الصلة الوثيقة بين القرآن وسيرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم

سماح عبدالرزاق
2023-09-28T08:44:32+01:00
آراء ومواقف
سماح عبدالرزاق28 سبتمبر 2023آخر تحديث : الخميس 28 سبتمبر 2023 - 8:44 صباحًا
الصلة الوثيقة بين القرآن وسيرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم

بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
– مقدمة.
– ارتباط السيرة النبوية بالقرآن الكريم.
– فقه كتاب الله وفهم معانيه.
– اختلافات في عرض أحداث السيرة بين كتب السيرة والقرآن الكريم.
– العرض القرآني لأحداث السيرة النبوية.
– منهج القرآن في الربط بين الأحداث.
– خصائص القرآن الكريم فيما ورد فيه من السيرة النبوية.
– خاتمة.

مقدمة:
يعتبر فقه السيرة النبوية فن مستقل من فنون علم السيرة النبوية، وهو ما اشتملت عليه مشاهد السيرة النبوية من شتى الأحكام الحرِيَّة بالاستخراج استخراجا مُؤَسَّسا على مفهوم هذا العلم الشريف، ومنهج البحث فيه ومقاصده. °
كما يعتبر علم فقه السيرة النبوية من أهم أنواع الفقه التي يجب الإحاطة بها علمًا وفهمًا، كما يجب معرفة علاقة السيرة النبوية بالقرآن الكريم، وأهم ما يتعلّق بسوره وآياته. وفقه السيرة النبوية يرتبط بكل مصدر يشتمل على علم السيرة النبوية، ومن أهم مصادره القرآن الكريم، ففيه يجد العلماء (الأصوليون والمحدثون والفقهاء..) ما يتعلق بتخصصهم في فقه الأحكام مثلا، لكن حين تُقاص تلك المواد إلى علم السيرة النبوية داخل النص القرآني تجد أنها مادة أزخرُ وأجلى، وأنها أكثر تنوعاً، وأنها لا تشتمل على الحكم المُضْمَرِ أو المُظهَر فقط، بل تشتمل من السيرة على أصناف فنية أخرى تتعلق بالتأليف أو الدراسة الموضوعية، كما تتعلق بمواضيع لم تتناولها مصادر السيرة النبوية.
فمن فقه السيرة النبوية معرفة أسباب نزول سور القرآن الكريم وفهم مقاصدها، ومعرفة كيفية تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم للأحكام الواردة فيها، خصوصًا أن أحداث السيرة النبوية تُعدّ طريقة لتفسير آيات القرآن الكريم، ولا يمكن معرفة معاني القرآن بمعزلٍ عن السيرة النبوية، كما أن استنباط الأحكام الشرعية الصحيحة لا يكون إلا من خلال فقه السيرة النبوية، خصوصًا أنّها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقرآن، ولا غنى للمسلمين عنها بأيّ حالٍ من الأحوال، لأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ترجمة للقرآن. ويُعَدُّ زاد المعاد من أهم كتب السيرة النبوية وأشملها عموما، وقد أُلف في فقه السيرة النبوية، وكل من ألف في فقه السيرة بعده يأخذ عنه. وهذا المُؤلَّفُ المبارك غنيٌّ بالعبر القيمة والاستنتاجات السديدة والقويمة لكل مراحل السيرة، تدفع الدارس والمهتم بسيرته للتعمق في دراسة هذا الكتاب الفريد من نوعه.
والفقه لغة: العلم والفهم والفطنة. قال الراغب الأصفهاني جامعا بين الدلالتين اللغوية والاصطلاحية وهو من أفضلِ وأجمعِ ما قيل: {الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد}، وهو أخص من العلم.
قال تعالى: (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا). (النساء:78) (1)
ومن المعلوم أن مقدمات أمهات مصنفات العلوم الشرعية هي مَكْنزُ أسرار حقائقها، ومخبأ مفاتيح فقهها، أو منارة على الطريق الذي نصبهُ أئمتها لمن يروم السير في طريق بلوغهم وفتوحهم. وقليلا ما ندرس مقدمات هذه الكتب رغم أنها تعين على فهم ما يوجد داخلها، فهي مفاتيح لفهم مضامينها.
وتعتبر مقدمة زاد المعاد لابن القيم رحمه الله المصنف الوحيد من أمهات مصنفات علم السيرة النبوية الشبيه بمقدمات أمهات كتب التفسير التي حظيت بالإبراز تميزاً وشرحاً، كمقدمة الحافظ بن كثير، ومقدمة أبي حيان الغرناطي. ومقدمة كتاب زاد المعاد تعتبر كخريطة طريق تُوجِّهُ من يلج هذا الكنز الثمين لاستخراج اللآلئ المدفونة داخله، وقطف الزهور الفريدة المتنوعة منه. وبذلك يظهر غنى وخطورة هذه المقدمة التي يستحيل على الباحث المتخصص والبصير في علم السيرة النبوية الذي عرف قدرها، أن لا يقف عندها ليستخرج تلك الفوائد المسعفة، واللآلئ والكنوز المخبئة في كنهها.°

ارتباط السيرة النبوية بالقرآن الكريم:
يعتبر القرآن الكريم حجة الله البالغة ومعجزته المتجددة ورسالته الخالدة، جاء بالقولِ الفصل في سائر الأمور، وبالشفاء التام لما في الصدورِ، وبالهدى القويمِ لسائرِ العصورِ. فالقرآن هو المصدر الأول والأساسي للسيرة النبوية، وصلته بمصادر السيرة الأخرى، صلُة التكاملِ والاتساقِ، بحيث تكتمل الصورة، وتُستوفى الدراسة. وللقرآن الكريم مقاصده الجليلة وأساليبه الرائعُة، فهو منهاج الحياة ودستورها. وقد اتسم بمنهجه الفريد في العرض والتحليل والربطِ والتعقيبِ فضلا عن روعة الأساليب وجمال التراكيب، وقوة التأثيرِ وعمقِ التعبير.
أما السيرُة النبويُة فتعتبر الترجمةَ الواقعيةَ لكتاب الله تعالى والنموذج التطبيقي لما دعا إليه من محاسن التشريعات ومكارم الأخلاق، وقد تجلى ذلك في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سأل سعد بن هشامٍ بنِ عامرٍ أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها عن خُلقِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَت: أَلَيس تقْرأ الْقرآنَ؟، قَالَ سعد: بلَى، قَالَت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن….

