الصحافة الإلكترونية المغربية ومعركة التحول الرقمي

ذ محمد جناي
تقارير
ذ محمد جناي16 ديسمبر 2020آخر تحديث : الأربعاء 16 ديسمبر 2020 - 9:42 صباحًا
الصحافة الإلكترونية المغربية ومعركة التحول الرقمي

ذ. محمد جناي
لم تعد هناك حاجة للتدليل على أهمية الصحافة الإلكترونية في حياة المواطنين المغاربة، وخاصة الفئات الشابة منهم ، وقد عرفت الصحف الإلكترونية ارتفاعا هاما خلال العقد الأخير ، وهو ما يجعل نفاذ الإعلام الرقمي قويا جدا ، وقد عزز هذا الحضور المتنامي للصحافة الإلكترونية مساهمتها في تنشيط الحياة السياسية والمجتمعية بالمغرب ، وكذلك في تجسيد السلطة الرابعة التي تمثل أحد روافد الديموقراطية.

وترتبط الصحافة الإلكترونية بشكل وثيق بالتكنولوجيات الجديدة ، مستثمرة بذلك وبشكل أساسي خاصية التفاعلية المتعددة الوظائف التي تميزها، لدرجة يمكن معها توصيف العمل في مجال الصحافة الإلكترونية ب ” التكنو -صحفي” ، وهو مايعني أن الدعامة التكنولوجية تقع في صميم القضايا الملحة لتأهيل قطاع الصحافة الإلكترونية، ويصنف الصادق الحمامي في كتابه (الميديا الجديدة) ثلاث منظومات على الشبكة العنكبوتية ،هي:المنظومة(الفردية-الجمعية)مثل المدونات ، وشبكات التواصل الاجتماعي،والبريد الإلكتروني، ومواقع الويكي، والمنظومة المؤسسية مثل مواقع المؤسسات العامة والخاصة وغيرها من أشكال التنظيم المؤسسي،والمنظومة الإعلامية -الصحفية ومنها الصحافة الإلكترونية.

مرت الصحافة الإلكترونية في عالمنا العربي ومنهم المغرب ؛ بمراحل مشابهة لما شهدته جهات متعددة من العالم ، ولكن ببطء وصعوبة في الانتقال ، فما زال الإعلام العربي عامة والإعلام المغربي خاصة في المجمل يعاني من استمرار الأنماط التقنية التقليدية ومن سيطرة الأنماط التحريرية التقليدية ولم يكتمل فيه التحول الرقمي بشكل كامل ، والرأي الغالب أن الصحافة الإلكترونية تشمل الصحف الإلكترونية سواء كان لها مثيل أو أصل مطبوع أو مرئي أو مسموع أو الصحافة الرقمية الخالصة التي انطلقت من حقيقة العالم الرقمي واستخدمت أدوات العالم الرقمي،حيث عرفت بدايات الصحافة الإلكترونية في العالم العربي ثلاثة أنماط أساسية ؛الأول :الانطلاق من الصحافة المطبوعة في نهاية عام 1995، والثاني: المواقع الإلكترونية الأقرب إلى البوابات الإعلامية في نهاية التسعينات ،والثالث: الانطلاق من المواقع الإلكترونية الإخبارية مباشرة وعرفها العالم العربي منذ عام 2000.

