الطفل أو التلميذ في المدرسة حينما يسأل فإنه يود ترتيب الأشياء والمشاعر التي يحسها. فوظائف المجتمع يقوم بعضها على بعض وتؤثر بعضها في بعض، وبذلك فلا يمكن حسب دوركهايم أن تترك للأهواء الفردية. بحيث أنه طيلة يومنا لا يمكن أن نجد لحظة واحدة دون العمل لخدمة النظام الاجتماعي. وإذا كان الانتظام في الحياة وليد الحضارة وبناء، فإن هذا يفسر عدم وجوده عند الطفل أو التلميذ. وبما أن روح الخضوع للنظام حسب دوركهايم يتضمن تهذيبًا للشهوات وتحكمًا في النفس وإدماجًا اجتماعيًا له مراحل، فإن هذه الصفة تعوز الطفل وكذلك من لا يخضع للنظام الجمعي.
ويعتبر إميل دوركهايم أنه يجب أن نستعمل العادة في إصلاح عدم الاستقرار الذي قد يشعر به التلميذ، ويقترح تعويد التلميذ بعادات منظمة في كل ما يتصل بالشؤون الهامة من حياته. وعبر هذا تثبت حياته الشاردة غير المستقرة. زد على ذلك أنه يعتبر أن روح النظام العام الذي نحاول أن ندمج فيه التلاميذ هو ليس ميلًا إلى الحياة المنظمة فقط، بل هو يشمل تعويد النفس على التحكم في رغباتها داخل المجتمع. أي الشعور بحدود لا يجب تعديها. بل يجب أكثر من ذلك أن يضع التلميذ أو الطفل في حسبانه أن هناك قوى أخلاقية خارجة عنه يجب أن يخضع إرادته لها لأنها سابقة على وجوده، وهي نتاج اتفاق عام، وهي سلوكيات أخلاقية توجه سلوك التلميذ نحو سلوك جمعي معترف به قانونيًا وأخلاقيًا. وأن القيام بعكس هذا يضع التلميذ أو الطفل في تيار عكس تيار مجتمعه. فغاية المدرسة حسب دوركهايم هو أن نبعث في التلاميذ شعور الميل للحياة المنظمة، والتي تعني الخضوع للنظام الاجتماعي العام.
ويشير إميل دوركهايم إلى مسألة أن الأسرة اليوم تتكون من مجموعة صغيرة من الأفراد وعلاقتهم لا تخضع لأي نوع من التنظيم العام. أما المدرسة حسبه، فيمكن أن تكون نظامًا أخلاقيًا بالنسبة للتلميذ، بحيث إن المجتمع المدرسي حسبه هو كالمجتمع العام. والفصول غير المنظمة حسبه هي كالحشد. ولذلك فيجب أن ننتقل إلى مسألة العقوبة والمكافأة في علاقتها بالإدماج الاجتماعي. ويعرف دوركهايم العقوبة كونها ليست تعذيبًا جسديًا، بل هي الوقوف أمام الخطأ. بمعنى تأكيد سلطة القاعدة التي تجاوزها التلميذ أو الطالب. فالعقوبة داخل المدرسة أثناء تجاوز قاعدة اجتماعية ما هي “إلا رمز أو لغة يعبر بها الضمير العام في المجتمع”. ولا يمكننا حسب دوركهايم تعلم كيف نسلك إلا عبر الوسط الخارجي، الذي ينبهنا إلى الخطأ والصواب وذلك عبر رد الفعل الذي يقابل به نشاطنا.
ويربط دوركهايم هنا بين العقوبة واللوم. فمادام الطفل أو التلميذ يتجاوز قاعدة اجتماعية ستسفر مستقبلا عن تفكك بعض روابطه مع المجتمع، فإننا يجب أن نولد سلطة الواجب فيه في الوقت الذي يتحدى فيه هذا الواجب. وهنا نلاحظ أن دوركهايم يربط بين القاعدة الاجتماعية والواجب. وفي هذا الصدد يقول: “إن الواجب يقوم بتوكيد الشعورية في نفس المذنب وفي نفوس من شهدوا الخطأ ويخاف هو والشاهدون أن تسري فيهم عدواه، وهو ما يجعله يعترف بالخطأ وتجعله يعتبرها ضارة”، كالإدمان، الغياب، التهاون، الكسل، العنف ..الخ.