ولقد ألِفْنا أن نجد نصوص القرآن الكريم حاضرة في كتب السيرة النبوية المتقدمة، لكن الملاحظ أنها تأتي تابعة لا أصلا، إذ الغالب لدى الكُتَّاب في السيرة النبوية أن تكون الروايات الأخرى هي الأصل والأساس، وقد يُستحضَر القرآن الكريم عند أسباب النزول إذا ارتبطت بالحدث، أو ما ورد فيه من التعليق عليها. وقد نبه ابن هشام في سيرته على ذلك، فكان من منهجه أن يسرد الحدث مع ما نزل فيه من القرآن الكريم، إما سببا أو رواية.
يقول الشيخ عزة دروزة: “….ابن هشام خاصة قد استشهد على كثير مما نقله من حوادث، أو دونه من وقائع، أو أورده من روايات بالآيات القرآنية، يوردها كسبب للنزول ويشرح الحوادث بها، وهي مزية يستحق من أجلها التنوير والتقدير…”(2)
وقد حاول الشيخ مَحمد عزة دروزة من خلال كتابه النفيس أن يقدم صورة متكاملة لسيرة (الحبيب المصطفى) صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن الكريم، مراعيا في ذلك ترتيب النزول، حريصا على استحضار مجمل مراحل السيرة…. ولا شك أن لهذا العمل فضائل منهجية هادية، وعلى رأسها الدمج البديع بين الآيات على تنوع أغراضها والسيرة النبوية، فقد تجد آيات في العقيدة أو في العبادات أو في غير ذلك، ومن خلالها تستخلص صور بديعة من السيرة النبوية، مما جعل ورودها في القرآن الكريم أوسع مما سطر الكثير من المؤلفين في المجال. كما يُسجَّل للمؤلف رحمه الله تعزيز مصدرية القرآن الكريم للسيرة علواً وتوثيقاً وهداية وتقويماً. والواقع أن عمل الشيخ عزة دروزة عمل عظيم حاز بالسبق تفضيلا، وقدم للأمة صدقة منهجية جارية من شأنها توثيق الصلة بالقرآن في أمر سيرة رسولها محمد صلى الله عليه وسلم…(3)
أما الدكتور أكرم ضياء العمري في حديثه عن مصادر السيرة فقد نبه على منزلة القرآن بهذا الخصوص، فقال:”ويقف القرآن الكريم في مقدمة مصادر السيرة…. وفي القرآن الكريم ذِكرٌ لبعض الأحداث التاريخية في عصر السيرة … حيث يصور الظروف والأجواء العامة التِي وقعت فيها الغزوات والأحداث الأخرى الهامة، وخاصة الأبعاد النفسية مما لا نستطيع الحصول عليه بالدقة والصدق التي ترد في القرآن الكريم من المصادر الأخرى..(4)
…”إن من نافلة القول أن نقول إن المرجع الأول في دراسة السيرة النبوية هو القرآن الكريم، لأنه الكتاب المتواتر الذي يفيد القطع واليقين، ولا يتطرق إليه الشك والارتياب، فهو أوثق المصادر وأولاها بالقبول…”(5)
كما أن مقدمة زاد المعاد اشتملت على أصول هذا الفن من فنون علم السيرة الذي هو فقه السيرة النبوية، وأكثر ما أسَّسَ عليه ابن القيم مقدمته النص القرآني ويليه في الاستدلال نص الحديث النبوي.

فقه كتاب الله وفهم معانيه:
ولإن كان خُلقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها، فالسيرة النبوية الحياتية تعتبر بحق هي المذكرة التفسيرية الشارحة الموضحة للقرآن …وإن أنواعا عظيمة من فقه كتاب الله وفهم معانيه .. ومعرفة مقاصده وغاياته .. والتي يمكن من خلالها تنزيل أحكامه وتشريعاته على واقع الناس وحياتهم في مختلف الأزمنة والأمكنة تبقى متوقفة على الاطلاع على وقائع السيرة وأحداثها التي غالبا ما تكون سببا من أسباب نزول بعض الآيات ..
فإذا أضفنا لذلك أن القرآن قد شمل عموم أحداث السيرة النبوية بالذكر إما على سبيل الإجمال والإشارة، أو على سبيل التفصيل والتحليل .. تبين مدى الترابط العميق بين السيرة النبوية والقرآن ..
إن عرض وقائع السيرة في كتاب الله يختلف كليا عن أي عرض آخر؛ فهو عرض تحليلي ينتقل بقارئه إلى عمق الحدث وإن لم يُغرِقْهُ في تفاصيله وملابساته الدقيقة ..ويشعر القارئ المتدبر للآيات المتعلقة بالسيرة أنه يعايش الحدث ويستصحبه معه إلى الزمان والمكان الذي هو فيه؛ من خلال ما يعرض في ثناياه من الحكم والدروس والعبر والدلالات والإشارات التي لا يجد القارئ معها أي كلفة في تنزيلها على واقعه القريب والبعيد .. والاستفادة منها على صعيد حياته الشخصية أو الاجتماعية ..كما يستفيد منها في تقييم الواقع من حوله حتى يكاد يرى بنور الله؛ ما الله صانع(6) ..

