الدكتور علاء الزموري ـ باحث في التاريخ السياسي المغربي
هناك استنتاجات سريعة نستهل بها هذا المقال قبل الذهاب لعمق الحدث وسياقه وملابساته ومحاولة تفكيكه تفسيرا وتأويلا مسترشدين في ذلك بحركة تفاعلية بين الماضي والمستقبل عبر خط زمني يرصد تفاصيل هذا الحدث، وبقراءة موضوعية وأمينة لما عرفه حزب العدالة والتنمية خلال انعقاد مؤتمر الوطني الاستثنائي يوم السبت 30 أكتوبر 2021 بمركب مولاي رشيد بمدينة بوزنيقة، وبنظرة استشرافية ترسم أبعاد وأهداف عودة عبد الإله بنكيران لواجهة الأحداث مثل طائر الفنيق يبعث من رماد، وتلك طبيعة الرجل وشخصيته، يبدع في المناورات حينما يكون محاصرا ومستهدفا ومحشورا في زاوية خارج سياق الأحداث، عودة توجت بانتخابه أمينا عاما للحزب بعد أن ظن خصومه، داخل الحزب وفي أروقة الأحزاب ودهاليز السلطة، بأن الرجل انتهى سياسيا وحزبيا عام 2016 ثم رمزيا واجتماعيا مع بعض القضايا والملفات المتعلقة بالتقاعد الملكي وثروته، وكللت ببرقية تهنئة ملكية وصفت مساره الحزبي بـ “المتميز” وبأنه صاحب “خصال إنسانية ومؤهلات سياسية”، وبـ”ما هو معهود فيه من روح المسؤولية، والتشبث بمقدسات الأمة”.
وتضمنت البرقية الملكية متمنيات الملك لبنكيران بأن “يلهمه الله التوفيق في مسؤولياته القيادية، من أجل تعزيز مكانة الحزب في المشهد السياسي الوطني، لمواصلة مساهمته البناءة، إلى جانب الأحزاب الوطنية الجادة”، منتظرا من الحزب تحت قيادة بنكيران المساهمة، في “المرحلة الجديدة التي تشهدها بلادنا، بما تنطوي عليه من تحديات تنموية وخارجية حاسمة، في حرص دائم على جعل المصالح العليا للوطن تسمو فوق كل اعتبار”.
إن القراءة الأولى للبرقية الملكية تشرح بوضوح السبب الرئيس لعودة بنكيران لقيادة الحزب في هذه المرحلة، وكأنها تكليف ملكي لرئيس حكومة وتحديد لمهامه وليست مجرد تهنئة لانتخابه أمينا عاما للحزب كما جرت العادة. لقد أدركت السلطة، بسرعة وعلى غير عادتها، بأن قرار إخراج العدالة والتنمية من اللعبة ومن المؤسسات المنتخبة على نحو دراماتيكي، وبالتالي من رئاسة حكومة ثالثة كانت متوقعة يوم الثامن من سبتمبر الأسود، كان قرارا غير صائب ويفتقر لبعد النظر، بل كانت دوافعه شخصية ونفسية قد تضع الملكية في مواجهة مباشرة مع غضب شعبي وانفجار في الشارع لجل الشرائح المجتمعية والقطاعية، غضب تساهم الحكومة الحالية برئاسة رجل الأعمال عزيز أخنوش في التعجيل بانفجاره في أفق الشهور القليلة المقبلة في سياق وطني وإقليمي متشبع بالاحتقان واليأس والرغبة في الانتقام.
لقد اختيرت مصطلحات البرقية الملكية بعناية فائقة وبدعوة صريحة لإنقاذ الوضع اليوم وغدا، كما أكدت على رسالة مباشرة لبنكيران بأن يطوي ما وقع يوم الثامن من سبتمبر وما قبله عام 2016 إلى غير رجعة بلا ضغينة تجاه العثماني ومجموعته، ولذلك طلب منه الملك إبلاغه تقدير الملك له، علما بأن برقية ملكية جوابية سبق أن وجهت للعثماني قبل المؤتمر الوطني الاستثنائي، وأيضا تجاه أخنوش حينما دعا الملك بنكيران إلى تغليب “المصالح العليا للوطن على أي اعتبار”، وهو ما أكده بنكيران في كلمته عن بعد للمؤتمرين عقب انتخابه أمينا عاما، وفي كلمته خلال اجتماع المجلس الوطني لانتخاب الأمانة العام، وخلال أول اجتماع له مع أعضاء الأمانة العامة الجديدة في بحر هذا الأسبوع، حيث قال إن الحكومة الحالية هي حكومة المغرب، وسيتعامل معها من منطلق المصلحة الوطنية، فإن أحسنت أيدها وإن أخطأت انتقدها.
