سعيد الكحل
لقد بات واضحا مخطط حزب العدالة والتنمية من مشاركته في الحكومة وخوضه الانتخابات . ذلك أنه يسعى لعرقلة جهود تحديث الدولة والمجتمع حتى يتسنى له أسلمتهما في أمد قصير. لهذا اتخذ مخططه عدة أبعاد:
ــ الأول: استغلال المؤسسات المنتخبة (البرلمان ، المجالس الترابية ) لوضع تشريعات تخدم إستراتيجية الأسلمة (المجلس البلدي لفاس وضع تشريعا يمنع الاختلاط في صالونات الحلاقة والتجميل وقاعات الرياضة .. فتصدت له وزارة الداخلية ) .
ــ الثاني: تعطيل الدستور سواء بالالتفاف على فصوله أو بتأجيل إحداث مؤسسات ينص عليها الدستور (هيئة المناصفة ومحاربة كل أشكال التمييز لم تر النور بعد ). والأخطر في التعطيل هو عدم ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي ينص عليه الدستور حتى يستمر النهب ويفقد المواطنون كل ثقة في الدستور وفي المؤسسات ليبقى البيجيدي يتصدر نتائج الانتخابات بقاعدته الانتخابية الثابتة.
ــ الثالث: خرق الدستور من خلال إعداد مشروع القانون الجنائي الذي يشرعن قتل الزوجات بدافع الشرف ، إعداد مشروع قانون “تكميم الأفواه” الذي أثار ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي فاضطرت الحكومة إلى سحبه ، المصادقة على عهد حقوق الطفل في الإسلام ..
واضح ، إذن ، أن حزب العدالة والتنمية دخل إلى الحكومة بخلفية عرقلة البناء الديمقراطي . وكان من نتائج هذا المخطط النكوص البيّن على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وكذا الحريات الفردية .
كما انكشف انفصام الحزب وتناقض الخطاب مع الممارسة . فإذا كان المؤتمر الوطني السابع للحزب اتخذ له أطروحة “الشراكة الفعالة من أجل البناء الديمقراطي” ، فإن ممارسة الحزب أجهزت على هذه الشراكة وانفردت بالقرار في كثير من القضايا والمستويات. فعلى مدى عشر سنوات ظل الحزب يقصي الجمعيات والنقابات من المشاركة في تدبير الشأن العام وحل القضايا الاجتماعية. ففي بيان لـ 400 جمعية أمازيغية تم انتقاد حكومة حزب العدالة والتنمية لكونها “لم تقم بأية خطوة إيجابية حتى الآن من أجل إخراج القانون التنظيمي الخاص بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية إلى حيز الوجود”.
نفس الانتقادات وجهتها الجمعيات النسائية لحكومة البيجيدي بسبب إقصائها من المشاركة في بلورة قانون فعال لمحاربة العنف القائم على النوع وفق ما ينص عليه الفصل 12 من الدستور كالتالي : “تُساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون”.
كما انتقدت الجمعيات النسائية إقصاءها من المشاركة في إعداد مشروع القانون رقم 14/ 79 المتعلق بهيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز ، وكذا “استهتار الحكومة، ورفضها بشكل منهجي كل التعديلات التي قدمتها المعارضة في مجلس النواب.. وذلك للالتفاف على المكتسبات التي ناضلت من أجلها الحركة النسائية”. كما يدخل في إطار مناهضة البيجيدي لجهود التحديث تصديه لقرار تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية.
المرحلة الرابعة: العرض السياسي لما بعد 2016
وهي مرحلة اعتبرتها قيادة الحزب متميزة بشيئين اثنين :
أولهما: “بتقييم إيجابي للتجربة الحكومية للحزب” عبرت عنه صناديق الاقتراع التي منحته الصدارة . فمقياس نجاح قيادة البيجيدي للحكومة ، بالنسبة للعرض السياسي، هو احتلاله المرتبة الأولى بغض النظر عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي عمّقتها تجربته الحكومية ، وكذا نسبة المقاطعة لصناديق الاقتراع التي ساهمت ــ التجربة الحكومية ــ في ارتفاعها.
ثانيهما: ” بقرار الحزب مواصلة المشاركة في الحكومة من موقع التدبير الحكومي، على الرغم من التداعيات التي خلفها ما عرف ب”البلوكاج””. إلا أن الواقع السياسي يسمح بقراءة مغايرة لهذه المرحلة من حيث كونها مرحلة محاولة فرض إرادة الحزب وتوجهاته على الدولة والأحزاب ، أي الاستبداد باسم صناديق الاقتراع الذي يمكن الاصطلاح عليه “الاستبداد الديمقراطي”.
