نورالدين الحاتمي
يدوراليوم نقاش حول واحد من أهم الكتب التي خلفها عبد القادر بن عبد العزيزـ و اسمه الحقيقي سيد إمام الشريف ـ أعني كتاب “العمدة في إعداد العدة” ومدى مساهمته أو دوره في نشر “التطرف” و التبشير فيه في أوساط الشباب.
وقبل أن نقف عند هذا الكتاب، ينبغي أن نتوقف عند هذا الرجل بالذات، حيث لعب دورا خطيرا في التقعيد و التأصيل للأعمال” الجهادية” و العنيفة، التي يوقعها “الجهاديون” وإضفاء الكساء الإسلامي و السلفي عليها ، وقد كان الرجل ـ كما يقولون عنه ـ راسخ القدم في العلم الشرعي إلى درجة أن واحدا كهاني السباعي، قال انه لم ير عالما و أصوليا ومؤرخا تضاهي قامته قامة هذا الرجل.
ومما يؤكد هذه المكانة، أنه قلما تجد شيخا من شيوخ هذا التيار لا يستدل به ولا يستشهد، وقلما تجد كتابا ألفه أحدهم لا يحيل عليه و لا ينقل عنه، وما ذاك إلا للسلطة التي يمارسها على متلقيه و قارئيه، وربما تأتى له ذلك، من خلال ما لمسه أتباعه و معجبوه من أنه تمكن من الرد على كثير من الطوائف “البدعية” و دحض شبهات الشيوخ المصنفين عندهم “كمرجئة” و مجادلين عن” الطواغيت”، وبين أن مشكلة هؤلاء تمكن في تصورهم المغلوط للدين، و فهمهم القاصر للإيمان.
صحيح أن أبا قتادة الفلسطيني قد تصدى له وحمل عليه و هاجمه، بأسلوب يخلو من أخلاق العلم وآدابه، حيث اعتبر في “طليعة رده” عليه أنه “اصابه سعار التكفير” و أن هذا السعار مبعثه سوء النية و خبث الطوية و أنه يعترض على أهل العلم الموثوقين بطريقة غير مهذبة، أو كما قال، و أنه “متعالم حاقد”، وصحيح أيضا أن كل هذه الاتهامات لها ما يعززها و يسندها، حيث ورد ما يؤكد ذلك بدءا مما كتبه في مقدمة الجامع إلى سجالاته مع الظواهري. ولكن كل هذا لا ينقص من قدره، فقد جرت العادة أن الذين يفرضون ذواتهم على الناس و ينتزعون اعترافهم بهم كأسماء وازنة، فإن هؤلاء الأخيرين ينقسمون بشأنهم، بين مؤيد لهم وناقم عليهم.
إن القول أن هذا الكتاب، يتحمل المسؤولية في نشر ثقافة “التطرف” قول يفتقر إلى الدقة، ويفتقر إلى الموضوعية ، آية ذلك أن هذا الكتاب بالذات لم يكتبه صاحبه من أجل التحريض على ارتكاب الأعمال الإرهابية، و لم يكتبه للدعوة إلى العنف بالأصالة، كما هو الشأن بالنسبة للكتب التحريضية الأخرى. لقد كتب الرجل هذا الكتاب كما يوحي بذلك عنوانه “العمدة في إعداد العدة”، لمرحلة ما قبل” الجهاد”، أي للإعداد، كفريضة تتعين على الأمة حين تعجز عن أداء الجهاد، وبالضبط كما قال “أبو مصعب السوري” لترتيب العلاقة بين أمراء المعسكرات و من هم تحتهم وتحت سلطتهم ، وضبطها بقواعد الشرع و توجيهاته، وبيان حقوق و واجبات كل من الامراء و الجنود.