عودة السامري بائع الوهم:
من الاستنتاجات الوجيهة أيضا لحدث إعادة انتخاب بنكيران أمينا عاما للحزب، أنه لا بديل عن بنكيران سوى “بنكيران مكرر”، وبأن الحزب وقادته لم يعملوا في يوم من الأيام على إعداد قادة الصف الثاني والثالث لتحمل مسؤولية الحزب عند الأزمات والتداول الطبيعي للقيادة، بل انكشفت حقيقة مؤسفة داخل الحزب، وهي أن رئاسة بنكيران للحزب خلال الفترة القادمة قد تكون هي آخر ولاية في عمر هذا الحزب نظرا لغياب فظيع لقيادة بديلة مستقلة كان من المفروض، عقب هزيمة الثامن من سبتمبر، أن تتسلم قيادة الحزب بنفس جديد وتصور جديد للمرحلة الحالية ولمستقبل الحزب، أو على الأقل أن تتعاقد مع بنكيران خلال هذه المرحلة الانتقالية لتصريف أعمال الحزب ثم تستلم المشعل في أفق لا يتجاوز سنتين، بل كان من الممكن أن تكون آجال عقد المؤتمر الوطني العادي بعد سنة من اليوم، إلا أن موقف بنكيران التعجيزي والتحدي الذي أطلقه عشية انعقاد المؤتمر الاستثنائي، يؤكد رغبة الرجل في ولاية كاملة لأسباب كثيرة، أهمها لعب دور صمام أمان الملكية أمام أي انفجار محتمل قادم من جهة، ومهادنة حكومة أخنوش من موقع المعارضة في أفق انتخابات مبكرة استباقية واردة لامتصاص غضب الشارع كما حصل عام 2011.
وفي كلمته أمام المجلس الوطني يوم انتخاب أعضاء الأمانة العامة، قال بنكيران وهو يثني على سلفه العثماني، بأنه، وإدريس الأزمي، رئيس المجلس الوطني، لعبا دورا مهما في انتخاب العثماني أمينا عاما للحزب عام 2017، مشيرا إلى أن العثماني لعله كان “رجل المرحلة”، أمينا عاما للحزب ورئيسا للحكومة، 2016-2021، علما بأنه انتخب بفارق ضئيل جدا، 51٪ من الأصوات، وفي هذه العبارة تفسير واضح لعودة بنكيران لقيادة الحزب، لأنه اليوم هو كذلك “رجل المرحلة”.
هكذا حدد بنكيران مهامه الجديدة بعد انتخابه أمينا عاما للحزب، وقد أكدها بنفسه مرات عديدة، أولها، الوقوف مع الدولة في مواجهة التحديات، ويقصد الملكية، وثانيها المصالحة مع رفاق الدرب، وهذا جزء من ثقافة ونفسية رجال هذا الحزب، بمنطق “عفى الله عما سلف” إلا البعض لأسباب شخصية، وقد تضمنت البرقية الملكية هذه الدعوة، وثالثها ترك حكومة أخنوش، مرشح السلطة، تشتغل بأريحية، دون التضييق عليها أو مهاجمتها في كل واردة وشاردة، وهي إشارة واضحة لعبد الله بوانو، رئيس مجموعة نواب الحزب في مجلس النواب، الذي بدأ حملته الانتخابية للفوز بمنصب أمين عام الحزب، حتى قبل تقديم الحكومة برنامجها أمام البرلمان، ورابعها إضفاء مسحة دينية على خطاب الحزب والإعلان عن توبة جماعية، إذ كلاهما، بنكيران والعثماني، أرخيا لحيتهما وغرفا من الخطاب الديني معلنان عودتهما إلى الله وداعيان أبناء الحزب إلى مراجعة علاقتهم بالله.