كانت بداية الصحافة الإلكترونية المغربية في نهاية التسعينيات امتدادا للصحافة الورقية ؛ إذ كان ناشرو الصحف الورقية هم المبادرين لإطلاق مواقع إلكترونية موازية للصحف المطبوعة تنقل النسخة الورقية على الشبكة الجديدة كما هي ؛ ثم جاءت مرحلة الانتشار (2000-2010) وهي بدايات ظهور مواقع إخبارية إلكترونية مستقلة عن الصحافة الورقية ولا علاقة مؤسسية تربط بينهما ؛ والتي قدمت خدمات إخبارية وتوثيقية عكست شكلا من أشكال الصحافة الإلكترونية ، ومعه ازدهر التدوين الصحفي الذي مارسه بالدرجة الأولى صحفيون محترفون بشكل مستقل، ثم شهدت السنوات الأخيرة بذور مرحلة جديدة في تطور الصحافة الإلكترونية جاءت نتائجها في انبثاق دور أكبر وحضور أوسع للصحافة الإلكترونية المغربية في الحياة العامة ؛وكنموذج يشار إلى موقع Menara.ma الذي كان يتوفر على هيئة تحرير حقيقية عدديا، وذلك بفضل المظلة المالية لاتصالات المغرب.

وتُرصد أبرز مظاهر التحولات التي شهدتها هذه المرحلة بمايلي:
ـ التوسع الكمي الكبير في الصحف الإلكترونية ، فقد اكتمل وجود نسخة إلكترونية لعدد من الصحف اليومية والأسبوعية، ومعه توسع كمي كبير في أعداد الصحف الإلكترونية غير المنتمية لوسائل الإعلام التقليدية.
ـ التطور المهني أي ظهور صحف جديدة أكثر مهنية وأكثر قربا للمعايير الجديدة للاحتراف الصحفي الرقمي والجيل الجديد من هذه الصحف لديه قدرة على الاستفادة من الأدوات الرقمية الجديدة في عرض المحتوى وفي الوصول إلى الجمهور.
ـ ازدياد حصة الصحافة الإلكترونية من سوق الإعلان الإعلامية التي لم تكن تكاد تذكر قبل عام 2010.

وإن أول ملاحظة تسترعي الاهتمام بخصوص الصحافة الإلكترونية المغربية، هو ضعف حجم الاستثمار في القطاع، بخلاف مايجري في البلدان الغربية أو بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، ويسجل في هذا الصدد غياب مستثمرين يتكفلون باحتضان مشاريع واعدة ومفتوحة على الابتكار في المجال (business angels) ، وهو مايعني أن قطاع الصحافة الإلكترونية غير جذاب بالنسبة للمستثمرين المغاربة ولايحظى بالأولوية لديهم.

ويبدو أن المؤسسات المرتبطة بالصحافة الورقية هي التي استثمرت بشكل نسبي في مجال إنشاء مواقع إلكترونية ،لكن دون أن تتميز مضامينها ، في الغالب ، عن الصيغة الأصلية الورقية ، في حين أن المؤسسات الصحفية الإلكترونية الخالصة والتي لا تستند إلى خلفية ورقية (pure -players) تجد صعوبة في الظهور والاستمرار.

إذن جاءت الصحافة الإلكترونية (الرقمية) امتدادا لمنتجات شبكة الإنترنت ، وبدت أيضا امتدادا للصحافة التقليدية مع تغيير جوهري في أوعية وأشكال العرض والتلقي ؛إذ اكتفت بإعادة إنتاج المضامين الصحفية والإذاعية والتلفزيونية ، ولأن شبكة الإنترنت بحد ذاتها نامية ومتحولة ،فقد شقت الصحافة الإلكترونية طريقها في التحول والنمو وأخذت تبتكر عالمها الخاص، حيث طورت نماذجها وأدواتها ولم تكتف بالشكل والعرض وطرائق التلقي والتفاعل بل شملت تطور المضمون وطرق جمع المعلومات ومعالجتها.

