1 مايو 2025 / 21:24

الطبقة العاملة العربية في رأسمال متحول

محمد زاوي

منذ سقوط المشروع الاشتراكي السوفييتي وتراجع الأحزاب الشيوعية في مختلف بلدان العالم، لم يعد الحديث عن الطبقة العاملة يغري فئات واسعة من المثقفين والأكاديميين والباحثين، وكأنه لم يعد لهذه الطبقة المستغَلّة وجود، وكأنها فارقت واقعها المزري إلى واقع جديد، وكأن المِلكية الاستغلالية أصبحت في حكم العدم. وجرّاء ذلك، هجرت فئات واسعة من اليسار العربي الحديث عن الطبقة العاملة ومشاكلها ومستقبلها إلى الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان على الطريقة الأمريكية. فبدا المثقف اليساري العربي شبيها بداعية ليبرالي أمريكي، يتكلم بين الفينة والأخرى عن إنسان ميتافيزيقي لا تحدّه حدود “الواقع الملموس”.

لا تعيش الطبقة العاملة العالمية واقعا واحدا لا اختلاف فيه، بل هي وقائع تختلف باختلاف بلدان الاستغلال. فما دامت الرأسمالية ليست واحدة، فواقع الطبقة العاملة كذلك. وهكذا نجد فروقا واضحة بين عمال الصين وعمال أمريكا، وبين عمال روسيا وعمال فرنسا، وبين عمال كوبا وعمال كندا، وبين عمال المغرب وعمال إسبانيا.. الخ. في كل دولة تعيش الطبقة العاملة واقعا مخالفا لنظيره في غيرها من الدول. وأسباب الاختلاف ترجع إلى أسلوب إنتاج الطبقة المسيطرة وعلاقتها بباقي الرأسمالات الأجنبية.

في الصين حيث اشتراكية السوق، يمارَس على العمال استغلال تنظمه الدولة مباشرة أو بوضع قواعد وضوابط للرأسمال الخاص، وذلك في إطار إشكاليتين: إبقاء الرأسمال خاضعا لجهاز الدول الصينية (الحزب الشيوعي الصيني)، ومنافسة الطرف العالمي النقيض، أي الإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا، لا يخلو الواقع العمالي الصيني من استغلال (إنتاج فائض القيمة لمصلحة مالكي وسائل الإنتاج)، غير أنه استغلال أخف وبمردود اجتماعي لمصلحة الفئات الدنيا ويؤطره مشروع سياسي واقتصادي تحرري تضمنه الدولة بأجهزتها.

في الدول الرأسمالية الإمبريالية الغربية، يسوّق الغرب لنموذجه الحقوقي الداخلي، ويخفي حقيقة الحقوق التي يمنحها لعماله على استحياء وبحذر. يخفي أن حقوق التطبيب ورفع الأجور وتقليص ساعات العمل وغيرها من الحقوق لم تكن لتتحقق إلا على حساب بلدان الجنوب. وهكذا فإن عمال “المراكز” الرأسمالية لا يحصلون على حقوقهم من فائض القيمة الداخلي، وإنما من فائض قيمة ينهبه الرأسمال الغربي في الخارج، عن طريق استغلال العمال في بلدان التبعية (مستعمراته سابقا)، وعن طريق باقي أشكال “التبادل اللامتكافئ” الأخرى (سمير أمين)، مثل تفاوت التصدير والإنتاح والعملة والاستثمار الخ. ورغم ما تحصل عليه الشغيلة الغربية من حقوق، فإن واقعها يستاء يوما عن يوم في ظل انحسار رأسمالاتها في الخارج. وهنا يمكننا الحديث عن بعض تجليات هذه الأزمة، من قبيل: سوء التطبيب في كندا، العمل الشاق والمنزف في الولايات المتحدة الأمريكية (إلى درجة تناول حبوب مقاومة النوم عند بعض العمال خاصة الوافدين)، احتجاجات العمال الزراعيين في أوروبا..