فالحزب أصابه الغرور كما أصاب أمينَه العام “هذيان العظمة” ، فصار يتصرف خارج الأعراف الديمقراطية ، بحيث يقبل أو يرفض من يشكل معهم الأغلبية الحكومية ، ليس بناء على البرنامج العام للحكومة ، ولكن حسب المزاج الشخصي لرئيس الحكومة المعيّن . إذ المفروض أن يقدم الحزب الفائز بصدارة الانتخابات الخطوط العامة للبرنامج الذي ستتشكل حوله الأغلبية .
لكن رئيس الحكومة المعين اختار أسلوب “زعيم القبيلة” في تشكيل فريقه بإقصاء من لا يرضى عنه من الأحزاب . هكذا قال بنكيران – خلال ملتقى لحزبه- “إذا رأيتم الحكومة تشكلت وفيها الاتحاد الاشتراكي فاعلموا أنني لست عبد الإله بنكيران” ، وأضاف “الشعب اختار العدالة والتنمية لكي يكون منه رئيس الحكومة”.
هذيان العظمة هذا جعل بنكيران يتوهم أن الملك ملزم بتعيينه رئيسا للحكومة مهما كانت الظروف حتى وإن عجز عن تشكيل فريقه . وهو بهذا الوهم “الفرعوني” حاول أن يرهن الشعب والوطن إلى شخصه وقراره ، فصار لسان حاله يقول (ما أريكم إلا ما أرى).
وشاءت الإرادة الملكية أن تزيل عقبة بنكيران وتتشكل الحكومة برئاسة العثماني . فبنكيران تماهى مع الحزب فصار هو الحزب ، والحزب هو بنكيران. لكن تعيين سعد الدين العثماني أيقظ بنكيران من أوهامه وأعاده إلى وضعه الحقيقي .
من معالم الانفصام في خطاب البيجيدي ومواقفه أنه يفخر بكونه أسهم “في تقديم نموذج واعد لحزب ذي مرجعية إسلامية بخلفية وطنية، مع إسهام مقدر في تجديد الخطاب باقتحامه لعدد من الإشكالات الفكرية والمذهبية وتقديم إجابات تجديدية من قبيل التمييز بين الدعوي والسياسي وإبداع مفهوم حزب سياسي بمرجعية إسلامية والإقرار بالطبيعة المدنية للدولة”. كلام من هذا النوع ينطبق عليه المثل الشعبي (شكون شكراتك العروس) .
فما يدعيه الحزب من “نموذجية” في الخطاب والممارسة ليس سوى لغو تفضحه مواقف الحزب وتبعيته للحركة الدعوية الأم “حركة التوحيد والإصلاح” التي تحدد مواقفه وتملي عليه توجهاتها . فبيانات الحزب ومواقفه من مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية أو من الإجهاض أو من حرية الاعتقاد ، أو من العلاقات الرضائية بين البالغين ، أو من قانون تقنين الكيف ، أو من قرار استئناف العلاقات مع إسرائيل ، هي نسخة طبق الأصل لكل ما يصدر عن الحركة الدعوية .
وأي مقارنة بسيطة بين مذكرة الحزب ومذكرة الحركة التي وجهاهما إلى اللجنة الملكية المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية ستكشف عن تطابقهما . وحين رفعت حكومة الأستاذ عباس الفاسي تحفظات المغرب عن المادتين 9 و16 من الاتفاقية المتعلقة بالقضاء على كل أشكال التمييز ضد النساء ، صدر عن الحزب نفس الموقف الذي اتخذته الحركة تنديدا بالقرار. فالمواطن ، وهو يستمع للخطاب الذي يصدر عن بنكيران أو العثماني أو الريسوني أو الحمداوي أو المقرئ أبو زيد أو الرميد .. من حيث اللغة والإحالات والمعاني ، لا يكاد يميز بين المنتمين للحزب والمنتمين للحركة .
فالهيأتان معا تتصديان لمدنية الدولة وتضغطان من أجل أسلمة المؤسسات والمرافق الحكومية والتشريعات .إذ كيف للحزب أن يزعم “الإقرار بمدنية الدولة” وهو يطالب بتزويج القاصرات ويناهض ولاية المرأة على نفسها وعلى أبنائها ، ويضغط لحذف حرية الاعتقاد من مسودة الدستور ويرفض رفع التجريم عن الإفطار العلني في رمضان أو عن العلاقات الرضائية بين البالغين التي تورط فيها أعضاء قياديون من الحزب والحركة معا؟
فهل نسيت قيادة الحزب مطلبها بتخصيص كوطا للفقهاء في مؤسسة البرلمان ، أو مطالبتها بإحالة مشروع قانون تقنين الكيف على المجلس العلمي الأعلى وهي تخط عبارة “الإقرار بمدنية الدولة” ؟
(يتبع)
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14843