اختلافات في عرض أحداث السيرة بين كتب السيرة والقرآن الكريم:
يذكر الدكتور عبد الصبور مرزوق في مقدمة كتابه: (السيرة النبوية في القرآن الكريم) الاختلافات في عرض الأحداث والوقائع بين كتب السيرة النبوية والقرآن الكريم فيقول:
أولا: إن كتب السيرة النبوية على وفائها وشمولها ووقوفها بالتفصيل أمام الأحداث والوقائع في حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، لم تكد في معظم حالاتها تجاوز ما جاء عن الوقائع والأحداث نفسها في القرآن الكريم…
ثانيا: كتب السيرة في مجملها وقفت عند حد تسجيل الأحداث ووقفت عند حد بعيد، بحيث لدينا سجل حافل بكل ما نحتاج إليه لتتبع مراحل الدعوة، وتفاصيل أحداثها، ومواقف رجال الصدر الأول فيها، ومواقف أعدائها والمترددين فيها من أهل النفاق…..فكل هذا وفره لنا أصحاب السير رحمهم الله وجزاهم خيرا. لكن تقييم هذه الأحداث وتقديرها والحكم عليها…هو ما انفرد به القرآن الكريم في المواطن التي تعرض فيها لذكر هذه الأحداث والوقائع…
ثالثا: إن الحدث التي ترويه كتب السيرة يبقى مجرد حدث مرتبط بزمانه ومكانه وأشخاصه، ولكنه عندما يُروى في القرآن الكريم يتحول إلى درس كبير يتجاوز ظروف الحدث مكاناً وزماناً وأشخاصاً إلى حيث يصبح قضية عامة ومبدأً يعامل به كل المسلمين في كل زمان ومكان متى تشابهت ظروف هذا الحدث الخاص…
رابعا: ثمة أحداث عرضت لها كتب السيرة بشيء من التفصيل، بينما آثر القرآن الكريم فيها التعميم والإجمال، وذلك لحكمة إلهية تقتضي الإيجاز وتكتفي بتقرير الحدث…
خامسا: وهناك أحداث أوجزتها كتب السيرة النبوية، بينما فصلها القرآن فاستوعب الحدث ونتيجته، وقرر الحكم الذي يرتب عليه…
سادسا: قد انفرد القرآن الكريم بالحديث عن كثير من صفاة النبوة وخصائصها بالنسبة لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه، مما لم يرد ذكره في كتب السيرة….
سابعا: لقد امتاز العرض القرآني لأي حدث من أحداث السيرة النبوية على كل ما كُتِب وما سَيُكتبُ منها بالأسلوب وبالبيان المعجز الذي تَكسِب الكلمات والجمل منه حيوية دفاقة، تجسم الحدث وتحيطه بالإيحاءات والظلال، وتنقل القارئ والمستمع إلى جوِّه وكأنما يعيشه أو يشارك فيه، وذلك ما لم يتوفر وما لن يتوفر لأي من كتب السيرة في القديم والحديث….
ثامنا: إن كانت كتب السيرة تقف في تسجيلاتها عند ظواهر الأحداث والتصرفات..لأنها لا تملك النفاذ إلى ما وراء ذلك، فإن ما جاء عن السيرة النبوية في القرآن الكريم يمتاز بالحديث عما وراء الظاهر، حيث أنه بميزة الوحي الإلهي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم يستطيع استبطان الأحداث والأشخاص وكشف ما في أعماقهم وتقديمه للناس…
تاسع: إذا كانت كتب السيرة النبوية قد عرضت في تفاصيلها للكثير من حالات الناس ومواقفهم بين مرتبتي الإيمان والكفر وما بينهما من تردد ونفاق…فهي قد عرضت ذلك مبثوثا في مواقعه وحسب زمان الحدث ومكانه، من غير أن تُقرِنَ الحالات وتضمها إلى بعضها بما يشكل منها آخِر الأمر نموذجا فيه السمات والخصائص…
لكن للقرآن أسلوب آخر، جمع فيه سِمات النموذج المتشابه بعضها إلى بعض، وقدمها للناس في أدق صورة…. وعلى سبيل المثال، إذا كانت كتب السيرة قد تحدثت عن أخلاق أهل الإيمان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفت الكثير من شمائلهم مكتفية بذلك، أما في القرآن فترى ملامح هذه الشخصيات مرسومة في بعض سور القرآن ليقتدي بها من شاء على نحو ما تجده في أول {سورة المؤمنون} حيث تجتمع في السورة عشر آيات متصلة تبين خصائص هؤلاء، وما ينبغي أن يكون عليه من يحب أن يكون منهم….
عاشرا: إذا كانت كتب السيرة على اختلاف مؤلفيها واختلاف وجهاتها في التناول قابلة لأن تضم بين طياتها خبراً صحيحا، أو رواية مشكوكا فيها، أو استنتاجا غير صادق. لكن ما يجئ من حديث السيرة في القرآن الكريم فهو القول الفصل الذي لا شك فيه ولا اضطراب… وهو وحده المرجع الأعظم الذي تصحح به المراجع، وتعرض على مقياسه السير والتاريخ….
حادي عشر: إذا كانت السيرة تحدثت عن حدث صغير ففي القرآن الكريم نرى الحدث يتحول إلى درس كبير ونموذج عام يُهملُ فيه أصل الحدث ويُشارُ فقط إلى سماته القابلة للتكرار، ويُلفَتُ فيه الانتباه إلى البديهيات التي يجب ألا تنسى…
ثاني عشر: من خصائص البيان القرآني أنَّ عَرضَ السيرة في القرآن يختلف عنه في كتب السيرة، وأن البيان القرآني يختلف إيجازاً وإطناباً بحسب حجم الحدث من المنظور البشري، ولكن بحسب ما تقتضي الحكمة الربانية، فربما كان الإيجاز مقصوداً لذاته لابتلاء صدق الإيمان من زيفه لدى أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإسراء والمعراج، بدليل أن بعض من كانوا على الإسلام ارتدوا عليه لما سمعوا بالخبر (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس..)، وربما كان لله تبارك وتعالى في ذلك حكمة لا نستطيع إدراكها، لكن هكذا جاءت أحداث السيرة في البيان القرآني دافعة إلى التفكير والتأمل في كل حال….
ثالث عشر: إن البيان القرآني يعطي للأحداث مذاقاً آخر فيه استخلاص حكمة الحدث كله، والدلالة على موطن الاعتبار فيه، وبيان أن هذا النبي الداعي إلى الحق منصور بإذن الله وتأييده سواء استجاب له الناس أو قاوموه..(7)

