2 سبتمبر 2025 / 11:49

الشرح كإبداع: من ابن رشد إلى هايدغر

سمير لعباد
هل الشرح مجرّد ظلّ على جسد النصّ، أم أنّه في ذاته ولادة جديدة للفكر؟

لقد اعتاد الخطاب الاستشراقي أن يتّهم فلاسفة الإسلام بأنّهم لم يكونوا سوى “شُرّاح” لليونان، مجرّد نسّاخين لمعاني أرسطو، أو مجرّد أقنعة متأخرة لصوت لم يكن صوتهم. غير أنّ هذه الرؤية ليست إلا فشلاً في فهم معنى الشرح في التاريخ الفلسفي نفسه.

إنّ الشرح لم يكن يوماً فعل تبعيّة بل كان، في أفقه الأعمق، طريقة في التفكير.

لقد كان ابن رشد، وهو يمارس فعل الشرح، لا يكتفي بالوفاء لروح أرسطو، بل كان يعيد خلق المفهوم داخل أفق ثقافي جديد، حيث اللغة العربية تتحوّل إلى وعاء مفاهيمي لم يكن لها من قبل.

الشرح الكبير الذي سمّاه “على اللفظ” لم يكن تكراراً، بل كان تمريناً على اقتناص الفكر من النصّ كما يُقتنص المعنى من اللغة. فالتفلسف عنده لم يكن منفصلاً عن الشرح، بل كان الشرح ذاته هو القاطرة التي حملت إمكانات التفكير الفلسفي في حضارة لم يكن لها تاريخ يوناني خاص بها.

وها هو هايدغر، في القرن العشرين، يكتب “التفسير الفينومينولوجي لنقد العقل الخالص” لكانط. إنّه يضع نفسه، دون عقدة تاريخية، في مقام الشارح.

إنّ فيلسوف الكينونة، الذي أراد أن يقلب تاريخ الميتافيزيقا، لم يجد عيباً في أن يقرأ كتاب كانط كلمة كلمة، عبارة عبارة، فقرة فقرة.

لقد مارس الهايدغري فعل الشرح كما مارسه ابن رشد، لا بوصفه عودة إلى الوراء، بل باعتباره اقتحاماً لمتن النصّ من أجل إعادة إخراجه في أفق جديد: أفق الفينومينولوجيا.

هكذا يصبح الشرح طريقة في التفلسف: ليس تبعية للنص، بل اقتحاماً له. ليس نقلاً ميّتاً، بل فتحاً لمعنى جديد. وما فعله هايدغر مع كانط، أو ابن رشد مع أرسطو، هو الدليل الأوضح على أنّ الفلسفة لا تتقدّم دائماً بالقطيعة، بل أحياناً بالشرح ذاته.

إنّ الشرح هو الحقل الخفيّ الذي تنبت فيه الأفكار، وإنّه لا يوجد إبداع دون المرور عبر جسد سابق، نصّ سابق، فكر سابق.

إنّ القول بأنّ فلاسفة الإسلام لم يبدعوا سوى شروح، هو عجز عن فهم أنّ الشرح ذاته إبداع. وأنّ كلّ تفلسف، لكي يولد، يحتاج أن يتطفّل أوّلاً على نصّ آخر، ثمّ أن يحفر من داخله ممرّاً نحو المستقبل.

إنّ ابن رشد وهايدغر يشهدان معاً أنّ الفلسفة هي دوماً “شرح على اللفظ”، ولكن بشرط أن يتحوّل اللفظ إلى نافذة على أفق جديد.

الفيلسوف لا يكتب ليشرح فقط، بل ليحيا في النصّ كما لو أنّه يكتبه من جديد. وهذا هو معنى الإبداع الذي غاب عن قارئي فلاسفة الإسلام: أنّ الشرح لم يكن خضوعاً لليونان، بل كان عودتهم الخاصّة إلى أنفسهم، مثلما لم يكن هايدغر تابعاً لكانط، بل كان يستعمله كقناع ليُخرج فلسفته هو.

إنّ كلّ فيلسوف كبير هو شارح في النهاية، لكن بشرط أن يكون شرحه جرحاً في جسد النصّ، لا رتْقاً له.