بنكيران بين تدين المضطر ومعركة كسب القلوب:
ردد بنكيران كثيرا بأنه من بين المسائل التي سيشتغل عليها خلال رئاسته للحزب هي إعادته لكنفه وأصوله ومرجعيته الإسلامية مذكرا أبناء الحزب بأنهم أتوا من حركة إسلامية وبأن الحزب فقد الكثير من مقومات هذه المرجعية بفعل وطبيعة الانخراط في الشأن العمومي اليومي والانغماس في المسؤوليات والمناصب والمكاسب مما ساهم في انمحاء الكثير من خصائص الانتماء للقيم الإسلامية.
إن الذي ساهم حقيقة في حالة التردي في الالتزام الأخلاقي والسلوكي لدى الكثير من أبناء الحزب، خاصة الفريق الذي أوصله للمهالك والمزالق كما تجلى ذلك يوم الثامن من سبتمبر وقبل ذلك، هو الوهم الذي بني عليه مشروع الحزب وهو ما اصطلح عليه بـ “الإصلاح من الداخل” وضيعوا السنوات والجهد وراء السراب حيث بدل أن يصلحوا منظومة الحكم من الداخل، كما زعموا، فسدت منظومتهم، ذلك لأن الوهم هو ما يفسد الفكر والعقل، كما أن الطمع هو ما يفسد الروح والدين.
لقد تجاوزوا الخط الفاصل بين التبجيل والعار وبين الاعتدال والابتذال في علاقتهم بالسلطة خلال رئاستهم لحكومتين، 2021-2012، (أقصد بالعار الذي وقعوا فيه على الأقل بالنسبة لقانون الفرنسة وقانون القنب الهندي واتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني، إضافة لمسؤوليتهم السياسية بشأن المحاكمات والخروقات التي طالت معتقلي الرأي وحرية التعبير والنشطاء)، فسقط مشروعهم الأخلاقي في ميزان الإسلام قبل أن يسقط مشروعهم السياسي يوم الثامن من سبتمبر في صناديق الاقتراع.
ونتساءل مع بنكيران، ماذا يقصد بالعودة للمرجعية الإسلامية التي كان عليها الحزب وافتقدها؟ هل هي دعوة للشعار الكلاسيكي للحركات الإسلامية “لا حكم إلا لله” في حياة الناس العامة والخاصة وفي شؤون الحكم والدولة والعلاقات الدولية، في السلم والحرب؟ أم أن كلام بنكيران هو تعبير عن لحظة أزمة وضعف من الطبيعي أن يتذكر فيها العبد ربه كما حصل مع بنكيران والعثماني يوم انتخاب الأمين العام الجديد وأعضاء الأمانة العام، إرخاء اللحية وامتحاء خطاب ديني بنكهة الدراويش وزهد في المناصب حتى قال العثماني بأنه مجرد “جندي” من جنود الحزب، وقد كان خلال رئاسته للحكومة والحزب يرفض حتى النصيحة التي أوجبها الشرع عليه ونصت عليها قوانين وأدبيات الحزب وأخلاق الإسلام.
لقد تعامل جل قادة الحزب خلال الولايتين الحكوميتين، 2012-2021، مع الإسلام، كعلامة تجارية مدرة للكسب وكحائط مبكى يتسمرون أمامه عندما تلحق بهم المصائب، لجوء العجزة، ولكن أول ما يرفع عنهم البأس ويتجاوزون محنتهم، بمشيئة الله وكيده لهم، نسوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإسلام، نسوا أن لهم ربا يعبد ويتبع وأضفوا الشرعية على اعتقال الشباب من أخيار الوطن من مختلف مواطن النضال الإعلامي والحقوقي والاجتماعي والسياسي، وجعلوا للغة المستعمر، الفرنسية، اليد العليا على لغة القرآن والإسلام في مناهج تدريس المغاربة المسلمين، وقننوا تجارة القنب الهندي في اعتداء صارخ على مرجعيتهم الدينية، وصافحوا يد القتلة الصهاينة ووقعوا معهم اتفاقية العار، وجعلوا حياة الطبقة الفقيرة والمتوسطة جحيما في قوتها واستقرارها وكرامتها المعيشية.
