27 أبريل 2025 / 14:38

العدالة والتنمية.. هيئة مغربية وعقيدة “إخوانية”

عمر العمري
اختار حزب “العدالة والتنمية” أن يجعل من مؤتمره الوطني التاسع ببوزنيقة لحظة مفصلية للإعلان العلني عن عودته الكاملة إلى أحضان “المشروع الإخواني”، في قطيعة سافرة مع رهانات التنمية الوطنية والمطالب الاجتماعية الملحة للمواطن المغربي.

وعرى المؤتمر أزمات الحزب المتتالية حين غابت الأسئلة الجوهرية حول إخفاقاته السياسية والتنموية، لتحل محلها شعارات إيديولوجية عابرة للحدود، لم يعد لها صدى إلا بين قلة من قواعد التنظيمات الإخوانية التقليدية المتهالكة.

وكشف الحزب منذ اللحظات الأولى عن غايته الحقيقية، إذ لم يصمم ليكون منصة للمراجعة أو التقييم، بل تحول إلى مسرح لإحياء أطلال مشروع أممي تجاوزه الزمن، حيث تصدرت رموز التنظيم العالمي للإخوان المسلمين المشهد، وغطت الأعلام الفلسطينية جنبات القاعة، وزاحمت الهتافات الإيديولوجية الخطاب السياسي الرصين، في مشهد يعكس “هروبا جماعيا” إلى الأمام، بعيدا كل البعد عن الواقع السياسي المغربي.

وأظهر الاختيار الرمزي لشخصيات مثيرة للجدل، كالداعية الموريتاني “محمد ولد الحسن الددو”، الذي لم يخف يوما مواقفه العدائية تجاه مغربية الصحراء، عن خلل عميق في بوصلة الحزب، فكيف لحزب مغربي أن يحتفي بشخص قارن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء بوثيقة ملكية على سطح القمر، في إهانة صريحة لمشاعر كل مغربي؟ ولماذا يصر الحزب على استقبال شخصية “إخوانية” تستهزئ بإحدى أبرز قضاياه الوطنية المصيرية؟

وتجاوز البيجيدي حدود استضافة “ولد الددو”، حين استقبل نائب رئيس حزب الرفاه التركي، الذي لم يتردد في الدعوة الصريحة إلى إسقاط الحكومة المغربية من فوق منصة حزبية يفترض أنها عنوان للسيادة الوطنية والانتماء، وشهدت الساحة السياسية الوطنية مشهدا غير مسبوق، حيث تحول مؤتمر داخلي إلى ساحة مفتوحة لتدخلات خارجية فجة تنتهك أبسط مقتضيات الاحترام للسيادة المغربية.

وإذا كانت تحية أعضاء الحزب الحماسية لـ”راشد الغنوشي”، القائد الإخواني السجين بتونس، قد بدت للبعض مجرد لفتة رمزية، فإنها في عمقها رسالة سياسية واضحة: العدالة والتنمية لم يغادر بعد عباءة التنظيم الأممي الإخواني، رغم كل ما عاناه المغرب والمنطقة من كوارث جلبتها “المشاريع الإخوانية”، لذلك فإن تحية “الغنوشي”، الذي سبق أن أقصى المغرب من تصوراته للمشروع المغاربي المصغر، تظهر إلى أي حد صار الحزب أسيرا لولاء إيديولوجي يتجاوز حدود الوطن ومصالحه.

ويبدو، في ضوء هذه الاختيارات، أن حزب العدالة والتنمية لم يستوعب بعد حقيقة التحول العميق الذي شهده الوعي السياسي المغربي، فالمغاربة الذين أسقطوه انتخابيا بسبب إخفاقاته التنموية والاجتماعية، كانوا ينتظرون منه وقفة نقدية صريحة، واستعدادا لإعادة بناء الثقة بناء على الأولويات الوطنية، غير أن الحزب اختار، بكل وضوح، أن يواصل الرهان على استثمار القضايا العاطفية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، كطوق نجاة سياسي للهروب من أزماته البنيوية.

إن توظيف القضية الفلسطينية بهذا الشكل الانتهازي، واستدعاء حركة حماس “الأخوانية” إلى مؤتمر لم يكتب لها الحضور إليه، لا يخدم الشعب الفلسطيني ولا القضية الفلسطينية نفسها، بل يحولها إلى سلعة انتخابية وإيديولوجية عابرة، تستغل عند الحاجة دون أن يدفع ثمنها الحقيقي، علما أن سياسة المغرب الخارجية تجاه فلسطين واضحة ومستمرة، وهي سياسة دولة ومؤسسات، لا مجال فيها لمزايدات ظرفية أو شعارات عابرة.

وكشف المؤتمر بوضوح عن أحد أخطر مظاهره، حين جسد ازدواجية صارخة في الخطاب السياسي: من جهة ادعاء الدفاع عن الوحدة الوطنية، ومن جهة أخرى الاحتفاء العلني بشخصيات تناصب تلك الوحدة العداء، وعمقت هذه الازدواجية قناعة متزايدة بأن الحزب يعيش أزمة هوية خانقة، وفقد قدرته على التمييز بين مصلحة الوطن والارتهان لأجندات خارجية متآكلة، لم تعد تخدم سوى أطلال مشاريع الإسلام السياسي المنهارة.

اليوم، يقف العدالة والتنمية أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يعلن بشكل قاطع قطيعته مع التنظيم الإخواني الدولي، ويجدد التزامه بالثوابت الوطنية ويضع مصلحة المغرب فوق كل اعتبار، أو يواصل الانحدار إلى الهامش، كحزب فقد شرعيته الوطنية وارتهن بالكامل لمشروع إيديولوجي متهاو تجاوزته التطورات الإقليمية والدولية.

للأسف يراهن الحزب على وهم النسيان، لكن المغاربة، الذين أسقطوه بالصندوق وأسقطوا قبله أوهاما أكبر، يراقبون بدقة كل “انحراف” سياسي أو ايديولوجي، ومن يظن أن الشعارات العاطفية قادرة على محو الذاكرة الوطنية، إنما يسير نحو نهايته المحتومة، فذاكرة الشعوب لا تصدأ، وموازين الولاء للوطن لا تحتمل العبث، ولا ترحم من يضعها على موائد “المزايدة الإيديولوجية”..