محمد زاوي
هذا مقال في بيان تهافت بعض هواة الحديث في الفكر الغربي، هؤلاء الذين لا يتصورون ما ينتقدونه تصورا سديدا، وبالتالي لا يتصورنه كما هو في جوهره الاجتماعي التاريخي ولا كما هو في بنائه النظري الفلسفي. لا قدرة لهم على التمييز في فكر الحداثة ولا في فكر ما بعد الحداثة ولا بين الفكرين، ورغم ذلك يدّعون إحاطة بالغايات والأصول العقدية والفلسفية للفكر الغربي الحديث..
يستوي عند هؤلاء ديكارت وسبينوزا وديدرو وروسو وكانط وهيجل وماركس وفرويد ونيتشه وفيبر وهابرماس الخ، كما يستوي عندهم فرح أنطوان وشلبي شميل وسلامة موسى وطه حسين وعبد الرحمان بدوي ونصر حامد أبو زيد وإلياس مرقص وسمير أمين ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي الخ.
كل هؤلاء وأولئك عندهم صادرون عن “فلسفة حداثية” واحدة مهما اختلفت تصوراتهم ومناهجهم ومدارسهم، ومهما احتاجت دراستهم إلى تمييز بين الفلسفات والحقول المعرفية.
في هذه المقالة ـ التي تأتي على عجل ـ سنناقش نموذجا من هذه “الذهنية” المتهافتة والمتسترة بالادعاء المعرفي، وهو قول أحدهم: “إن عبد الله العروي من الأتباع الكبار لفريدريك نيتشه”. فهل كان العروي من النيتشويين العرب؟ هل يمكن تشبيهه بعبد الله القصيمي مثلا (ولو أن هذا الأخير ليس نيتشويا بالمعنى المدرسي)؟ وهل كان من النيتشويين الغربيين أمثال ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا وإميل سيوران (ولو أن هؤلاء ليسوا نيتشويين بالمعنى المدرسي للكلمة)؟ وفي الأصل: هل يجوز لنا الحديث عن مدرسة نيتشوية في الفلسفة؟
لم يطرح صديقنا “المبارِز لفكر الحداثة” كل هذه الأسئلة، فسارع بقولٍ لا هو من الفلسفة ولا هو من التاريخ، بقدر ما هو “تدخل كلامي” لا يقتدي صاحبه بهمة و”عبقرية” المتكلمين الكبار أمثال الغزالي والفخر الرازي والقاضي عبد الجبار الخ.
يمكن اختصار الاختلاف حول فلسفة العروي، والذي يعرفه صغار المهتمين بالرجل قبل كبارهم، في سؤال: هل هو إلى الماركسية أقرب أم إلى الليبرالية أقرب؟
وقد أجاب البعض على هذا السؤال بقوله: “وجهة ليبرالية ومدخلات ماركسية”. يمكن الحديث عن ليبرالية بادية في كتابه “من ديوان السياسة”، ويمكن الحديث عن “ماركسيته الموضوعية” كما تحدث عنها (في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” أو “العرب والفكر التاريخي” أو “الفلسفة والتاريخ”) أو كما أعملها (في “مجمل تاريخ المغرب” أو “الجذور الثقافية والاجتماعية الوطنية المغربية” أو “عوائق التحديث”)…
وهذا كله يجعل العروي بعيدا عن نيتشه وفلسفته التي تحضر في متنه حضورا عرضيا، أذكر منه موضعين:
في كتابه/ سيرته الذهنية “أوراق”: حيث تحضر النيتشوية كمرحلة وجودية يمر بها مبتدئ (العروي في مرحلة الثانوية) محكوم بظروف عائلية خاصة. في هذه المرحلة لم يقرأ العروي فلسفة نيتشه فحسب، بل قرأها مع فلسفات وجودية أخرى كالتي عند آرثر شوبنهاور وجون بول سارتر..
وهي مرحلة محكومة بمشاعرها ونفسانيتها، التقت مع “العدمية” في أثرها السيكولوجي لا في حقيقتيها الفلسفية والتاريخية. فلا العروي استوعبها كما هي -آنذاك-، ولا هي حالت دون التزامه الوطني في ما بعد (التزام بدأ في الثانوي وتعزز في الجامعة بفرنسا).
ولذلك فسرعان ما طوى العروي صفحتها بصفحة “الديكارتية” كمدخل مهم وأساسي للمعرفة الحديثة، وبالتالي للهيجلية والماركسية والفيبرية الخ، للنظرية والماركسية والموضوعية والتاريخانية والدراسة الاجتماعية الخ.
في كتابه “مفهوم الإيديولوجيا”: يدرج العروي نيتشه في مجموعة كارل ماركس وسيغموند فرويد وكارل منهايم، الذين يعتبرهم أهم مؤسسي مفهوم “الإديولوجيا” باعتبارها “قناعا”. وهو المعنى الواضح في عدد من أعمال نيتشه وأبرزها “جينالوجيا الأخلاق” حيث يعتبر “المقولات الإيديولوجيا الكبرى” “أقنعة”/ أوهاما لأحقاد الضعفاء العاجزين عن منافسة الأقوياء في قوتهم.
لا يرى نيتشه فائدة في الشعارات السياسية والإيديولوجية، لأن الحملان تبقى حملانا، والصقور تبقى صقورا، في حين لا يغير التداول من الحقيقة شيئا (هكذا يتحدث نيتشه في “جينالوجيا الأخلاق”).
هي جملة أقنعة إذن: أوهام الضعفاء كقناع لأحقادهم عند نيتشه، أخلاق التآخي كقناع لطلب الأمان النفسي عند فرويد، المقولات الإيديولوجية كقناع لسيطرة اجتماعية عند ماركس، الطوبى كقناع لمصلحة في بداية تشكلها عند مانهايم. في هذا الإطار يضع العروي نيتشه دون أن يتحيز له، لأن التحيز في “مفهوم الإيديلوجيا” ماركسي، وهو ما يفسر حضور ماركس كمرجعية أساسية في الفصول الثلاثة المؤسسة للكتاب (الإيديولوجيا كقناع/ كرؤية كونية/ كعلم للظواهر).
إن هذا الحضور الجوهري للماركسية في “مفهوم الإيديولوجيا” قد جعل الاستشهاد بـ”نيتشه” استشهادا عرضيا لا يتجاوز حدود “التأسيس اللاتارخي لمفهوم الإيديولوجيا باعتبارها قناعا”.
يحق لنا بعد هذه الفقرات أن نسائل “مبارِز الفكر الغربي الحديث”: هل يُجيز لنا حضورٌ مرحلي وغير مكتمل لفلسفة نيتشه في سيرة العروي، وحضور عرضي في كتاب “مفهوم الإيديلوجيا”؛ هل يجيزان لنا القول بـ”نيتشوية العروي”؟!
إنها أيضا مناسبة لنوجه رسالة لا بد منها: لا نقول ببراءة الفكر الغربي من كل نقد، كما لا نقول ببراءة الحداثة الغربية من العيوب؛ ما ندعو إليه هو امتلاك الحداثة وتطوراتها نظريا وفلسفيا قبل إبداء الرأي النقدي أو غير النقدي فيها.
وكل محاولة غير هذه فلا هي تحفظ حظنا من تراث يدعو إلى المسؤولية والصدق في المعرفة والبحث عن الحقيقة، ولا هي تسمح لنا بتصور الحداثة -واقعا وفلسفة- كما هي من غير تزييف!