إن من يهنئ الظلم تكون نهايته سيئة، وإن من ينام جنب الوحش يقينا سيرى كوابيس في منامه، وهذا ما وقع لحزب العدالة والتنمية يوم الثامن من سبتمبر، عوقب على يد السلطة التي أتت به عام 1998، وخدمها برأسماله الديني والأخلاقي والشعبي طيلة عقد كامل على رأس حكومتين. إن حال رجال حزب العدالة والتنمية كحال الإنسان عموما، عندما كانوا في بحبوحة ومتاع الدنيا، مناصب ومكاسب وامتيازات وفلل وسيارات فارهة وتعدد زوجات وليالي باريس والطاحونة الحمراء ونشوة السلطة، نسوا أنهم كانوا مسلمين وأبناء للحركة الإسلامية، وبأن الله يراقب أعمالهم وقد أخذ عليهم ميثاقا غليظا لرعاية دعوته إلى الناس، وعندما دارت بهم الدوائر وتنكرت لهم السلطة ونبذهم الجميع تشفيا وضاقت بهم الأرض وخسروا كل شيء، حينها تذكروا أن هناك ربا يعبد وأن هناك دينا كانوا ينتمون إليه وعليهم واجبات تجاهه، حينها فاضت روحهم زهدا في الدنيا ومتاعها وأصبحوا مثل الدراويش.
إن التدين الحق، كما أخبر بذلك القرآن الكريم، يظهر عند الابتلاء والمحن، في الأهل والولد، وهذا ابتلاء عاطفي، وفي الدين والحق والعدل، وهذا ابتلاء عقدي، وفي النفس والمال، وهذا ابتلاء سلوكي، ويظهر معدن المبتلى عندما يكون الدين بما هو رسالة ونظام حكم وقيم ومنهج حياة ومصالح الخلق، بما هو عقيدة وشريعة وسيادة واستقلال يتعرض للاستهداف والاستئصال والإبعاد عن الحياة، فهل هذا هو المعنى الذي يقصده بنكيران ويبتغي إحياءه في شرايين الحزب ليتمثل برنامجا سياسيا وخريطة طريق لقيادة المجتمع نحو الإسلام الحق ودعوة الدولة للالتزام به في أحكامها وسياساتها وقوانينها ومؤسساتها وعلاقاتها الدولية واقتصادها وتعليمها وفنها وأدبها ومظاهرها؟ أم يقصد تدين المضطر المغشوش بتعبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، تدين المبنى لا تدين المعنى.
إن التدين الموسمي لا يكلف صاحبه الانضباط لحدود الله في حياته ومماته، وفي منشطه ومكرهه، وفي إقبال الأحوال وإدبارها، حيث يناضل البعض من أجل الماضي، بينما يناضل آخرون من أجل المستقبل، ومفهوم الدين الذي يريد بنكيران إعادة الحزب إليه، هو دين يحافظ على الوضع القائم ويبجل الماضي العاض والجبري، دين يخدر الشعب ويزيف وعيه ويلغي المستقبل من خط الزمان، دين بنكيران هو دين سلطاني تأسس مع فقه وحكم بني أمية.
إن استحضار الإسلام في مثل هذه الظروف، كما فعل بنكيران والعثماني عقب انتخاب الأول أمينا عاما للحزب وتشكيل الأمانة العامة خلال اجتماع المجلس الوطني الذي أعقب المؤتمر الوطني الاستثنائي، هو استحضار المضطر لتوظيفه في هذه المرحلة لتمرير قرارات وسياسيات “رجل المرحلة”، بنكيران. ولكن نتساءل، من أي مصدر يستحضر بنكيران والعثماني وغيرهما الدين في خطابهما ومظهرهما؟ وكيف ستكون هذه الدعوة الدينية لإعادة الحزب لدينه وقد صدرت عن فطرة مبدلة وعن نفس خالفت خلال العشر سنوات المنصرمة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فلن يصدر هذا التدين إلا عن فطرة وقد أصابها تبديل وتعطيل لأحكام دين الله في حياتها وعملها ومعتقدها؟ فكيف مثلا يفهم بنكيران الإسلام في قضايا الحكم والعدل والشورى والتوحيد والتشريع، لأن الفهم الصحيح النابع عن الفطرة السليمة غير المبدلة لابد وأن يتبعه تنزيل على أرض الواقع ممارسة ودعوة، وإلا كان مجرد توظيف للدين لإرضاء السلطة لا لخدمة دعوة الإسلام.