العرض القرآني لأحداث السيرة النبوية.
إن للقرآن الكريم منهج فريد في سرده للسيرة النبوية، بحيث يدور هذه المنهج مع المقاصد العامة لهذا الكتاب، الذي نزل هدايةً ورحمةً، وتبصرةً وذكرى، وحجةً وبرهانا فضلا عن كونه المعجزةَ الخالدةَ والآيةَ المتجددةَ التي تحدى اللهُ بها العرب والعجم، بله الإنس والجن.
“…وللقرآن الكريم مقاصده الجليلة وأساليبه الرائعُة، فهو منهاج الحياة ودستورها، وقد اتسم بمنهجه الفريد في العرض والتحليل، والربط والتعقيبِ، فضلا عن روعة الأساليب وجمال التراكيب، وقوة التأثيرِ وعمقِ التعبير… فتارة يسبق الأحداث، وتارة يصاحب نزوُله وُقوعَها، وتارة يَنزِل في إثرها مُعَقبا عليها، وتارةً يتأخر لحِكَمٍ بالغة فينزل بأدق المعاني وأروع الأساليب وأسنى المقاصد…”. (8)
ويتسم العرض القرآني لأحداث السيرة النبوية بسمات عديدة منها:
أولا: الوضوح.
فالرسالة التي يوجهها القرآن ويخاطب بها الناس على تباين مشاربهم وتفاوت مداركهم رسالٌة واضحٌة، وهذا هو سر نجاحها وتأثيرها القوي؛ ” إذ لا يكفي لنجاح الرسالة وصوُلها للناس؛ لأنها إن وصلت فلن تلقى القبول إذا كانت غامضةً أو معقدةً، لأن مصيرها في هذه الحالة الإهمال والإعراض، وقد تكون الرسالة واضحة ولكنها لا روح فيها ولا تأثير ” ( (9).
وهذا الوضوح الذي نلمسه في كتاب الله تعالى الذي يقبل عليه الكبير والصغير ويفهمه العالم والعامي، هذا الوضوح نابع من تيسيرِ الله تعالى له:(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكر).(القمر:17)….
ثانيا: العمق والدقة في التصوير.
من روائع الأسلوب القرآني في بيان السيرة النبوية: تصوير المعاني المجردة في صور محسوسة ومشاهد ملموسة،
وعرض الأحداث عرضا حيا، تستحضره الأذهان وتستظهره القلوب، عرضا مباشرا يتفاعل معه الوجدان وتعاينه البصائر، فكأنها في قلب الأحداث تتابع بشغف وتطالع بلهفة وشوقٍ ما يستجد على الساحة وما يجري في الميدان …
…فالقرآن الكريم يَحمِلُنا إلى قلب الأحداث وينقل لنا صورةً حيةً نابضةً، ووصفا دقيقا حتى لكأننا نرى تلك الأحداث رأي العين، بل ونعيشها لحظةً بلحظةً…
ثالثا: القوة.
للقرآن الكريم قوته الغالبة وحجته البالغة، وتأثيره العميق وسلطانه القاهر، وسماته الفريدة التي تَميَّز بها عن سائر فنون الكلام، ” فهو ليس بشعر ولا نثر ولا سجع، إنه قرآن، الفارق بينه وبين غيره، هو الفارق بين صنع الله وصنع البشر، يُحس بذلك ويقر به كلُّ من اتصل به وتأمل آياته – تلاوة أو سماعا – المؤمنون به وغير المؤمنين “)
قوة الحق وسلطانه على النفوس وتأثيره في القلوب وتغلغله في الصدور، حتى كان له رهبٌة في قلوب أعداء الدعوة، فكانوا يَحْذَرون من نزوله في شأنهم، وكانوا يخافون من سلطان تأثيره…
رابعا: الموضوعية:
حين يتناول القرآن الكريم موضوعا معينا من موضوعات السيرة العطرة فإنه لا يكاد يخرج عنه إِلا بعد استيفائه، فإذا كان ثمة استطراد؛ فلما له صلة بالموضوع ذاته وبما يتصل بالسياق العام.
ومن الموضوعية أيضا: سرد الأحداث سرداً موضوعياً لا مجال فيه لمجاملة أو محاباة، ونلمس ذلك عندما يتحدث القرآن الكريم عن انتصارٍ أو هزيمة، فإنه يعرض العوامل والأسباب والإيجابيات ويُقيِّم الطائفةَ المؤمنةَ تقييما موضوعيا، كما يُقيِّمُ المنافقين وغيرهم من أعداءِ الدينِ تقييما دقيقًا عادلا…
خامسا: العموم.
من ذلك مخاطبته لجميع الناس على اختلاف مداركهم، مع الجمع بين الوضوح والبيان والدقة والإتقان، فتراه متلائما متوافقا مع تفاوت العقول وتعدد الثقافات وتنوع الاهتمامات واختلاف المواهب والملكات، مع ذلك لا تلقى فيه تعارضا أو تناقضا أو تفاوتا في روعة الأساليب ورفعتها وجلالها ودقتها. والمتأمل في البيان القرآني للسيرة النبوية يلحظ التنوع في الحوار والتفنن في الأساليب بما يتلاءم مع تنوع الناس وتفاوت مداركهم ففيهم العامي وفيهم العالم، وفيهم من له عناية بعلم من العلوم أو فن من الفنون، فتجد التنوع العجيب في عرض السيرة بما يتناسب مع جميع العقول والثقافات، ويتواكب مع سائر العصور والأجيال(10).
سادسا: الشمول:
حيث استوعب القرآن الكريم جميع مراحل السيرة العطرة، فكان حديثه عن النبي قبل البعثة وبعدها، وعن أحوال العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، كما تحدث ” عن الحضارات القديمة التي كانت في الجزيرة العربية وما جاورها، مما يلقي الضوء على المجتمعات الإنسانية قبل وحين ظهور الإسلام ” …) (11)…
-ومن هذا الشمول عرض السيرة النبوية عرضا يتناسب مع تفاوت المدارك وتنوعِ المشاربِ.
-ومنها الشموليُة في منهج العرض حيث يجمع القرآن الكريم بين المنهج الوصفي التاريخي وبين المنهج التحليلي المقارن…….
-ومن شمولية هذا البيان القرآني شمولية الخطاب حيث الجمع في آن واحد، بين خطاب العقل والعاطفة. وحول هذه السمة القرآنية يقول الزرقاني رحمه الله في مناهل العرفان: «إرضاؤه العقل والعاطفة، ومعنى هذا أن أسلوب القرآن يخاطب العقل والقلب معا، ويجمع الحق والجمال معا، … إلى أن قال: “وهكذا تجد القرآن كله مزيجا حلوا سائغا، يخفف على النفوسِ أن تجرع الأدلة العقلية، ويرفِّه عن العقول باللفتات العاطفية ويوجه العقول والعواطف معا جنبا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسان « ((12)
ويقول دراز رحمه الله العاطفة والوجدان:” تدبروا في آيات القرآن الكريم: فسترون أنها في معمعة البراهين والأحكام، لا تنسى نصيب القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب، تجد ذلك في مطالعها ومقاطعها، بين كلماتها وحروفها “(13)
ويقول محمد شديد:”ومنهج القرآن الكريم في الدعوة والتربية أنه يخاطب الكائن البشري كله: عقله وضميره ووجدانه، يحرك الفكر والخيال، ويلمس الحس والبصيرة، ويثير الانفعالَ والشعور، فيستغل في الإنسان كل طاقاته ومواهبه، وينفذ إلى صميمه من كل منافذه ويؤثر فيه بكل المؤثرات .لم يقتصر القرآن على خطاب العقل ؛ فالعقل نافذة واحدة من نوافذه ، لم يسلك سبيل الإقناع الذهني المجرد، ولم يعتمد قط على أقضية المنطق الجافة ، إنما ارتفع بأسلوبه إلى مجال الفطرة الشاملة ، وقصد به إلى منطقة الوجدان الحارة ، موطن التحويل والإيمان “.(14)
سابعا: التداخل أو الامتزاج.
…فتلقى هذا المعنى الذي قصد إليه القرآن مبثوثا في معظم آياته ممزوجا بما جاء في القرآن من أحكام وقصص وأخبار
وحكَمٍ وأمثالٍ، ووعد ووعيد. ولو أن القرآن اتبع في عرض معانيه، هذا الأسلوب الذي يسلكه الناس في تآليفهم وبحوثهم فأفرد فصولا للسيرة وأخرى للعقيدة وثالثة للأحكام، ورابعة لقصص السابقين، وخامسة للأمثال وسادسة للوعد والوعيد
إلى آخره … لو سلك القرآن هذا المسلك لمَاَ وُجِد هذا الاتساق العجيب، وهذا التناسق البديع بين المقاصد والمعاني. لكن القرآنَ الكريم سلك منهجا فريدا في بيان الأحكام: حيث لم تَرِدْ مُعْظمُها جملةً واحدةً أو في سورة واحدة ،بل جاءت منثورةً في سورِ القرآن، متناسبةً مع سياقِ كلِّ سورة وأهدافها، يجمعها نسق واحد ويضمها سياق واحد ،فتجد الترابطَ والتناسق بينها مع تنوعها، فتلقى أحداث السيرة العطرة ممتزجةً بقصص الأنبياء عليهم السلام متسقةً مع آيات العقيدة والأحكام، مقترنةً بالعبر والعظات والحكم والأمثالِ … كل ذلك في تناسق بديع وتناسبٍ لطيف.
ثامنا: الإيجاز مع ثراء المعنى.