وفي الرأسماليات الوطنية الصاعدة، كروسيا والهند وإيران والمغرب ومصر والسعودية وبلدان أخرى مماثلة، يزداد الاستغلال على العمال بحكم الضغط الخارجي (تبعية تختلف حدتها من بلد إلى آخر) وتفاقم الحاجة الداخلية. في هذه الدول يتحقق الاستغلال بمنطق وطني مقاوم وفي أفق تحرير السوق الداخلية كلية، مع ما يعنيه ذلك من تحرير للعلاقة بين الرأسمال والعمل الوطنيين، وكذا تعميم “النمط الرأسمالي” على باقي المجالات غير المهيكلة والقطاعات ما قبل الرأسمالية. إن الاستغلال الممارس على العمال في هذه الدول، بقدر ما يطلب نضالا خاصا لتحقيق بعض المكاسب، فإنه يعتبَر نوعا من المقاومة بوجهين: رفع فائض القيمة الداخلي، إنتاج فائض خارجي تدبيرا لتوازنات اقتصادية وسياسية لمصلحة دولهم.

هذا هو السياق الاقتصادي-السياسي لاشتغال الطبقة العاملة العربية اليوم؛ استغلال رأسمالي داخلي خاضع لشرطين يفرضهما الرأسمال الإمبريالي الغربي، وهما: منافسته في الأسواق الداخلية، والتبعية له في إطار “التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل”. ما المطلوب إذن؟ من جهة الطبقة العاملة العربية: النضال النقابي والحقوقي في إطار ما يقوي الرأسمال الداخلي ولا يضعفه أمام الرأسمال الأجنبي. من جهة الرأسمال الوطني: منافسة الرأسمال الأجنبي في السوق الداخلية، استثمار التناقضات الرأسمالية (بين الرأسمال الفرنسي والأمريكي كمثال أول، بين “اشتراكية السوق” والإمبريالية الغربية كمثال ثانٍ)، التنازل عن بعض حقوق الطبقة العاملة وعن بعض مظاهر الاستهلاك الفاحش و الملكية الاستغلالية اللامشروعة (التهرب الضريبي، كنز الأموال في الأبناك الرأسمالية الأجنبية بدل استثمارها في الداخل/ ذكره عبد الصمد بلكبير في مقال “يدنا منا ولو كانت من جذام”).

من يتحدث عن حقوق عمالية بلا حدود وبلا سقف، فهو يتحدث عن فوضى عارمة لا تخدم العمال، وإنما تخدم الإمبريالية الغربية نفسها. أما من يريد خلط الأوراق الطبقية وجعل العمال والكداح والفلاحين الصغار كغيرهم من الطبقات (البورجوازيتين الصغيرة والكبيرة)، فهو لا يخدم لا العمال ولا الرأسمال الوطني. فهذا في حاجة إلى تنازلات لاستقراره وامتلاك قدرة استثمارية على منافسة الرأسمال الأجنبي، والعمال في حاجة إلى حقوق ضرورية تجعلهم قادرين على الصمود في واقع التبعية والمقاومة. الرأسمال يتحول على المستوى العالمي، الإمبريالية الغربية تنحسر بشكل غير مسبوق؛ وهذا ما يجب أن يعيه العمال ومالكو وسائل الإنتاج أيضا.

وهنا يجب أن نتساءل بنوع من الحسرة والأسف والتفهّم: أين هي النقابة العربية، ومعها الاشتراكيون الوطنيون العرب، ليقوموا جميعا بأدوارهم في التوعية والتأطير؟! ربما نعيش زمنا يختلف عن ثنائية ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن بلداننا العربية في حاجة إلى مرجعية تحليلية ثانية للفهم، لتحديد موقعنا الاقتصادي-السياسي في عالم يتحول فوق رؤوسنا جميعا. ما دور الرأسمال العربي؟ ما دور الطبقة العاملة العربية؟ ما دور الطبقات الوسطى العربية؟ هذه أسئلة ملحة، ويجب أن يجيب عنها اليسار العربي.