قيادة الصف الثاني تحت جلباب”الزعيم”
لقد سبق أن صدرت مقالات وتدوينات متفائلة لكتاب ومحللين طالبوا بتحرك قيادة الصف الثاني لتصدر المشهد الحزبي في هذه الظرفية الاستثنائية لتأخذ مكانها الطبيعي الذي فرضته عليها حالة الحزب الصعبة بعد الثامن من سبتمبر وجادت بها الأقدار بعد سنوات من المراوحة والدوران حول أهداف وهمية، إلا أن الأحداث أكدت يوم انعقاد المؤتمر الوطني الاستثنائي لانتخاب الأمين العام الجديد وبعد يوم انعقاد المجلس الوطني لانتخاب أعضاء الأمانة العامة، بأن حزب العدالة والتنمية، مثل باقي الأحزاب الوطنية البالية والإدارية المعلبة، حزب “زعامات” من ورق وليس حزب قيادات تتداول المسؤولية وفق ديمقراطية متحررة من المساطر والقوانين والآليات الجامدة التي وضعت أصلا، ومن قبل جيل التأسيس، لكيلا تمنح الفرصة لأي منافسة حقيقية للسلطة الأبوية وللزعامة التاريخية حتى وإن كان تاريخها مليء بالأخطاء والخطايا، فجاءت نتيجة انتخاب أمين عام جديد للحزب لتؤكد هذا الواقع البئيس والخطير على مستقبل الحزب على أكثر من مستوى.
لقد سكتت كل الأصوات التي اعتلت المنابر الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي من قيادة الصف الثاني قبل المؤتمر الوطني الاستثنائي لتعبر عن حاجة الحزب للتجديد والتغيير ولإعادة البناء، ودعت لإحالة جيل التأسيس للتقاعد ليفسح المجال أمام جيل جديد يقود الحزب نحو مستقبل آمن ويعيده لحضنه الاجتماعي ولأصوله الإسلامية الضائعة، ولكن انقسمت، للأسف، بين الاصطفاف حول بنكيران الذي يسعى، وبأي ثمن، لاستعادة شرعية حزبية وحكومية انتزعت منه غلابا وغدرا عام 2016، ويعتقد بأن انتصار السلطة يوم الثامن من سبتمبر سيبقى ناقصا وربما سيجهض أمام حالة الغضب والاحتقان الشعبي المتسارع ما لم يعاد إدماجه من جديد في الخدمة، وبين الالتفاف حول العثماني الذي انشغل بتصفية الحسابات مع غريمه بنكيران ولو على حساب مستقبل الحزب ومكانته السياسية والاجتماعي، وهو ما حصل يوم الثامن من سبتمبر وقبله، من جهة، وبالتماهي مع السلطة وأحزابها ليضمن الرضا والبقاء في الصدارة الحكومية والحزبية بأي ثمن، من جهة أخرى.
كنا نتمنى أن يكون هناك مسار ثالث بين القيادتين من الصف الثاني، من آل بنكيران وآل العثماني، يمثل قيادة مستقلة عن رجلي المرحلة السابقة، العثماني، 2016-2021، والمرحلة الراهنة والمقبلة، بنكيران، 2021-2026، أو ربما قبل ذلك، لكن المؤتمر الوطني الاستثنائي كشف المستور وتأكد شعار “مات بنكيران، عاش بنكيران”، وعاد “الزعيم” الموعود الذي سينقذ الملكية من الخريف المغربي القادم ويبيع الوهم للمغاربة مرة ثانية بعد وهم 2012 ويوفر لحكومة أخنوش غطاء لستر عوراتها إلى حين إجراء انتخابات مبكرة ستفرضها تدفقات عاصفة في شرايين الشعب تنفجر في الشارع ومدن البلاد في سياق انفجار عربي عام يتم التخطيط له من قبل عواصم غربية وعربية لاحتوائه قبل حدوثه ذاتيا، كما حصل عام 2011، بل هذه المرة ستكون عواقبه أقسى وأشد وأظلم.