المتأمل في البيان القرآني للسيرة النبوية يلمس كيف يستوعب النص القرآنيُّ كثيرا من المعاني…. فترى الإيجاز بأبهى صورِه، والبلاغةَ بأروعِ أساليبها تتدفَّق من ثنايا النصوصِ وتتألق من سنا التعبيرات القرآنية الجامعة.
تقرُأ النص القرآني فتلقَى فيه ثراءً ووفاءً بالمعنى المراد كأنك ترى صورا وحقائق ماثلةً ومشاهد حيةً، فهو رسالُة كلِّ العصورِ وخطاب صالح لجميع الأجيالٍ؛ ولا غرو فهو المعجزة الخالدة والرسالة المتجددة والنبع الفياض والنهر اُلمطَّرِد والبحر الزاخر الذي لا ساحلَ له….
يقول صاحب المناهلِ تحت عنوان (قصْد القرآن في اللفظ مع وفائه بالمعنى )”:ومعنى هذا أنك في كلٍّ من جمل القرآن تجد بيانا قاصدا مقدرا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية، دون أن يزيد اللفظ على المعنى أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق، ومع هذا القصد اللفظي البريء من الإسراف والتقتير تجده قد جلَّى لك المعنى في صورة كاملة لا تنقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيها أو حلية مكملة لها، كما أنها لا تزيد شيئا يعتبر دخيلا فيها وغريبا عنها بل هو كما قال الله:(ألر كتاب أحكمت آياته ثو فصلت من لدن حكيم خبير….)(هود:1)(15)
تاسعا: براعُة الاستهلال.
قال السيوطي: ” وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سيق الكلام لأجله ” ((16).
تأمل ذلك في استفتاح سورة الفتح التي نزلت معقِّبةً لصلح الحديبية وما تضمنه هذا الصلح، وما ترتب عليه من فتوحات للدعوة الإسلامية وخيرات للمسلمين، فكان افتتاحها بهذه البشارات الطيبة والأخبار التي تبتهج لها النفوس وتنشرح لها الصدور، وتستيقن القلوب سكينةً وطمأنينةً إلى ما ينطوي عليه هذا الصلح…. ذلك أن بعض الصحابة لم يفطن في بادئ الأمر إلى أهمية هذا الصلح ومزيته فجاءت هذه الآيات لتقرر قيمةَ هذا الصلح وتبشر المؤمنين بنتائجه المرجوة، وثمارِه المرتقبة، وتطيب نفوسهم ….
* كذلك حين نتأمل في سورة الأنفال التي جاءت إثر غزوة بدرٍ واستهلت بقوله تعالى :(يسألونك عن الانفال، قل الانفال لله والرسول، فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مومنين).(الأنفال:1). والحكمة من هذا الاستفتاح أن الأنفال وهي الغنائم مما تحبها النفوس وتأنس بذكرها؛ فكان في البداية بها بدايةً بالمحبوب؛ ولفت للأنظار وتنبيه للأذهان، وحسمٌ لما قد يكون مثارا للجدل والخلاف في شأن تقسيمها مسارعةً إلى إزالة كلِّ ما يؤدي إلى الُفرقة بين المسلمين ….
عاشرا: حسن الختام.
كما أن لحسن المطلع وبراعة الاستهلال روعته ووقعه كذلك للخاتمة وقعها في النفوس وأثرها الذي يبقى في الأذهان فهي
آخر عهد المستمع بالمتكلم، قال ابن أبي الأصبع في كتابه بديع القرآن: “يجب على المتكلم شاعراً كان أو ناثراً أن يختم
كلامه بأحسنِ خاتمة، فإنها آخر ما يبقى في السماع، ولأنها ربما حُفِظت من دون سائر الكلام في غالب الأحوال، فيجب أن يجتهد في رشاقتها ونضجها وحلاوتها ” ((17).
نلمس ذلك ونتذوق هذه العذوبةَ والبلاغةَ في كل ما ورد ختاما لحادثة وبدايةً لواقعة، حيث يأتي السياق معقِّبا أحسن تعقيب، فيأتي بتمام الموضع واكتماله، ويسوق نتائجه ويبرز أبعاده كما يجلِّي عبره وعظاته ….
حادي عشر: التركيز على استخلاص الدروس والعبر.
لم يُعنَ القرآن كثيرا بتعيين المبهمات من الأشخاصِ والأماكن أو الأعداد والتواريخ، وإنما ترك بيان ذلك لباقي مصادر السيرة، انظر على سبيل المثال في ذكره لأحوال المنافقين وكشفه خباياهم دون ذكر أسمائهم، ولعلَّ الحكمةَ من ذلك أن من بين أولئك المنافقين الذين ذكروا بأفعالهم لا بأعيانهم: من تاب إلى الله تعالى توبةً نصوحا، بعد أن حاورهم القرآن الكريم بهذا الأسلوب المقنِع، وعاتبهم ذلك العتاب الذي لو وُجِّه إلى صخرٍ لتصدع حياءً ورهبةً، ورِقَّةً وخشيةً.
والقرآن الكريم بوجه عامٍ إنما يعنى في عرضه للأحداث باستخلاصِ العبرِ والعظَات، وتربية الأفراد والجماعات، وتقويمِ
السلوك المعوج، وتشخيصِ الداء، ووصف الدواءِ، وهداية الحائرين، وإرشاد السالكين، وبيان عواملِ النصرِ ومقومات التمكينِ. لذلك كان التركيز على الدروسِ والعبر، وترك القرآن الكريم تلك التفصيلات المتعلقة بالأشخاص والأماكن والتواريخ لمصادر السيرة الأخرى، وفي هذا ما يدل على التكامل بين جميع مصادر السيرة فلا تتم الدراسُة الوافيُة للسيرة العطرة إلا في ضوئها كلِّها…..
ثاني عشر: تنزيل الأحداث على الواقع.
تنزيل الآيات على الواقع الذي نعيشه؛ ذلك أن القرآنَ الكريم يتواكب مع كلِّ عصرٍ وَمَصْرٍ ويتناسب مع كلِّ جيلٍ وقبيلٍ.
منهج واقعي في معالجته للواقع ومعايشته له، ومواكبته للنوازل، وتعقيبه على الأحداث وإجابته على التساؤلات….
-واقعي في سرده للأحداث التي نستلهمُ منها العبر، ونستمدُّ المواعظَ، ونستخلص الفوائد.
-واقعي في حِكَمه ووصاياه: التي تَشحذ الهمم وتسمو بالأرواحِ وتقيم الحياةَ وتنهض بالمجتمعات.
-واقعي في حديثه عن حقيقة الإنسان وما يتعلق به من حيث المبدأُ والمعاش والمعاد، وما أَودع اللهُ فيه من غرائز وعواطف.
-ومن واقعية المنهج القرآني نزوله منجما حسب الوقائع والأحداث، ومتابعته لكل ما يستجد على ساحة الدعوة على مدار مرحلتيها المكية والمدنية.
” منهج واقعي جاد، يواجه وقائع الحياة بالأحكام، المشتقة لها من أصول شريعة الله، مواجهة عملية واقعية…. مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقاً كاملاً دقيقا …(18) “(19)
فنبينا صلى الله عليه وسلم يقدم لنا تفسيرا واقعيا للقرآن الكريم: من خلالِ أقواله وأفعاله وحِله وترحاله، وحركَاته وسكَناته وإيماءَاته، وأحاسيسِه وانفعالاته، كان خُلُقه القرآنَ في تعاملاته اليومية مع أهلِ بيته وجيرانِه وخلَّانِه، في هديِه وفي سوقه وفي طريقه، في سلمه وحربِه، كان نبينا صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى للمنهجِ القرآنيِّ الذي صاغَ منه أسلوبا رائعا للحياة.
ولا يخفى أن ما ورد في القرآن الكريم من السيرة النبوية مؤسسٌ على حكم بليغة ومقاصد جليلة. فما اختار الله تعالى
من الأحداث وخلدها في كتابه الكريم، إلا لحاجة الأمة المتجددة إليه. بل كلما عظمت الحاجة، كلما أمعن القرآن الكريم في التناول…. وقد خص الله القرآن الكريم بتجدد تنزله، واستمرار عطائه، وقدرة نصوصه على استيعاب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة. فلذلك كانت الأحداث العملية التيِ أولاها الأهَمية تناولاً وعرضاً، ذات قدرة هائلة على التجرد من الزمان والمكان الأولين لتصبح فياضة بالعبر والعظات والدروس والفوائد ما تلاها الناس وتدارسوها. وإمعانا في ذلك حرص القرآن الكريم على تجريد الأحداث من الأشخاص والأماكن والتواريخ إلا لمما.(20)
“ولا ريب أن القرآن الكريم ليس كتابا متخصصا في السيرة النبوية، إلا أنه يعتبر المصدر الأول والأساس والأصح
والأدق لها. ولا عجب في هذا، ففيه العناية البالغة لبيان مراد الله تعالى من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله وعن طريقه يتحقق مراد الله تعالى من سائر خلقه. لأنه عليه الصلاة والسلام أول المسلمين وإمامهم. ومع هذا البيان امتاز القرآن الكريم بتتبع ما أمر به ووجه إليه على مستوى التنزيل والتدبير، مما جعل حضور السيرة النبوية فيه حضورا لافتا”. (21)

