12 سبتمبر 2025 / 20:21

الصمت المغربي: مقام الهيبة وبلاغة الغياب الحاضر

محمد خياري
أصوات تتكاثر ومعانٍ تتناقص، والمغرب وسطها، يقف ككائن رمزي، لا يُقرأ بالعين المجردة، ولا يُفكَّك بأدوات التحليل المعتادة. إنه بلد لا يُفسَّر، بل يُعاش. لا يُختَصر في القصاصات، بل يُتذوَّق في الأزقة، في الأسواق، في النظرات العابرة، وفي الصمت الذي يسبق الكلام.
المغرب ليس موضوعًا للتحليل، بل تجربة للذوق. إنه بلد يُربِك مَن اعتاد على الوضوح، ويُعجِز مَن ظن أن الفهم يُنتزَع من الكلمات. فهنا، الصمت ليس غيابًا، بل حضور كثيف، يُمارَس كما يُمارَس الذكر، ويُقرأ كما يُقرأ السر في عيون الأولياء.
في حضرة الصمت المغربي، تُصاب التحليلات بالخرس، وتتحول الكلمات إلى دخان لا يستقر. الغرب، حيث يُقاس الفعل بعدد الكلمات، يقف عاجزًا أمام بلد يُعلِن قراراته بالهيبة، لا بالشرح. حين يصمت الملك، لا يُفسَّر صمته كفراغ، بل كإشارة كثيفة، تُعيد ترتيب المعاني، وتُربِك مَن ظن أن السياسة تُفهَم بالتصريحات.
الصمت هنا ليس تكتيكًا دبلوماسيًا، بل مقام روحي، يُمارَس كما يُمارَس الإنصات للفيض الإلهي. هو صمت يُهيّئ القلب، ويُربِك العقل، ويُعيد ترتيب اللغة. هو صمت يُشبه سكون البحر قبل العاصفة، أو سكون الجبل قبل انبثاق النور.
المحللون، خصوصًا من خارج النص، يحدِّقون في المغرب كما يحدِّق العميان في الشمس. يجمعون القصاصات من هنا وهناك، من تغريدة مبتورة، أو تصريح مجتزَأ، أو صورة لا تقول شيئًا. ثم يخرجون علينا بتحليلات تُشبه وصف اللون لمَن لا يرى، أو شرح الذوق لمَن لا يذوق.
لو سألونا النصيحة، لقلنا لهم: اقطعوا الطريق من طنجة إلى الكويرة، لا في الخرائط، بل في الأرواح. عيشوا المغرب في التسعينات، وعيشوه اليوم، لا في التقارير، بل في المقاهي التي لا تُكتَب عنها دراسات، وفي الأسواق التي لا تُفكِّكها النظريات. اشتروا الخبز قبل الألفين، واشتروا الورد الآن، واشتروا السكوت الذي لا يُباع. كلوا الذوق، لا الطعام فقط. عاشِروا المغاربة في صمتهم، لا في لقاءاتهم الرسمية. ربما، وربما فقط، ستفهمون شيئًا مما لا يُقال.
لأن ما لا يُقال، هو ما يُقال فعلًا. وما لا يُفسَّر، هو ما يُفسِّر كل شيء. الصمت المغربي ليس فراغًا، بل امتلاء رمزي، يُربِك مَن اعتاد على الضجيج. هو مقام من مقامات الهيبة، لا يُدرَّس في الجامعات، ولا يُفكَّك في مراكز البحث.
في المغرب، الهيبة لا تُشرح، بل تُحَس. والصمت لا يُفسَّر، بل يُقرأ كما يُقرأ السر في عيون العارفين. ومَن لم يُعاشِر المغاربة قبل الألفين، ومَن لم يأكل معهم، ومَن لم يسكن في صمتهم، سيبقى عاجزًا عن الفهم، مهما كثرت تحليلاته.
محمد السادس، حين يصمت، لا يغيب، بل يحضر بكثافة تُربِك التفسير. صمته ليس انسحابًا، بل إعادة ترتيب للغة، وإشارة لمَن يعرف أن الهيبة لا تُفسَّر، بل تُذاق. هو يمارس صمته كما يُمارَس الذكر، وكما يُمارَس الإنصات للفيض، وكما يُمارَس الحضور في غياب الكلام.
في النهاية، سيبقى المغرب لغزًا لمَن ظن أن السياسة تُفهَم بالقصاصات، وأن الهيبة تُشرح. وسيظل الصمت المغربي مقامًا من مقامات الولاية، لا يُدرِكه مَن اعتاد على التحليل، بل مَن ذاق طعم الرمز، وسكن في حضرة السكوت.