مهمة بنكيران اليوم ليست إنقاذ الحزب من الانهيار والتحلل بعد أن صب عليه “أسيد” الثامن من سبتمبر، وإنما تنفيذ ما لم ينجح فيها العثماني، وهو إسكات أي صوت يريد تغيير مسار الحزب وتحريره من حالة التماهي والذوبان في منظومة السلطة، وإنهاء بؤر الممانعة داخل صفوف الحزب، أو إعداد مراسم جنازة تليق بالحزب إن لم يفلح في مهمته، وهذا لم يخفه بنكيران، بل قالها صريحة يوم اجتماع المجلس الوطني لانتخاب أعضاء الأمانة العامة، حيث أرسل إشارتان صريحتان، الأولى حينما قال بأن أحد قادة الحزب من الصف الثاني كان مشاكسا ومعاكسا له داخل المجلس الوطني، فقرر أن يقربه منه وألحقه بالأمانة العامة، بيت الطاعة، كما فعل اليوم أيضا، أو هكذا ينظر بنكيران لمؤسسات الحزب وأبنائه، فاندمج و”أصلحه الله”، حسب قوله، والثانية حينما خاطب قياديا مشاكسا آخرا من الصف الثاني كذلك وممن يحسب على العثماني، ووصفه بـ “الأحمق”، داعيا الله أن يهديه كما هدى زميله الأول.أما الإشارة الثالثة، فقد أرسلها أكثر من مرة لرئيس مجموعة الحزب داخل مجلس النواب، داعيا إياه بعدم الاستعجال في انتقاد حكومة أخنوش في كل شاردة وواردة لأنها حكومة “جلالة الملك” وحكومة المغرب، وبأن ما وقع لحزبه من مذبحة وسلخ يوم الثامن من سبتمبر قد ولى و”انتهى الكلام”.
هكذا افتتح “رجل المرحلة” بنكيران ولايته الجديدة على رأس الحزب، الذي ضرب ناقوس الخطر في وجه الملكية، يوم السادس من سبتمبر المنصرم، إذا ما تم تعيين أخنوش رئيسا للحكومة، صاحب الثروة “المشبوهة” بتعبير بنكيران، والفاقد للتجربة النضالية والشرعية التاريخية والماضي الحزبي والذي جيش جيشا من “النكافات” في حملته الانتخابية لاختطاف الإرادة الشعبية وهزيمة حزب العدالة والتنمية. هذه هي أسس ثقافة مدرسة بنكيران، القدرة على التسامح مع الظلم والتعايش مع الفساد والنكوص عند الزحف السياسي وعند مواقف الحق وساعة الحقيقة والثبات على الحق.
لم يجد أحد قادة الحزب من الصف الثاني، عبد الله بوانو، وقد سقط بالضربة القاضية إذ حصل على أصوات أعضاء المؤتمرين تعد على أصابع اليد الواحدة وقد تجرأ لمنافسة “الزعيم” على منصب الأمانة العامة، لم يجد في تصريح تبريري محزن سوى القول بأن انتخاب بنكيران أمينا عام للحزب من قبل مؤتمري الحزب هو الجواب على ما تعرض له الحزب يوم الثامن من سبتمبر، متبجحا بما أسماه بالديمقراطية الحزبية التي شهد بها القاصي والداني على الصعيدين الوطني والعالمي، حسب زعمه. إنها، في حقيقة الأمر، ديمقراطية القطيع الذي يقوده “الزعيم الراعي”، ديمقراطية التوافق المسبق قبل الذهاب للتصويت. لقد تمت تعبئة قواعد الحزب نفسيا لتطالب بعودة “الزعيم” قبل وبعد الثامن من سبتمبر، قواعد لا تعرف سوى بنكيران ولا تؤمن سوى بـ “الزعيم”، وساهم في هذه التعبئة جهات محسوبة على السلطة، ونقصد وكالة أنباء المغرب العربي التي نشرت تقريرا عن بكيران بعنوان مثير وبارز على غلافها، قبل انعقاد المؤتمر الوطني الاستثنائي، “بنكيران أضعف إخوانه في الحزب”، ورحلته الاستشفائية إلي باريس قبيل المؤتمر، هجوم ورحلة ساهما في تعاطف وتشبث قواعد الحزب بزعيمهم الأبوي لقيادته في هذه المرحلة وإنقاذهم من اليتم، وكان ذلك هو هدف الحملة، دفع القطيع للالتفاف حول الراعي.