وإذا كان الكتاب يتضمن الحديث عن الجهاد و الرباط و فضلهما في الإسلام، فإن ذلك إنما أورده الكاتب من باب الدعوة إلى إخلاص النية و تجديدها، والقواعد التي أوردها في الكتاب و المتعلقة بالعلاقة المشار إليها بين الأمراء و الجند المتدربين في المعسكرات، قواعد شرعية لا غبار عليها، و هي تصلح في كل المعسكرات و ليست خاصة بتلك التي يؤسسها “الجهاديون”.
وإلا ما العيب و ما المشكل في الدعوة إلى ان يتقي الأمراء الله فيمن هم تحتهم و أن ينصحوا لهم و أن يحرصوا على ما صالحهم؟ و ما العيب في الدعوة إلى ان يطيع الجنود أمراءهم بالمعروف، و مادامت الطاعة في غير معصية الله”. أقصد أين التطرف هنا؟ يضاف هنا أن تلك القواعد التي أوردها و ساقها في كتابه ، ليست من بنات أفكاره و ليست من مبتدعاته، أي لم يُسبق إليها، وإنما هي مما هو مبثوث في بطون الكتب الفقهية التراثية، و كل من يهتم بالفقه و التراث الفقهي الإسلامي يقف عليها و أكثر، و الذين يزعمون أنهم يقومون بنوع من تصفية الحساب مع دعوات “التطرف” و “الكراهية” ـ أو كما يحلوا لهم أن يقولوا ـ يتوجب عليهم أن يعلنوا موقفهم النهائي و الحاسم من التراث الفقهي الإسلامي جله، وإلا فإن موقفهم سيظل غامضا و ملتبسا، إنهم يحترمون الأسماء التي يعود إليها الرجل، و ينقل منها و يستمد منها الشرعية لأفكاره و “مذهبه”، و يتقاسمون معه احترام تلك الأسماء و الاعتراف بمرجعيتها، و مع ذلك يهجمون عليه وينكرون عليه ما يقول.
إن الإنكار عليه ، هنا، يتطلب، بالضرورة، الإنكار على السلف المؤسس، وإن إدانة هذا الكتاب و ما على شاكلته إدانة لكتب الجيل المؤسس نفسه. وهذا ما لم يجرؤا عليه إلى الآن، وذلك لافتقارهم إلى الشجاعة والجرأة.
لنعرف قيمة الكتاب، ومدى تأثيره في الشباب ودفعه نحو حافة التطرف، ينبغي أن ندرسه في سياقه الزمني ، فلو قالوا أن هذا الكتاب كان له نوع من الـتأثير قبل عقد أو ما يقرب من عقدين، ربما كان لهم بعض من الحق و بعض من الصواب، خصوصا و أن الكتاب تضمن طائفة من الأحكام المتعلقة بالجهاد و حكم “الطائفة الممتنعة “.
أما اليوم فأعتقد أن الكتاب و صاحبه فقدا بريقهما: أما صاحب الكتاب، فقد خسر بريقه و قيمته وسط التيار، يوم قطع صلته بالتنظيم، و كرس هذه الخسارة، يوم انخرط فيما سمي “بالمراجعات” وأصدر “وثيقة ترشيد العمل الجهادي” الذي طالب فيه بإيقاف هذا العمل وانصراف ممارسيه إلى غيره من الاعمال الصالحة، التي لهم فيها متسع و مندوحة عما هم فيه من العنت و الحرج، وذلك لأن هذا العمل “الجهادي” لم يفض إلى نتائج طيبة، ولم يحقق ما كان مرجوا منه، و إنما جاءت نتائجه عكس ما هو مراد و مطلوب، بل أدى إلى نتائج كارثية و مؤلمة، جعلت اعتباره أمرا محرما أمرا لا يرقى إليه الشك. وهي الوثيقة التي كان لها ما بعدها ، إذ جرّت إلى رد عنيف من قبل أيمن الظواهري في كتابه “التبرئة” و رد عنيف مضاد من قبله ـ أي سيد إمام ـ ضد هذا الاخير في كتابه” التعرية”.