منهج القرآن في الربط بين الأحداث:
فمن سمات البيان القرآني للسيرة النبوية ذلك الأسلوب الفريد في الربط بين الأحداث:
– فهو يربط بين أحداث السيرة بعضها ببعض، ربطا دقيقا محكما…
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية وقصص الأنبياء….
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية وقصص الأنبياء….
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية والسنن الربانية….
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية والمشيئة الإلهية…
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية واليوم الاخر….
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية ونظائرها في التوراة والإنجيل…
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية والأحكام الشرعية الغرَّاء….
– ويربط بين أحداث السيرة النبوية وافاق المستقبل….
فيربط الماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، للاستفادة من الحاضر والتزود للمستقبل…
– وفي ربط الأحداث بالمستقبل حكمٌة بالغٌة؛ لتكون ضياء مُشرقا وزادا مُدخَّرا للمستقبل،
– وفي ربطها بالسنن الربانية والأقدار الإلهية؛ إشارٌة إلى ضرورة قراءتها في ضوء سنن الله الثابتة وأقداره النافذة.(22)

خصائص القرآن الكريم فيما ورد فيه من السيرة النبوية.
“ويمتاز ما ورد من السيرة النبوية في القرآن الكريم بخصائص منهجية فريدة مستقاة من خصائص القرآن الكريم ومنزلته، لعل أهَمها أربعة خصائص:

الخاصية الأولى: الصحة في أسمى درجاتها.
إن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن أكرمها بكلامه المحفوظ الذي) لا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بين يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنزِيل منْ حَكِيمٍ حمِيدٍ((فصلت،42). وقد تضمن كتاب الله تعالى الكثير من أحداث السيرة وفصولها، بل إن السيرة النبوية ما هي إلا التنزيل العملي المنجم لكلام الله تعالى. فما ورد من السيرة في القرآن الكريم متواتر قطعي الثبوت، وهو بذلك مما اختار الله سبحانه ليكون خالدا حاضرا محفوظا يتلى ما أبقى الله الليل والنهار، مما لا تستغنِ عنه الأمة ولا ينبغي أن تغفل عنه، بل إنها تجعله في مقدمة أولوياتها واهتماماتها.

الخاصية الثانية: استيعاب المراحل والمجالَات.
القرآن الكريم قطعا، ليس كتابا متخصصا في السيرة النبوية، فلا نجد فيه ما اعتاد الكُتاب إيراده وجمعه في مصنفاتهم
من الأحداث والتفاصيل… إلا أنه جمع من السيرة النبوية لُبَّها، واستوعب مراحلها، ونَبَّه في كل مرحلة عما لا بد من استحضاره بخصوصها… ومن جميل ما يُذكر من استيعاب القرآن الكريم للسيرة النبوية، أنه أحاط بِمجالات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه جميعها، التعبدية والدعوية والنفسية والأسرية والسياسية و…وغير ذلك.

