*د.مصطفى راجعي
كنت أشاهد صوره في الإعلام وأمر عليها مرور الكرام دون أن أتوقف عندها لمدة طويلة، ولكن كنت أقول دائما في نفسي وأنا الباحث والاستاذ المتفرغ في علم اجتماع الأديان يجب علي بحكم تخصصي أن أتوقف يوما ما عند هذا الشيخ الفقيه الموريطاني الذي يشبه في مظهره مشايخنا الفقهاء في الصحراء الجزائرية ولكنه يظهر في الاعلام متحدثا في مؤتمرات دولية كبيرة تقام في كبرى العواصم الدولية وتراه متحدثا في جامعات أمريكية واوربية وعموما تدور تلك المؤتمرات التي يشارك فيها الشيخ حول موضوعات جديدة مثل السلم والتعايش والتعددية والتسامح التي هي غريبة عن فقهائنا التقليدين الذين لم يستعملوا الا المصطلحات الموجودة في الفقه المالكي وابوابه من عبادات وبيوع وانكحة.
لقد بدا الشيخ عبد الله بن نبيه لي موضوعا مثيرا ويطرح أسئلة اكثر مما يعطي إجابات عندما توقفت عنده. كيف لهذا الفقيه المالكي القادم من بلاد شقنيط كما يقال في صحراء الجزائر ان يبرز ويسطع نجمه في محافل دولية تطرح قضايا عالمية جديدة تشكل تحديات لمجتمعات اليوم كالسلم والتعايش والتسامح ؟ ماهي القيمة المضافة التي قدمها الشيخ في هذه المحافل والمنتديات حتى يتم دعوته ليستمع له المفكرون الأكاديميون الغربيون والقادة السياسيون والمدنيون المنغمسون في التحديات الحالية. فماذا عسى هذا الفقيه القادم من بلاط شنقيط أن يضيف الى ما يعرفونه وكيف سيجيبهم وكيف سيقنعهم وبأي مصطلحات سيحدثهم ؟ هل سيستخدم مقولات الفقهاء الكلاسيكين التي انتجت في القرن 10 ميلادي ليتحدث في قضايا وتحديات ظهرت بعد أيلول-سبتمبر 2001 كالإرهاب والتسامح والتعايش ؟
للإجابة عن هذه الأسئلة التي شغلتني بخصوص الشيخ عبد الله بن نبيه كان لا بد من توظيف مكتسباتي النظرية والمنهجية التي حصلت عليها نتيجة عدة سنوات في التدريب وفي ممارستي البحث التطبيقي في العلوم الاجتماعية عموما وفي علم الاجتماع تحديدا وبالخصوص علم الاجتماع الديني و اقتصاديات الأديان وعلم النفس الديني وهي حقول البحث التي أعرفها وأشتغل بها وطبقت معارفها النظرية على بعض الظواهر الدينية في العالم العربي مثل الأشكال الجديدة للتدين أو التدين و الجندر أو مفاعيل التدين على ثقافة الحكامة أو التقافة الصوفية وريادة الأعمال الاجتماعية.
ولكن كان لا بد من اختيار نموذج نظري أو إطار نظري من علم الاجتماع الديني أو الاقتصاد الديني لفهم ظاهرة بروز الشيخ عبد الله بن نبيه واتساع دائرة مستمعيه ومتلقي خطابه خارج موريطانيا بلده الأصلي وصولا الى الامارات العربية المتحدة وحتى خارجها الى العواصم الغربية في الولايات المتحدة واوربا.
وكان لا بد علي من الرجوع إلى معطيات امبريقية عن ظاهرة الشيخ بن نبيه من نصوص وخطابات وأنشطة مؤسساتية متوفرة في الأنترت من خلال موقعه بن بيه ومن خلال موقع منتدى تعزيز السلم ومن خلال المواد المتوفرة في الشبكات الاجتماعية ( فيسبوك ،تويتر ويوتوب).
وبعد الاطلاع على المواد المتوفرة عن الشيخ بن نبيه حدث لي نوع من الحيرة والقلق في اختيار النظرية المناسبة لتفسير ظاهرة الشيخ وبعد تردد بين عدة مفاهيم ونظريات استقر رأيي على اختيار نظرية القيادة التي هي أقرب لتفسير ما أراه من معطيات أمامي عن الشيخ حيث ان نظرية القيادة عموما تؤكد على أهمية القادة بصفتهم أشخاص ذوي مواصفات محددة في عملية احداث التأثير في عمليات التغيير الاجتماعي.