ويجب حسبه منع العقوبات الجسدية منعًا باتًا، لأن آلية المنع داخلنا وقهريتها هي ليست مادية بل شعورية تتملكنا وتمنعنا من الخطأ. ولذلك يجب أن تحاكي العقوبة المدرسية ميكانيزمات المبدأ القهري للقاعدة الاجتماعية داخلنا، فهي تأتي من خلال الاعتراف الجمعي ثم إحساسنا بخطورة تجاوزها أمام الآخرين وذلك عبر عموميتها وتكرارها داخل الفضاء العام.
علاوة على ذلك، يقترح دوركهايم نظام المكافأة الذي يعني مقابلة التلاميذ الذين يطيعون القواعد الاجتماعية والأخلاقية بمكافآت أو جوائز أو أي وسيلة للتقدير أمام الجميع. وللتوسع في هذه الفكرة ينقلنا دوركهايم لفكرة الميول الأناني، وهو الميول الذي يقود الفرد إلى لذته، ثم الغيرية التي تتخذ موضوعًا لها لذة كائن مغاير لفاعلها. ويرى في هذا الصدد أن الأطفال بالمدرسة أو التلاميذ هم أنانيون بحيث إنهم لم يتلقوا قواعد تمنع أنانيتهم هذه. وعبر التربية يمكن أن تركب فيهم النوازع الغيرية.
وهنا يضرب دوركهايم مثالًا بالسارق أو المدمن على الخمر، فهو يعلم جيدًا أن فعله لا ينجم عنه إلا الضرر والعذاب ومع ذلك لا يكبح جماحه. فالسُكر والسرقة هما اللتان تجذبانه. فحينما يكون الميل للأشياء مرتبطًا بصحتنا، جسمنا، ثروتنا أو سمعتنا ومركزنا الاجتماعي، وهو مرتبط بحب الحياة والمال والشرف، فهذا مرتبط بالأنانية؛ أي إنه ميول لا يضع في حسبانه عاقبة لشيء فهو نشاط متهور ولا يخضع للنظام والمصلحة العامة.
ثم هناك ميول آخر غيري كالمكان الذي عشنا فيه أو الأشياء المألوفة، ثم الجماعات الاجتماعية كالأسرة والنقابة والوطن والإنسانية. فهي إذن لها وجودها الخاص المتميز عنا وعن كل ما هو فردي فينا “الأناني”. ولا يمكن أن نتعلق بالمستوى الغيري إلا إن خرجنا عن ذاتنا، وعن تركيبتنا الخاصة. فما يميز هاتين المسألتين حسب دوركهايم هو اختلاف النشاط، فالأول هو مرضي أما الثاني فهو خارج الذات بحيث هو ذو قوة طاردة ومانعة للخطأ من خلال المجتمع.
فالشعور الغيري هو ملاحظ من الآخرين مما يجعله قهريًا ومانعًا لما يخالف الأخلاق المتعارف عليها. وهنا يشير دوركهايم لضرورة استحضار هذه القاعدة النظرية داخل المدرسة، بحيث إن العامل الاجتماعي لا يجب أن يتكل على التفسير السيكولوجي فقط داخل المجال المدرسي في عملية الإدماج لأنها ستبعده عن موضوعه وسياق اشتغاله.
فمعرفتنا بميكانيزمات اشتغال المجتمع تجعلنا ندري التكوين الاجتماعي للإنسان، بكونه كائنًا اجتماعيًا. فالتلميذ داخل المدرسة يجب أن يعامل سلوكه الأناني بمنطق الإدماج الاجتماعي إلى المستوى الغيري، عبر تقنية العقاب الاجتماعي الذي لا يعني العنف. بل على عكس من ذلك، كما يقر دوركهايم، بحيث يجب أن يستشعر التلميذ خطأه أمام باقي التلاميذ وأن يعترف بخطئه. وفي الآن ذاته يجب أن يحصل على مكافأة أمام الجميع، والتي تعني الاعتراف الاجتماعي والإدماج.
وتشبه هذه الميكانيزمات حسب الطرح الدوركهايمي عملية التطبع الاجتماعي والاندماج في الجماعة. فلكي نندمج يجب أن يعترف أهلنا وجيراننا وأساتذتنا وسائق الحافلة بنشاطاتنا الاجتماعية، وإلا سيشعرنا الآخرون بأننا أجانب على مجالهم الاجتماعي.