ولهذا ظلت الصحافة الإلكترونية ، خلال العقدين الماضيين اللذين برز فيهما الإعلام الجديد مُكَرٍّسَا واقعا اتصاليا وإعلاميا وثقافيا جديداً، تتمتع بحضور أوسع في المجال العام ؛شاغلة الملتقي ومالئة بحواملها المختلفة الفضاء السيبراني بعد التراجع المطرد للصحافة الورقية كوسيلة إعلامية وصناعة تعيش أزمة نموذجها الاقتصادي والمهني اللذين جعلا بعض المؤسسات العريقة تلجأ إلى خيار الخروج من المشهد الإعلامي المكتوب بعد تجربة صحفية امتد بعضها سبعة عقود وطي صفحات تجربتها الصحفية، وقد تفاقم هذا الوضع ، أي خيار الخروج ، في سياق أزمة إنتشار جائحة كورونا ،والتي امتد تأثيرها لجميع القطاعات بما في ذلك الصحافة الورقية ؛حيث كشفت عمق التحديات التي يواجهها هذا القطاع وهشاشته بعد أن اتجهت معظم الصحف إلى تعليق إصدار طلعاتها الورقية ؛فاضطربت البنية الاقتصادية للمؤسسة الصحفية ووظيفتها (النشر والطباعة والتوزيع والإشهار )،واضمحلت سوقها الأولية (سوق القراء) والثانوية (سوق المعلنين)، وهو ما سيؤدي ببعضها إلى الإفلاس والإغلاق.

إن الانفجار الهائل في مصادر المعلومات الإعلامية المفتوحة بدأ عهدا جديدا أكثر كثافة وتنوعت مع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بفضل الاندماج بين التكنولوجيا والإعلام، حيث ازدادت جاذبية وسائل الإعلام لاستيعاب التكنولوجيا الجديدة من جهة ، وازدادت قدرة المنتجات التكنولوجية الجديدة على القيام بالوظائف الإعلامية بكفاءة مدهشة وسهولة ، ويبدو ذلك واضحا في الاندماج الهائل في تطبيقات ومنتجات (الأقمار الصناعية، والكوابل ،والألياف، والحاسبات ،والأجيال المتلاحقة من الهواتف المحمولة) ما أوجد آلاف التطبيقات الجديدة التي ثبت جميعها في مصلحة الدخول في مسار تاريخي جديد من المصادر ، وترصد ملامح هذه البيئة مع مطلع الألفية بمايلي :

ـ تعدد وتنوع المصادر الإعلامية بشكل كبير خلق لأول مرة بداية موت المرسل التقليدي وبداية نهاية الاتصال الجماهيري وفق نموذجه التقليدي .
ـ كثافة هائلة في مصادر المعلومات وآليات نقلها مقابل طلب هائل واستهلاك واسع ؛حيث إن الوسائل الجديدة بدأت تغير هيكل وبنية الإعلام ،وكأنها صممت على أن لا تقبل سيطرة مركزية ،بل إن السيطرة عليها موزعة بين جميع المستخدمين.
ـ زيادة حجم ونوع المعلومات الإعلامية المتاحة من خلال الاعتماد المتبادل بين وسائل الإعلام التقليدية والجديدة معا.
ـ التكامل والاندماج بين المصادر الإعلامية من خلال ماوفرته تكنولوجيا الاتصال متعدد الوسائط وتكنولوجيا الاتصال التفاعلي بتطبيقاتها المتعددة والمبتكرة على الشبكة وخارجها.
ـ بداية ميلاد صحافة المواطن وانتشارها مع مطلع الألفية، أي الانتقال من الاتصال العمودي ذي الاتجاه الواحد إلى الاتصال الأفقي.

فالصحافة الإلكترونية ليست مجرد تكنولوجيا تطبيقية تتيح المجال بسهولة الوصول إلى المحتوى الصحفي ،وتنزيل الصفحات ،وسهولة البحث والوصول إلى الأخبار ، وتحديث المحتوى، والتفاعل من خلال التعليقات وتوظيف الوسائط المتعددة، بل باتت هذه الأدوات تشكل بيئة جديدة للمهنة الصحفية عبر كتابة جديدة ،وأساليب عرض وتلق جديدة ،وطرق مختلفة للوصول إلى المعلومات ومعالجتها.