وإذا كان سيد إمام قد قطع صلته بتنظيمه مبكرا، و كرس هذه القطيعة بما خطت يداه في وثيقته، فإن الكتاب نفسه أصبح متجاوزا لاعتبارات، أهمها أن صاحبه، نفسه، انقلب عليه وتجاوزه بما دعا إليه من وقف تلك الاعمال و الانصراف إلى غيرها، وأنه تضمن عددا من الإرشادات و القواعد و الفتاوى التي تم تجاهلها من قبل القاعدة ـ عنوان الجهاد الأبرز في وقته ـ من أبرزها، أن الرجل في كتابه هذا “العمدة في إعداد العدة” يدعو إلى مقاتلة العدو الاقرب و عدم تجاوزه إلى الابعد، عملا بالآية الكريمة التي ما فتئ يذكرها، ويعتبر عدم الالتزام بذلك مخالفة صريحة للأمر الإلهي، في حين أن “جماعة القاعدة” عولمت الجهاد و انتقلت بمشروعها إلى العدو الأبعد، وأعلنت الحرب عليه في مخالفة صريحة لما يذهب إليه و يفتي به سيد إمام، و هو الموضوع بالذات، ظل سيد إمام متمسكا به، ناقما على القاعدة بسببه، ومتهما إياها بمخالفة الشرع الحكيم، و ذلك في أكثر من مناسبة.
ثم إن الممارسات الميدانية التي تبلغنا أخبارها من العراق و الشام، تؤكد أن القواعد الشرعية و الاحكام الفقهية التي أكد عليها الرجل في كتابه “العمدة ” هذا، لا حظ لها من الواقع ولا نصيب ، فإذا كان الرجل يؤكد على أن الامير يجب اختياره من أفضل الناس و خيرتهم، وليس ما تعارف الناس عليه من القرابة و المحسوبية و ما شابه، فإن ما عليه القوم في الواقع يؤكد عكس ذلك تماما، حيث أن ترقية العناصر في السلم التنظيمي و القيادي و توليتهم في المناصب المسؤولة والمهمة، لا تتم عبر الشروط الشرعية المرعية، و إنما تتم عبر طرق و أساليب لا يقرها الشرع ولا يرضى بها.
ثم إن جماعة “الدولة” الآن، و هي التي تعتبر نفسها الوريثة الشرعية الوحيدة لقاعدة الجهاد كما أسسها ابن لادن، و لابن لادن نفسه، و استطاعت أن “تزيح” القاعدة من على المشهد، و تحل محلها إلى درجة أن المنتسبين إلى الى التيار الجهادي ـ في الجملة ـ ليسوا إلا “دواعش” سواء كانوا واعين بذلك أم لا.
أقول إن جماعة” الدولة” الآن، أسست لنفسها، و لمن يدين بمنهجها، أدبيات خاصة أنست الأتباع الأدبيات السابقة، وكرّست أسماء جديدة أنست الرموز الذين كانوا قبل. حتى إذا قلنا ان جماعة “الدولة” قد نسخت ما قبلها و ألغته و أنها لم تبق إلا من كان منهجه موافقا لمنهجها لم نبالغ.
أستطيع أن أقول ان هذا الكتاب لم يكن مؤثرا كما يزعم بعض “الباحثين” ولا هو اليوم مؤثر، أو ذو قيمة و أن “الجهاديين” الجدد اليوم لا يهتمون به و لا يحتفلون به، كما كان الحال في السابق.
وإذا كانت جماعة الدولة قد استطاعت أن تنسي الناس تراث القاعدة و أعمالها بما صنعته و بما كرسته من رموز و أسماء و أدبيات، فإن هذا الجيل لا يتأثر بالقراءة و المطالعة، وإنما يتأثر بالأفلام التي تجيد جماعة الدولة صناعتها.
إن هذا الجيل تتم صناعته بماكينة الأفلام التي تتفنن جماعة الدولة في إخراجها وتبدع، وتتم صناعته أيضا بالخطب الحماسية التي تصدر عن قادة الدولة و أمرائها، وليس بالكتب التي لا يلتفت إليها إلا قليل.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=12543