3 – الأسباب الاجتماعية للانتحار:
كما بينا في الفصل أعلاه، فإن دوركهايم لم يكن يفكر في قواعد علم الاجتماع فقط، بل كان أيضًا يؤسس لإطار نظري لكل ما هو اجتماعي بعده في البحث العلمي أو في المواكبة والتدخل. فقد بين لنا أن للإجتماعي ميكانيزمات خاصة به يصعب التعامل معها إن لم يدرك الباحث أو المتدخل سياقها المعرفي. ففي كتابه “الانتحار”، عرض لنا دوركهايم في الباب الأول الأطاريح التي تناولت التفسير السيكولوجي للانتحار، أما في الباب الثاني فقد خصصه لنقد هذه الأطاريح، بحيث عنونه بالأسباب الاجتماعية للانتحار.
وتعتبر أهمية دوركهايم بإبستيمولوجيا العمل الاجتماعي، في كونه استطاع تكميم ظاهرة الانتحار في عمله “الانتحار” من خلال الاستعانة بالإحصائيات والمعطيات الرقمية والخرائط التي تغطي الظاهرة في مجموعة من الدول الأوروبية. وقد انطلق من قاعدة محورية وهي مقاربة الاجتماعي بما هو اجتماعي، وهي قاعدة مهمة أيضًا للعمل الاجتماعي. فصحيح أنه يمكننا الاستعانة بما كتب تشريعيًا وسيكولوجيًا حول الإعاقة وذوي الاحتياجات الخاصة ومرضى الصرع، لكن يجب اعتبارها آليات تعمل تحت لواء الإدماج الاجتماعي. وللاجتماعي، كما بين دوركهايم، موضوعه الخاص به وإطار إبستيمولوجي، إن خرجنا عنه سنسقط في تفسير آخر كالتفسير القانوني أو السيكولوجي أو الاقتصادي.
فقد صاغ إميل دوركهايم ثلاثة مفاهيم في أطروحته لتفسير الانتحار:
أولًا: الانتحار الأناني: ويعني به تفكك الروابط الاجتماعية سواء العائلية أو الدينية أو السياسية. وهنا نعود لما تحدث عنه دوركهايم حول الأنانية، فهي إلغاء للصوت الأخلاقي فينا والانصياع للرغبات والملذات، وهي التي تصل بالفرد إلى مستويات تدمره كفرد بالمجتمع، مثل الإدمان على الكحول أو السرقة… إلخ. ويظهر هذا الانتحار أيضًا حسب دوركهايم حينما يكون هناك انتقال مجتمعي من قيم إلى قيم أخرى، بحيث إن هذه الأخلاق الجديدة لا تستطيع أن تشعر الفرد بما أعطته إياه الثقافة السابقة. فيمكن أن يكون هذا الانتحار أيضًا ذو أسباب جماعية حينما يكون الانتقال الأخلاقي من أخلاق لأخلاق جديدة تتهيأ أسبابه الاجتماعية، وهي المرتبطة بالتغيرات القيمية التي تحدث والتي تقابل بمواجهة الفرد لصدمة معينة أو إخفاق معين أو ضغط عصبي معين أو قلق مزمن، مما يجعله يتراخى عن انخراطه في المجتمع، وهو ما يؤدي به إلى قطع الروابط التي تجمعه مع الآخرين والتي تشعره بالأمان والاستقرار والقيمة والواجب.
ثانيًا: الانتحار الغيري: وهو المرتبط بالإندماج المبالغ فيه، كانتحار رجل لأنه أصبح عجوزًا أو انتحار زوجة لفقدان زوجها أو انتحار الجنود عند موت زعيمهم. فهو يقع حينما يكون الفرد مندمجًا اندماجًا قويًا في جماعة معينة أو في المجتمع. ويحدث هذا في التجمعات الدينية المغلقة حسب دوركهايم، وفي الثكنات العسكرية أيضًا. فالضغط الذي تزاوله هذه الجماعة حينما تزول، تجعل الفرد المندمج لا يستطيع أن يتحرك حركة واحدة بمفرده، بحيث إنه كان يتلقى الاعتراف من هذه الجماعة الذي يعطي لحياته معنى وهدفًا.