توقيت استقالة مصطفى الرميد من الحزب وتراجع عبد العزيز الرباح، وهما منافسين شديدين لبنكيران، إضافة لاستقالة العثماني من منصب الأمين العام للحزب غداة الثامن من سبتمبر وهزيمة الحزب المدوية، كل هذا ساهم في إخلاء الساحة لبنكيران، رجل المرحلة، ليمر لمنصب الأمين العام للحزب ويسير فوق السجاد الأحمر بلا منازع حقيقي ولا منافس معتبر، لا من الصف الثاني ولا الأول، لأن الجميع فهم الرسائل التي وجهت للمنافسين بأن هذه المرحلة المضطربة رغم الانتصار الساحق لأحزاب السلطة يوم الثامن من سبتمبر، والمرحلة المقبلة على المدى القريب والمتوسط، والمزاج الشعبي العام الغاضب والمتوتر، ليس يقدر على مواجهتهوتليينه وخداعه مرة أخرى إلا شخصية شعبية وديماغوجية من فصيلة بنكيران، سامري المرحلة.
لم يخنه لسانه خلال التصريحات التي أعقبت انتخابه أمينا عاما من قبل المؤتمرين، وكان واضحا وصريحا كما بينا في هذه المقالة، إذ عبر عن مهمته في هذه المرحلة، أولها التحالف الاستراتيجي مع الملكية والدولة، وقد تأكد ذلك عدة مرات منذ انتخابه أمينا عاما للحزب، كان آخرها تصريحه بشأن التطبيع مع الكيان الصهيوني ودعمه لسياسات النظام في كل الأحوال ودعوة أبناء الحزب للاصطفاف وراء هذه السياسات، وتلك طبيعته وهويته الحقيقية، وثانيها إعادة ترتيب الصف داخل الحزب، بمعنى تصفية أي صوت يخرج عن الهدف الأول وقد قالها بوضوح وحزم، وثالثها طي صفحة الماضي مع غريمه الحزبي، العثماني، وغريمه السياسي، أخنوش، ورابعها بيع وهم جديد للمغاربة، تحقيق الرفاهية والكرامة والحرية، لامتصاص غضبهم، وخامسها العودة للخطاب الديني كسلاح لتخدير عموم الناس وقواعد الحزب والابتعاد عن حركة التوحيد والإصلاح.
لقد ضيع قادة حزب العدالة والتنمية من الصف الثاني فرصة تاريخية لا تعوض لتصحيح مسار الحزب وإعادته لقواعده وهويته وموقعه الذي يجب أن يناضل من خلاله بسبب غياب الشجاعة التي تتطلبها القيادة والتخطيط الذي تفرضه المرحلة والمسؤولية التي يستوجبها الدين ومصلحة الناس والوطن والأمانة التي حملهم إياها أتباع الحزب من الشباب، وقد دعا العديد منهم قبل المؤتمر الاستثنائي بشهور في مقترح لتقييم مسار الحزب وأداء قادته خلال قيادة حكومة العثماني خاصة، تضمنته ورقة وجهت لقيادة الحزب وهياكله التنظيمية المقررة، إلا أنها أهملت وأجهضت ولم تجد من يدعمها، خاصة في دائرة الصف الثاني من القادة، وكان ذلك خطأ استراتيجيا في التقاط الفرصة التاريخية واتخاذ المبادرة لتحمل المسؤولية السياسية لإنقاذ الحزب من لعبة الباب الدوار بين بنكيران والعثماني.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16131