محمد خياري
ليست الشجرة المباركة التي تقف خلف مكتب أمير المؤمنين في قصره العامر بالرباط مجرد نبات عادي، بل هي رمز حيّ ينبض بتاريخ زاخر بالروحانية العميقة والبركة التي تجمع بين البيعة المقدسة، والنسب الشريف، والإمامة العظمى. إنها شاهد حيّ يروي قصة الوصال بين الغيب والشهادة، بين النور المنبعث من أصل النبوة وروح الأرض التي تحتضن المولى أمير المؤمنين. فهو الذي يمتد ظله تحت أغصانها ليحمل عبء العهد التاريخي، ويوجه نور الإمامة عبر الدهور.
إنها شجرة الصفاء التي توحد قلوب المغاربة في رحلة روحانية خالدة، شجرة تُروى بالوفاء العميق وبالدمعة الصادقة للجد وهو يتذكر حفيده، وبالصمت المقدس للسلطان الذي يمر على أسماء محفورة في جذرها فيقول: “هذا منا، وهذا علينا أن نحفظه كما نحفظ مقامنا”. فالشجرة ليست مجرد جذوع وأوراق، بل هي سلسلة نورانية متصلة من النسب إلى الحكم، من العهد إلى البركة، من الأرض إلى السماء. كل اسم على أغصانها هو مقام، وكل فرعٍ هو ولاية.
تخاطب الشجرة أمير المؤمنين بصوت خافت، كأنها تقول له: “أنا صدى البيعة وختمها المتجدد، وأنت السراج الذي يضيء درب الوصاية. أنا ظلّك في الغيب،
وأنت نوري في الشهادة.
يا نفحة من بيت النبي
تحت هذا الظل المبارك تنمو ثمرة الملكوت، ووحدة طاعة الولي والإمام الشرعي، حيث تتفتح أزهار النور المحمدي في القلوب المحبة. مع كل لمسة على عودها، لا يلمس أمير المؤمنين خشبًا عاديًا، بل يلامس تاريخًا حيًا ينبض بالحياة، تاريخًا كُتب بالروح والدم، ورباطًا مقدسًا يُعاد تجديده في كل بيعة وفي كل عهد.
تلك الشجرة تحكي قصة بيعة مميزة، مثلما جرت البيعة التي امتحنت قلوب الصحابة، وأكدت انتماءهم للنور. فالشجرة، بشموخها ورقتها، تعكس علاقة تاريخية بُنيت على الوفاء والتجلي، علاقة توحد بين نسل المصطفى وقلب المغرب الموحد. كأنها تحمل بين أغصانها أثر القلوب حين تجمعت تحتها، وتعاهدت على السير في خطى الإمام الشرعي، والوقوف صفًا واحدًا في وجه الفتن والتحديات.
إنها شجرة الأنساب التي لا تعترف بمدَّعين أو ظالمين، فهي تقف على تخوم التاريخ بصرامة الفقيه، وعلى ضفاف الوصاية بنور الصادقين. لا تسمح بالاقتراب إلا لمن طهَّره النسب، وزكَّاه الرمز، وقدَّسه الزمن. هي شجرة العهد والصمت المقدس، التي تُروى من دم البيعة، وتعود بظلها سر الإمامة في كل زمان ومكان.
في المغرب، الشرعية ليست مجرد هتاف أو رغبة، بل هي روح هادئة نزلت كما نزلت في سورة الفتح. هي سكينة تغمر القلوب وتسكب السلام في النفوس، وهي نسب يُتلى في سراديب التاريخ كما تُتلى آية من الذكر الحكيم: ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾. إن البيعة هنا ليست فقط إعلانًا على الورق، بل هي علاقة سماوية ووعاء نجتمع فيه في كل عصر كي نعلن إخلاصنا، وكي نمد الجذور ونغرس أغصان البركة، وكي نحافظ على الوصاية على قلب الأمة.
تحت تلك الشجرة، بايع نور الله الصحابة بخواتيم صادقة، وحمل النسب الشريف بركته وأمانته، فمن الحديبية إلى الرباط امتدت البيعة من يدٍ إلى قلب، ومن قلب إلى عرش، ومن عرش إلى دعاء يتردد في المحاريب، يتلوه الخاشعون بخضوع وإيمان. وهكذا، يتحقق الوصل الخفي بين الماضي والحاضر، بين السماء والأرض، ليبقى ظل الشجرة يلهم من تحتها الأحياء والذاكرين، تقوية للقلب بالله، وتجديدًا للعهد مع أمير المؤمنين، الذي هو الواحد في الأمة، الذي يُشرف على الروحانية والشرعية.
إنها الشجرة التي تمثل ما هو قدسي في تاريخ المغرب، تظلل بذاتها صمتًا وفهمًا، وتحمل سرًا دفينًا يربط بين المولى ووليّ الأمة، رمزًا للعهد المقدس بين الأرض والسماء، مفتاحًا للإمامة، وهدية نبوية متجددة. حين يضم أمير المؤمنين يده إلى عودها، لا يحتفل فقط بذكرى، بل يحيي نبضًا وأملًا، ويجدّد عهدًا لا ينقطع مع جده المصطفى عليه السلام.
في حضرة الشجرة، كل خفقة قلب هي ذكرى، وكل نفس هو نشيد، وكل ظلٍّ لها هو دعاء. هي منبع النقاء ومحطة التجلي، حيث يلتقي زمن النبوة بزمن الإمامة، وتُزهر ثمرة الوفاء في أجواء العشق الصافي. بين أغصانها وبين سكونها الأخضر، تُنسج الروح خواطر مؤمنة متجددة، تجمع بين الأصل النوراني والمآل السامي، فتتحول إلى منارة ترشد السائرين في دروب الحق والهدى.
هكذا، تبقى الشجرة المباركة ليست فقط ظلًا للصدر، بل نبضًا في قلب الزمن، وترنيمة أبدية ترسخ في النفوس والقلوب معنى البيعة والصلة والبركة، بين أمير المؤمنين والسلالة النبوية والشعب، أمنًا ورحمة ورضًا من رب العالمين. يعانقها التاريخ، وتحتضنها الأجيال، لتظل رمزًا خالدًا في المغرب، يحمل سرًا أزليًا، ويروي قصة عشق لا تنتهي بين الأرض والسماء، وبين النبوة والسلطنة، وبين الإنسان وربه.