ثالثًا: الانتحار الفوضوي: وهو لا يعود للفقر والبؤس بحد ذاتهما بل هو نتاج أزمات بالنظام الجمعي مرتبطة بالجانب الاقتصادي، بحيث إن الفرد سواء الفقير أو الغني فإنه يشعر بانفصاله عن المجتمع بسبب الفقر أو الغنى. بحيث إن الفقير يصبح تفكيره خارج المجتمع وكذلك الغني يصبح تفكيره خارج الاجتماعي (نحيل إلى كتاب الاستبعاد الاجتماعي لجون هيلز وجوليان لوغران). وهما سببان يؤديان إلى عدم الاندماج في التماسك والتضامن الاجتماعي، بحيث إن الفقير يحسب نفسه مستبعدًا وغير مرغوب فيه، أما الغني فيحسب نفسه له كل المؤهلات المادية ليعيش فردانيًا. فالانتحار إذن له دوافع خارجية قبل أن تكون فردية. فمادام المجتمع هو الذي يصنع الإنسان فإن الدافع لانتحاره هو نتاج قوة جمعية يجب معرفتها واستحضارها.
وهنا نستحضر مقالة إميل دوركهايم حول الجريمة كظاهرة عادية. فالجريمة ظاهرة عادية حسبه لأنها تقع حينما لا يخضع الفرد لأخلاقه ولميوله الغيري، بحيث إن هذه الأخيرة تشتغل كمانع لما هو أناني فينا مما يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية مع الأخلاق والمجتمع، وهو ما يؤدي إلى الجريمة أو الانتحار.
وحينما يكون الإنسان أنانيًا حسب دوركهايم، فهو يصبح كريشة في الهواء، وأي شيء قادر على تدميره حتى من الأزمات الفردية البسيطة. والجريمة مفيدة حسب دوركهايم لأن المجتمع يطور من خلالها القوانين وكذلك الأخلاق التي سيمنع بها هذه الجريمة من التكرار. وأيضًا الانتحار فقد تكون أسبابه ذو عوامل فوضوية أو أنانية أو غيرية.
وهذا يجعلنا حسب دوركهايم ننتقل إلى إشكالية: ما العمل؟ وما الدور الذي يجب أن يقوم به المجتمع لمنع هذا الانتحار أو الجريمة؟ وهنا يتساءل دوركهايم حول التعويل على المجتمع السياسي لحل مشكلة الانتحار؟ ويجيب دوركهايم على أن هذه المشاكل الاجتماعية لها متخصصوها في الاجتماعي والعارفون بميكانيزماتها. فلكل دوره، فلا يمكن للحداد أن يصبح نجارًا. وهنا ينتقل إلى ما سماه بالجماعات الوظيفية أو النقابات العمالية والوظيفية بالمجتمع. وهنا نرى أن دوركهايم كان يدعو لنوع من العمل الاجتماعي لكن بتصور يتماشى مع زمنه ووقته.
4 – سيرج بوغام – الأنوميا والعمل الاجتماعي من الرابط الاجتماعي إلى الترابط الاجتماعي:
من خلال ما سبق يتبين لنا أن للإجتماعي موضوعه، وأن ما يختلج الأفراد في المجتمع هو قبل أن يكون نفسيًا ذو أسباب اجتماعية، بحيث هناك قوى أكبر من الفرد. فنحن، كما قال بيار بورديو، نوجد داخل المجتمع لكنه أيضًا يوجد فينا ويتكلم من خلالنا.
وهنا ننتقل لمفهوم الأنوميا لدى دوركهايم، وهو مفهوم تطرق له في كتابه السالف الذكر “الانتحار”، والذي يعني حالة القلق الفردية التي تنجم عن انهيار المعايير والقيم الاجتماعية. وقد تطرقنا في المحور الأول لمفهوم المثل الأعلى عند دوركهايم، وهي مجموع القيم الأخلاقية التي تحدد لنا دائرة سلوكنا الفردية، وهي أيضًا آلية للمنع حينما نود القيام بسلوك خارج النظام المجتمعي الذي نعيش فيه كالجريمة أو سب إنسان أمام الجميع أو السرقة أو الغش. فهو دائرة السلوك الفردية التي تحدد لنا ما سنفعله وما لا يجب أن نفعله.