الخاصية الثالثة: القصد في أسمى مراتبه.
إنه القصد الرفيع في الاختيار والتناول، فاختيار الأحداث والقضايا دقيق جداً، في منتهى التنزيه عن العبث، كما أن
تناولها في غاية القصد، بعيدا عن الحشو والتفاصيل التِي لا فائدة منها. فالناظر يدرك أن الأحداث الأكثر تناولا من قبل القرآن الكريم هي التِي تفيض بالدروس المتجددة إلى يوم القيامة…أنه ليس من العبث أن ترد مقاطع قرآنية كثيرة متناولة دعوته عليه الصلاة والسلام إلى الله ومحاورته للناس ومجاهدته لهم، أكثر من أحداث القتال والحروب…. …وليس عبثا أن
يخلد الإسراء في القرآن الكريم ويرتبط ذلك بالمسجدين العظيمين، الحرام والأقصى، مما لا تستطيع قوة مهما اشتدت أن تلغي ذلك وتغيبه من تعبير الأمة وفكرها وهُمومها. إننا أمام خريطة ربانية هادية للسيرة النبوية أحكم فيها القرآن الكريم اختيار أحداثها وفصولها وأحكم تناولها وتقديمها.

الخاصية الرابعة: المواكبة بين السيرة والتنزيل.
وهذ من جواهر الخصائص، إذ السيرة النبوية صنعت على هدي تنزل القرآن الكريم أولا بِأول. ففي ظلال نزول الآيات والسور نشأت، ووفق بصائر القرآن الكريم نُسِجت. فما من سورة وإلا تُلقي بالظلال على واقع النبي صلى الله عليه وسلم مع نفسه ومع من حوله، ومن خلال ذلك تتجلى السيرة المواكبة لما نزل…”(23).

خاتمة: ومع تنزل القرآن الكريم بدأت مسيرة النبوة في حياته عليه الصلاة والسلام، ليتجلى من خلالها فقه عظيم عليه مدار الصلاح، ألا وهو فقه الأولويات المُؤَسَّسِ بدوره على فقه الموازنات. إنها الرسالة المنهاجية الهادية التِي تحملها السيرة النبوية، فقُدِّم إصلاح القلب على الاهتمام بالقالب، وتُعطى الأولوية للعلم والدعوة والبيان والإقناع على التوجه إلى المنكرات، ولو كانت أصناما منصوبة في أطهر البقاع… إننا من خلال السيرة النبوية نتعلم بِماذا نبدأ وكيف نبدأ…
“ومما يميز منهج القرآن الكريم في تناول السيرة النبوية إيراد أحداثها وقضاياها في اندماج لطيف مع مختلف المجالات، فإننا لا نجد سوراً خالصة للسيرة النبوية وأخرى لغيرها، وإنَّما تأتي في سياق بناء الفهم والإيمان والسلوك، كما أنها الترجمة العملية المُزكّاة للدين كله، وهذا حرِيٌّ بنا لتطوير العناية بفقه السيرة النبوية تلطيفاً وتأليفاً، توطيداً وتجديدا.
من أعظم ما خص الله عز وجل به السيرة النبوية، مما يدل على منزلتها ويبين شدة الحاجة إلى دراستها وتجديد النظر فيها، كونها تحمل المنهاج الرباني الذي فقِهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم واعتمده في فهم الدين وتنزيله. فهي ليست أحداثاً منثورةً ولا وقائع مفصولةً عن بعضها، بل إنها منسوجة بإحكام، وواقعةً وفق قدر الله تعالى الموافق لسننه الشرعية في التمكين لكلمته سبحانه. فمن ثَم كانت السيرة النبوية الوجه العملي المنهاجي للقرآن الكريم، الدالة عليه فهما وتنزيلا.”

* عبد الرزاق سماح / باحث وكاتب في الفكر والحركات الإسلامية    soumah - دين بريس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
° محاضرات فقه السيرة النبوية بتصرف.
(1) المفردات في غريب القرآن، ص 634.
(2) سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: صور مقتبسة من القرآن الكريم، محمد عزة دروزة، ج 1/8.
(3) أنظر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: صور مقتبسة من القرآن الكريم، محمد عزة دروزة، ج 1/352.
(4) السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، ص 18 بتصرف.
(5) السيرة النبوية في القرآن الكريم، محمد بن محمد أبو شهبة، ص 15 بتصرف.
(6) مقال السيرة النبوية والقرآن، أبو معاذ البخيت بتصرف.
(7)السيرة النبوية في القرآن الكريم، الدكتور عبد الصبور مرزوق، ص 15-129، بتصرف.
(8)البیان القرآني للسیرة النبویة،” دراسة منھجیة “، الدكتور أحمد محمد الشرقاوي، ص 2-13 بتصرف
(9) منهج القصة في القرآن، محمد شديد، ص 5.
(10)يراجع ما ذكره الشيخ عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان، (2/225).
(11) يراجع السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، مهدي رزق الله أحمد، ص 11.
(12) مصدر سابق، (2/227).
(13) يراجع النبأ العظيم، محمد عبد الله دراز رحمه الله، ص 116.
(14) منهج القصة في القرآن، محمد شديد، ص 13 بتصرف.
(15) يراجع النبأ العظيم، محمد عبد الله دراز رحمه الله، ص 116.
(16) منهج القصة في القرآن، محمد شديد، ص 13 بتصرف.
(17) مصدر سابق، (2/233).
(18) الإتقان في علوم القرآن ،الإمام جلال الدين السيوطي، (1/345).
(19) بديع القرآن، لابن أبي الأصبع المصري، ص 343.
(20) منهج القرآن الكريم في تناول السيرة النبوية، الدكتور عبد الرحمن بوكيلي ، ص 34.
(21) منهج القرآن الكريم في تناول السيرة النبوية، بحث سابق ، ص 3 بتصرف.
(22) البیان القرآني للسیرة النبویة، بحث سابق، ص 23-36 بتصرف.
(23) منهج القرآن الكريم في تناول السيرة النبوية، بحث سابق ، ص 8-9.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.