17 أغسطس 2025 / 12:47

الشيخ والمشيخة وضوابط العلاقة مع السلطان في الطريق الصوفي

محمد خياري

في رياض القلوب المستنيرة، حيث تتفتح أزهار اليقين وتُبنى قصور المعرفة بأنوار الإرشاد الرباني، يقف الشيخ المرشد كالشمس الساطعة في فلك الروح، يُنير دروب السالكين ويهديهم إلى الله تعالى، مُزكّيًا نفوسهم ومُربّيًا أرواحهم. العهد بينه وبين المريد كالسلسلة الذهبية المتصلة بالحضرة الإلهية، متألقة بنور التوحيد والتسليم.
الشيخ في التصوف ليس مجرد معلم، بل هو باب الوصول ومفتاح القلوب المغلقة، ذو اليد المباركة التي تُذيب جليد الغفلة بلهيب المحبة الإلهية. وقد قال الإمام الجنيد البغدادي رحمه الله: “يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى الله تعالى”. فالصحبة المباركة مع الشيخ تحفظ القلب من زيغ الشيطان، وتُقيمه على صراط القرب، وتُعلّمه آداب الطريق، وتُحصّنه من فتن الدنيا وغواية السراب. ويؤكد الشيخ أحمد زروق رحمه الله: “التصوف كله صدق التوجه إلى الله، ولا يتحقق ذلك إلا بيد شيخ عارف يعرف المهالك والمخاوف في طريق السلوك”.
إذا كان الشيخ عماد الطريق، فإن انتقال المشيخة إلى خلفٍ له ليس أمرًا عشوائيًا، بل هو انتقالٌ محكمٌ تحكمه ضوابط دقيقة تحفظ نقاء الوديعة الروحية وتضمن استمرار السلسلة الذهبية دون انقطاع. فالمشيخة تُمنح بالإذن الرباني، وتُشترط فيها الكفاءة والزهد والعلم والتربية. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله: “من أدب المريد مع شيخه أن يلازمه ويصبر عليه ويسلم له حاله، ولا يعترض عليه”. ويشبّه جلال الدين الرومي هذا الانتقال: “كالقصبة التي ينفخ فيها الروح، يتنقل النغم بين الأنفاس دون انقطاع، فالشيخ يُورِث الشيخ سر الحب، حتى يصل إلى منبع الجمال الأبدي”.
وبالسر المكنون وبالأنفاس الطاهرة التي لا تُدرك إلا بذوقٍ صوفيٍّ رفيع، تُنسج خيوط الولاية في حضرة الشيخ الخلف، حيث لا يُقال “اختير” بل “أُشير إليه”، كما يُشار إلى النجم في دجى الليالي، لا يُرى إلا لمن أُذن له بالرؤية. الشيخ الراحل، رحمه الله، لا ينظر بعينيه بل ببصيرته، يتردد الورثة أمامه كما تتردد المعاني في قلب العارف، لكنه يرى في خلفه سرًّا لا يُحمَل إلا في قلب من خُلق لحمله. فالاختيار ليس من باب الوراثة الدنيوية، بل من باب الإرث الروحي، حيث الأسرار لا تُعطى، بل تُؤتمن.
بعض “الفهايمية” من خارج التصوف، يلوّحون بدعوى انتخاب الشيخ، وكأن الزاوية صندوق اقتراع لا حضرة نورانية. أرادوا تحويل الإشارات الربانية إلى تعيينات دنيوية، وكأن الطريقة حزبٌ أو نقابةٌ أو جمعية، متجاوزين التقاليد المرعية. وما علموا أن التقاليد في التصوف ليست عادات، بل مقامات، وأن الشيخ لا يُنتخب ولا يُعيَّن، بل يُكشَف. هؤلاء، الذين لا يميّزون بين البعير والشعير، أرادوا تحويل الذكر إلى جدل، والتذوق إلى تنظير، والأحوال إلى مقالات. سخروا من السر، فكانوا هم موضع السخرية، كمن يُنكر الشمس لأنه لا يملك نظارات. فيا من لا يفقه إلا ظاهر القول، اعلم أن التصوف ليس فلسفةً تُناقش، بل نورٌ يُعاش، وأن الشيخ لا يُختار، بل يُعرَف، وأن السر لا يُكتب، بل يُحفظ في صدور من أُذن لهم أن يكونوا أهله.
أما العلاقة مع السلطان، فهي ميدانٌ دقيقٌ يتطلب حكمةً وأدبًا. السالك لا يطلب الدنيا ولا يتعلق بزخارفها، بل يخدم الحق والخلق، ويبتعد عن السياسة إلا لنصيحةٍ أو إصلاحٍ. قال الإمام الغزالي رحمه الله: “الزهد في الدنيا هو ترك ما لا يعنيك، والابتعاد عن السلطان إلا لنصيحة أو إصلاح”. ويؤكد الشيخ الأكبر ابن عربي رحمه الله: “التصوف قطعٌ مع الخلق إلا فيما يرضي الحق”. ويقول: “يا من يطلب السلطان في أرض الوهم، إن الروح حرة لا تخضع لعرش زائل، فابتعد عن الدنيا كالطائر في السماء؛ فالحق وحده الملك الأبدي”.
وتتجلى علاقة المشيخة بالسلطان كالنسيم الذي يهب على سطح البحر، يحرك أمواجه دون أن يغير عمقه الأزلي. فالشيخ، ذلك القطب المداري الذي يدور حوله فلك السالكين، يرتفع كالنجم الثاقب في سماء الليل، يهدي ويُنير دون أن يُطفأ. إنه يعلم أن السلطان عبدٌ من عباد الله، محتاج إلى نور الإرشاد كما يحتاج الظمآن إلى قطرة من ماء اليقين. فالمشيخة، في تعاملها مع السلطان، تحافظ على مسافة الزهد الرفيع، كالوردة التي تتفتح في حديقة الروح بعيدًا عن أيدي الجامعين، لا تطلب الري إلا من غيث السماء. ولا تتدخل في أمور السياسة إلا لإصلاح خللٍ يهدد الخلق، أو لنصيحةٍ تُقيم العدل. وإذا اقترب السلطان من باب الزاوية، يُعامله الشيخ بأدب الخدمة لله.
بهذا التوازن الرباني، يظل التصوف مشكاة نور تهدي القلوب، وتبني المجتمعات، وتُعلّمنا كيف نسمو فوق الأهواء، ونحيا في حضرة الجمال الإلهي.