وحينما تتفكك هذه العلاقة ولا يكون لنا هدف موحد اجتماعي وليس لنا مثلنا الأعلى الاجتماعي، نسقط في الأنوميا التي تجعلنا أمام فجوة وهوة بين أهدافنا الاجتماعية المعلنة والوسائل التي يجب اتباعها لولوج هذه الغاية. وهنا يقول دوركهايم: “كل حياة هي توازن مركب، تحدد مختلف عناصره بعضها البعض، وإذا ما اختل هذا الاتزان نسقط في الألم والمرض”. ويعتبر أيضًا أن كل فعل أخلاقي هو مقاومة لميول أناني معين وانحراف عن السياق الاجتماعي العام.
فالثقافة تحدد الأهداف والطرق التي يجب اتباعها للوصول للهدف، وحينما ينصاع الفرد لأنانيته فإنه يسقط في هدف تسريع الوصول إلى الغاية، وهو ما يؤدي إلى اتباع طرق أخرى غير أخلاقية للوصول إلى الهدف. فهنا نسقط في نوع من الأنوميا، أي أن المعايير الأخلاقية لا تصبح متطابقة مع السلوك، كالسرقة أو الرشوة أو الهجرة غير الشرعية أو التحرش الجنسي. ويدفعنا هذا الطرح إلى التفكير مع أحد تلامذة إميل دوركهايم حول مسألة الترابط الاجتماعي وعلاقته بالتدخل الاجتماعي، وهو عالم الاجتماع الفرنسي سيرج بوغام.
فهل يعقل إذن من خلال كل ما ناقشناه أن يفكر العامل الاجتماعي خارج ما ينتج في الأبحاث السوسيولوجية؟ وإن قام بذلك، فهل تدخله يندرج ضمن الإدماج الاجتماعي أم في تقديم خدمة اجتماعية للفرد؟
في مقالة سيرج بوغام المنشورة حديثًا، والمعنونة بـ”هيكلة المجتمعات الحديثة”، نجد أنه ناقش فيها مسألة الأسرة والوطن والإنسانية، معتبرًا أن الوطن هو ذو مستوى أعلى بالنسبة للفرد لما يتضمنه وما يحتويه من قيمة بالنسبة له. فرابط المواطنة والمدنية حسب كل من دوركهايم وبوغام له من الأهمية البالغة في حياة الفرد. وهنا يتساءل بوغام مع دوركهايم حول كيفية تنظيم الأسس الأخلاقية للتضامن؟ وهو موضوع لا يرتبط بعلم الاجتماع فقط بل بالعمل الاجتماعي أيضًا.
وهنا يميز لنا سيرج بوغام بين أربعة أنواع من الروابط الاجتماعية المهمة لكل فرد داخل المجتمع:
1. رابط البنوة وهو رابط القرابة.
2. رابط المشاركة الاختيارية وهو المتعلق بالأصدقاء والأقارب المختارين.
3. رابط المشاركة العضوية وهو المرتبط بالاندماج المهني.
4. رابط المواطنة الذي يعني العلاقات بين أعضاء المجتمع السياسي نفسه.
ويشير بوغام إلى أن هذه الروابط الأربعة تشير إلى أربعة مجالات متميزة عن بعضها: فرابط البنوة مرتبط بالأخلاق المحلية، ورابط المشاركة العضوية للأخلاق المهنية، ورابط المواطنة للأخلاق المدنية. فهذه الروابط الأربعة تشكل نسيجًا اجتماعيًا يلف الفرد. ويختلف مفهوم المواطنة حسب بوغام من مجتمع لآخر. فكلما ضعفت هذه الروابط في حياة الفرد يكون معرضًا للوهن الاجتماعي، وهو ضد الإدماج الاجتماعي.
