عبد الحميد أبوزرة
في هذا العصر الذي تشهد فيه الشاشات نوعًا من الحمى المقدّسة، حيث تتحول الأصابع إلى مخلّصين جدد على موائد “التمرير”، وتغدو العلاقة مع الذات علاقة سطح لسطح، وواجهة لواجهة، تبرز أصوات قليلة، كأنها تغرد من الأعماق، تهمس للإنسان أن النجاة ليست في مزيد من الاتصال، بل في نزع السلك من الجدار، والهروب إلى الجبل والطبيعة حيث قد يجد الإنسان ذاته الأولى.
سيلفان تيسون، الكاتب الرحّالة، وبيير رابحي، الفلاح الفيلسوف، ليسا من طينة واحدة، لكنهما التقيا في مفترق حاسم: العزلة كاستفاقة، والطبيعة كملاذ، والبساطة كفلسفة مضادة لحضارة التكدّس والضجيج.
وكأنهما يجيبان، كلٌ بطريقته، على سؤال وجودي ملحّ: كيف نعيش حين تصبح الحياة صاخبة حدّ الصمم؟
ولد تيسون من رحم السفر، لا من رحم المدن. حين قرر أن يعيش ستة أشهر في كوخ خشبي على ضفاف بحيرة “بايكال” في سيبيريا، لم يكن يبحث عن تجربة طريفة، بل كان يؤدي طقسًا تطهيريًا، يُعيد فيه ترتيب العالم داخله.
يكتب: “كلما خفّ وزني من المتعلقات، زدت ثِقَلًا في داخلي.” لقد فهم تيسون أن الإنسان لا يعرف نفسه إلا إذا خرج منها، وعاد بعد حين وهو ينظر إليها من مسافة.
الطبيعة، في فلسفة تيسون، ليست مجرد خلفية للمشي والتأمل، بل هي مسرح وجودي، لا تنكشف أسراره إلا بالبطء، وبالسكوت، وبالانتباه”، يقول: “الغابة لا تكلّمك، لكنها تُصغي إليك إن أنصتّ.” في الغابة، لا تحتاج إلى مرآة لترى نفسك، بل يكفيك أن تحدّق طويلًا في رُقعة من الثلج، حتى تبدأ بالذوبان أنت.
أما رابحي، الفلاح المتصوّف، فقد انطلق من الأرض لا من الخرائط، جاء من الجنوب الجزائري، وعاش في الجنوب الفرنسي، يحفر الأرض كأنّه يُصلّي، ويزرع البذور كأنّه يكتب سورة جديدة. فهم باكرًا أن الزراعة ليست تقنية، بل حكمة، وأن العودة إلى التربة ليست تخلّفًا، بل نبوءة بيئية. يقول: “لقد بنينا حضارة تملك كل شيء، لكنها لا تعرف شيئًا عن السعادة.”
يرى رابحي أن البساطة ليست نقيضًا للغنى، بل طريقًا نحوه. الإنسان، في رأيه، يُستعبد حين تكثر احتياجاته، ويتحرر حين يقتنع بالقليل. ولذلك نادى بـ”البساطة السعيدة” (la sobriété heureuse)، كصرخة ضد منطق السوق، الذي يحوّل البشر إلى آلات استهلاك لا تهدأ.
اليوم، في زمن “الهيمنة الرقمية الكبرى”، تتحول شركات GAFAM (Google, Apple, Facebook, Amazon, Microsoft) إلى آلهة جديدة. تراقب، توجّه، وتشكّل الذوق والمعنى والسلوك. تصنع لنا خوارزميات مُبرمجة على الإلهاء، وتبيعنا الوهم على أنه تواصل، والانتباه على أنه سلعة.
تُذكّرنا تجربة تيسون أن قطع الاتصال ليس انتحارًا رقميًا، بل محاولة للعودة إلى الإيقاع الطبيعي للوعي. في كوخه السيبيري، لم يكن يكتب تدوينات، بل يسجّل في دفاتره لحظات الصمت، ومسرحيات الغيوم، وحواراته مع الوحشة.
وتُذكّرنا دعوة رابحي أن الخروج من النظام الصناعي لا يبدأ بالثورة، بل بزرع شجرة.
أن الاستقلالية لا تتحقق عبر التشفير ولا الذكاء الاصطناعي، بل عبر العودة إلى دورة الحياة: البذر، والمطر، والنمو، والحصاد.
ربما لم يقصد تيسون ولا رابحي أن يكونا أنبياء العصر الرقمي، لكن كلماتهما، اليوم، تبدو أكثر نبوة مما ظنّا. في صمتهما، صيحة. وفي عزلتهما، درس في المعنى.
لا عيب في التكنولوجيا، لكن العيب أن نُسلّم لها رقابنا. لا خطر في الهاتف، بل الخطر أن يتحوّل إلى قلبٍ إضافي.
في تحليله الدقيق لملامح الحداثة المتأخرة، يشير زيجمونت باومان إلى أن الحياة المعاصرة باتت تتسم بهشاشة غير مسبوقة، حيث فقدت العلاقات الاجتماعية صلابتها، وتحولت إلى كيانات سائلة لا تستند إلى جذور ثابتة. في ظل طغيان العوالم الرقمية، أصبح بالإمكان إنشاء روابط عاطفية أو اجتماعية عبر الشاشات، لكنها تظل عابرة، مؤقتة، وقابلة للمحو في لحظة. بنقرة إصبع، يمكن إنهاء علاقة، أو حذف صديق، أو الانسحاب من جماعة، وكأن الوجود الاجتماعي ذاته صار مؤطرًا بمنطق الاستهلاك: سريع التكوين، سهل الفقد، بلا التزام أو عمق. هذا الواقع يُسهم في تكريس شعور بالقلق واللايقين، حيث لا يعود للفرد يقين في ديمومة ما يربطه بالآخرين، وتصبح الثقة استثناءً لا قاعدة. هذا تشخيص جيد للداء من طرف باومان، وهذا الداء آخذ في الانتشار والتأزم، لحسن الحظ وجدنا بعضا من المفكرين حاولوا تقديم بعض العلاجات، أهمها حسب رابحي وتيسون هو الاستمتاع بلحظة الحياة الحقيقية، لا أن نمرّ عليها مثل إعلان ممول على صفحة بيضاء.
إن مواجهة الزحف الإلكتروني لا تحتاج إلى شعارات، بل إلى انضباط روحي وفلسفي.
أن تكون بسيطًا لا يعني أن تكون ساذجًا، بل أن تكون حرًا. وأن تعيش في الطبيعة، لا يعني أن ترفض الحداثة، بل أن تُهذّبها.
لذلك، فلنحمل هذا السؤال معنا: هل نعيش فعلًا؟ أم أننا نُمثّل دور الحياة على مسرح افتراضي؟ ربما يكون الجواب في كوخ خشبي، أو في رقعة أرض صغيرة، أو في لحظة صمت… لا تلتقطها كاميرا الهاتف.