ولفهم سياق الصحافة الإلكترونية يحتاج التمييز بين مفهوم (الوسيلة أو الوسيط) ومفهوم (المنظومة متعددة الوسائط)؛ الوسيلة أو الوسيط مفهوم يشير إلى عملية مركزية تشمل أنشطة اتصالية خارجة عن إرادة المستخدم أو المتلقي ،أي عمليات خارجة عن تحكم المتلقي،هنا نفهم كيف تعمل الصحيفة باعتبارها وسيلة لنقل الأخبار والمعلومات دون تدخل القراء، وهو أمر لايعني أن هذا النقل يتم بحيادية تامة دون مؤثرات بيئية أخرى. أما المنظومة ، فهي مجموعة من الوسائط المتعددة والمتداخلة والمتزامنة أيضا، أي أكثر تعقيدا وتتيح مجالا أوسع للمشاركة والتفاعل المباشر وغير المباشر؛ والمثال على ذلك الموقع الإلكتروني فهو أكثر من مجرد وسيلة ،إنه منظومة من الوسائط والوسائل التي تتيح لك أن تقرأ وأن تشاهد وأن تستمع وأن تتفاعل وتشارك وأن تختار في الوقت نفسه.

خلاصة: 
شهدت الصحافة الإلكترونية في العالم العربي، تحولات متعددة خلال عقدين من عمرها، أسهمت فيها عوامل ذاتية وعامة ارتبطت بالتكنولوجيا الجديدة وبالتحولات البيئية السياسية والاقتصادية ؛ حيث جاءت نشأة هذه الصحافة وتطورها وسط بيئة تاريخية متحولة ومملوءة بالمحطات التاريخية المفصلية في حياة مجتمعات المنطقة؛ ماجعل الصحافة الإلكترونية أداة جديدة أسهمت في إعادة تشكيل صناعة الأخبار في هذا الجزء من العالم.

فقد وفرت مساحة جديدة للنقاشات العامة غير مألوفة من قبل ، من خلال رفع سقف حرية التعبير وطرح قضايا جديدة لم تكن معروفة أو متاحة من خلال وسائل الإعلام التقليدية، كما أسهمت في زيادة جرعة التفاعل وسماع أصوات شرائح واسع من المجتمعات.

لاتزال الصحافة الإلكترونية العربية تواجه تحديات مهنية معقدة تنعكس في تدني جودة المحتوى الإعلامي في طيف واسع من المحتوى الصحفي الإلكتروني، ويعود هذا الأمر إلى تحديات في تكوين وقدرات الصحفيين الإلكترونيين ، وعدم وجود معايير واضحة أو تقاليد ناجزة للمهنة في هذا الحقل ،كما هي الحال في تواضع أشكال التنظيم الذاتي ؛ماجعلها في أحيان كثيرة طيعة للفوضى أو للإحتواء السياسي ، ومن جهة أخرى ، بقيت الصحافة الإلكترونية العربية تعكس مبادرات فردية ، ولم تطور -في الأغلب -نماذج اقتصادية ناجحة.

أمام الإعلام الرقمي والصحافة الإلكترونية في العالم العربي فرصة كبيرة في تطوير جودة المحتوى والأداء واستثمار التحولات الكبيرة التي تشهدها المجتمعات العربية واتساع القاعدة السكانية الشبابية في هذه المجتمعات، التي تعد المستهلك الكبير لهذا النمط من الإعلام ، وذلك من خلال تطوير جودة التدريب الإعلامي وإصلاح مناهج تعليم الصحافة وإدخال مفاهيم ومهارات الإعلام الرقمي فيها، والدخول في عملية مستمرة من التنظيم الذاتي وبناء نماذج اقتصادية مستدامة.
ـــــــــــــــــ
هوامش
(1):د/ أحمد عزيز، الصحافة الرقمية النص والتلقي ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية .
(2) : الكتاب الأبيض لتأهيل الصحافة الإلكترونية المغربية ، تحديات وتوصيات منشورات وزارة الاتصال ، أبريل 2013.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.