اذن وفق هذه النظرية العامة سندخل الشيخ في اطار القيادة الدينية التي لها تأثير في تغيير الاتجاهات والقيم و السلوكيات. و في نظرنا اقرب الى القيادة التحويلية التي يكون دورها احداث تحول كبير لدى الجمهور او المجتمع المستهدف، حيث يسعى لجعلهم يشاركون الرؤية والقيم ويسعى لجعلهم يغيرون سلوكاتهم حتى تكون وفق خطط تؤطرها الرؤية والقيم التي يؤمن بها الشيخ.
ولكن هناك العديد من القادة الدينين في العالم العربي هم من نوع القيادة التحويلية التي تسعى في التأثير الكبير على المجتمعات المحلية فما الذي يميز شيخنا عن باقي المشايخ المؤثرين الموجودين في العالم العربي؟
لابد ان هناك بعض المواصفات التي تجعل من قيادة الشيخ بن نبيه قيادة فاعلة ومؤثرة في سياق المجتمعات الحالية التي تتطل وجود قادة دينين لديهم خلفيات ورأسمال معرفي غني ومتنوع ويعرفون كيف يستخدمون ذلك الرأسمال المعرفي في تقديم خدمات لمجتمعاتهم تمس الحاجات الملحة لديهم وتقدم إليهم الإجابات التي تجعلهم يعيشون في طمأنينة وسلام.
فشيخنا لديه معرفة إسلامية كلاسيكية فقهية ولغوية واسعة وعميقة تمكنه من تقديم إجابات إسلامية وفق المدونة الكلاسيكية للقضايا الجديدة ( ميدان الفتوى والرأي الفقهي) وهو ينتمي الى اتجاه فقهي إسلامي اصبح نادرا في عصرنا وهو الاتجاه الذي يجعل المعرفة الفقهية في خدمة المصلحة المجتمعية ( جلب المصالح والتوسعة على الناس) في عصر طغت فيه الاتجاهات الفقيهة المتشددة التي تريد اخضاع المصالح المجتمعية لآراء فقهية فردية قديمة.وهنا الشيخ استطاع أن يلامس ويستجيب لطلب اجتماعي متزايد على الرأي الفقهي دون التفريط في الصالح المجتمعي .كما ان تجربة الشيخ القضائية في موريطانيا كان لها تأثير كبير عليه حيث ان منطق القاضي ليس هو منطق صاحب الرأي الفقهي ، فالقاضي يراعي العديد من الاعتبارات النظرية ، الشرعية والعملية والمصلحية، ليفصل في الموضوع المطروح أمامه ول ايكتفي بتكرار رأي قديم او ينظر للموضوع من زاوية شرعية ضيقة كما يفعل العديد من متصدري الفتاوى و الرأي في سوق الآراء الفقهية المفتوحة في عصر الانترنت.
والعامل الذي جعل من قيادة الشيخ قيادة فقهية فاعلة تقدم الإجابات الشرعية الملائمة للتحديات التي تواجه الافراد والجماعات المسلمة في عصرنا هو هو انه استطاع الجمع بين الخلفية الإسلامية التقليدية وبين الثقافة الغربية حيث هو مستخدم للغة الفرنسية وهو مطلع على الآداب والفسلفة الحديثة وتجده يستشهد بالفلاسفة كانط و هيغل في خطابه و هو امر فريد تميز به عن فقهاء عصرنا. وانفتاحه على الثقافة الغربية جعله يفهم الأمم والشعوب الأخرى غير المسلمة والتحديات والقضايا التي تشغلها ومن هنا تجده يقدم إجابات وآراء تقوم على معرفة واسعة ومحينة عن أوضاع المجتمعات المعاصرة والفرص التي تمنحها في التقدم والازدهار والتحديات والاشكالات التي نجمت عن التطور التكنولوجي و الفكري في تلك البلدان .
سأكتفي فقط بهذه الأسطر القليلة عن الجانب القيادي لدى الشيخ واترك العديد من الجوانب الأخرى التي تستحق مني العودة إليها في مقالات أخرى حتى لا أثقل على القارئ وحتى لااشتت له ذهنه.
في خاتمة هذه المقالة يمكنني القول ان الشيخ عبد الله بن نبيه نموذج قيادة فريدة ومتميزة من حيث المواصفات استطاع ان يركب بين القديم والجديد بشكل مبدع، يستلهم ادوات التراث الفقهي الإسلامي ويستخدمه للتجاوب مع التحديات المطروحة على المجتمعات المسلمة التي تعيش في عالم متنوع ومتعدد مع مجتمعات غير مسلمة وهي تشترك معها في تحديات التنمية المستدامة والتعايش السلمي والتعاون لتحقيق السلم وهذا هو مشروع إعادة احياء حلف الفضول … الذي نتركه للمقال القادم.
*أستاذ مشارك في علم اجتماع الدين والتنمية، جامعة عبد الحميد ابن باديس-مستغانم-الجزائر
Mradji1971@gmail.com
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6683