وانتقالًا إلى حوار أجري مع سيرج بوغام، والذي عنون بـ”يجب على العمل الاجتماعي نسج روابط تحريرية”، والذي سنعرض بعض ترجماته، نجده قد ناقش مسألة أساسية وهي موضوع العمل الاجتماعي ومسألة تدخله، وهي على الشكل الآتي:
س: هل يمتلك متخصصو العمل الاجتماعي مفاتيح المضي قدمًا في هذه التحولات النموذجية؟
ج: من الواضح أن إدارة المؤسسات هي في الخطوط الأمامية فيما يتعلق بهذا الموضوع المحدد، لأن الأساليب التنظيمية ليست دائمًا عملية ويجب التشكيك فيها. في كثير من الأحيان، يجد العمال الاجتماعيون أنفسهم عالقين في مواصفات لا تترك لهم مجالًا كبيرًا للمناورة. ومن ثم، تاريخيًا، تأثر التدريب على العمل الاجتماعي بعلم النفس أكثر من تأثره بعلم الاجتماع، حيث دافع عن فكرة أن الناس بحاجة إلى الإصلاح. ومنذ ذلك الحين، يتم نشر الوسائل لحماية الشخص ودعمه حتى يتمكن من الوصول إلى الموارد الموجودة في أعماقه.
س: نعود إلى السؤال: مفاتيح المضي قدمًا ليست في أيدي الموجودين على الميدان؟
ج: يتطلب العمل على الاعتراف والعمل الجماعي إعادة التفكير في طريقة تنظيم العمل الاجتماعي. الأسئلة الحقيقية التي يجب الإجابة عليها هي: ما هي الأهداف التي يجب تحقيقها من خلال العمل الاجتماعي اليوم في مجتمعنا؟ ما هو نوع العمل الاجتماعي الذي نريده حقًا لمجتمع القرن الحادي والعشرين؟
يتبين لنا أن المجتمع حسب كل من سيرج بوغام وإميل دوركهايم قبلهما يتفقان على أن لكل ما هو اجتماعي موضوعه، وأن دراسة أو مقاربة ما هو اجتماعي يتطلب عينًا فاحصة لها تكوين معرفي مرتبط بهذا الموضوع. فلا يمكن لعالم الاقتصاد أن يدمج اجتماعيًا ولا عالم النفس أيضًا لأن لكل موضوعه. وهنا نعود لما سلم به سيرج بوغام وهو يدرس الأطفال المرحب بهم في المدرسة، أنه ونحن نحاول التدخل في هذا الموضوع يجب أن نرتدي زي المدمج الاجتماعي. ولكي ندمج اجتماعيًا يجب أن تكون لنا دراسة بما يكتب سوسيولوجيًا حول التضامن الاجتماعي، والتماسك الاجتماعي والروابط الاجتماعية. لأننا لن نقول للطفل ما هي عقدك النفسية وهل تصرخ عليك أمك، بل للعامل الاجتماعي موضوعه، كما قال بوغام، وهو أن يبحث كيف يدمجه مع بيئته.
خاتمة
فمن خلال ما سلف، يتبين لنا أن المجتمع حسب كل من سيرج بوغام وإميل دوركهايم قبله يتفقان على أن لكل ما هو اجتماعي موضوعه، وأن دراسة أو مقاربة ما هو اجتماعي يتطلب عينًا فاحصة لها تكوين معرفي مرتبط بهذا الموضوع. فلا يمكن لعالم الاقتصاد أن يدمج اجتماعيًا ولا عالم النفس أيضًا، لأن لكل موضوعه.
وهنا نعود لما سلم به سيرج بوغام وهو يدرس الأطفال المرحب بهم في المدرسة، أنه ونحن نحاول التدخل في هذا الموضوع يجب أن نرتدي زي المُدمِج الاجتماعي. ولكي ندمج اجتماعيًا يجب أن تكون لنا دراسة بما يُكتب سوسيولوجيًا حول التضامن الاجتماعي، والتماسك الاجتماعي، والروابط الاجتماعية. لأننا لن نقول للطفل ما هي عقدك النفسية وهل تصرخ عليك أمك، بل للعامل الاجتماعي موضوعه، كما قال بوغام، وهو أن يبحث كيف يدمجه مع بيئته.
ـــــــــــــــ
المراجع :
إميل دوركهايم – التربية الأخلاقية – ترجمة محمد بدوي – كتابك للنشر والتوزيع
إميل دوركهايم – الإنتحار ترجمة حسين عودة – دراسات اجتماعية
سيرج بوغام – الرابط الإجتماعي – ترجمة نصير مروة – الفكر العربي
المقالات :
Serge paugam – la structuration des sociétes modernes – college de France -la vies des idees
Serge paugam – le travail social doit tisser des liens liberateurs – reiso
Emil durkheim – le crime un phénomene normal
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22482