الدكتور محمد إكيج
السَّلْكَة (بتشديد السين وفتحها وتسكين اللام وفتح الكاف) هكذا بالعربية وبالأمازيغية السوسية السْلُوكْتْ (بتسكين السين وضم اللام وتسكين الكاف والتاء).. عادة اجتماعية من عوائد تدين أهل المغرب خاصة في بلاد سوس والشمال المغربي وأقاليم الصحراء المغربية.. قوامها دعوة حملة كتاب الله تعالى للبيوت لختم القرآن الكريم من خلال تفريقه (التفريق) إلى أجزاء (5- 8- 10..) بحسب عدد القراء… يقرأها كل قارئ بمفرده في مجلس جماعي يحضره المدعوون وتتخلله بين الفينة والأخرى قراءات جماعية شجية تصدح بها حناجر القراء ويسمع صداها من بعيد في فناء البيت وفي الجوار.. ويصحبها إنصات من الحضور.. ويختم المجلس بقراءات في مدح خير البرية خاصة بردة الإمام البصيري التي يقول في مطلعها:
أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ مزجتَ دمعًا جرى من مقلةٍ بدمِ
أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ
ثم يعقب ذلك إطعام المدعوين وإكرام حملة القرآن الكريم بما تيسر من المال من صاحب الدار وبما جادت به أيدي الحاضرين تبركا وطلبا للدعاء في مثل هذه المجالس الربانية التي تحفها الملائكة وتغشاها السكينة… ولذلك كانت تعطر بروائح البخور والعطور الزكية احتفاء بالحاضرين وإجلالا للملائكة المطهرين…
لقد كانت هذه العادة الحسنة من سمات التدين المغربي في كل ربوع الوطن.. وكان الناس يعقدون هذه السَّلْكة في مناسبات الأفراح كما الأتراح.. وكان يحرص عليها بالخصوص مغاربة المهجر إبان عطلهم السنوية حيث يجعلون منها مناسبات لصلة الرحم مع الأهل والأحباب والترحم على من رحل من ذويهم وأقاربهم إلى دار البقاء في مجالس يتلى فيها كتاب الله تعالى ويمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم… إلا أن هذه العادة -وللأسف الشديد- انحسرت منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بداية مع (التدين الإخواني) الذي كان ينتقدها باحتشام ويحاول اقتحام مجالسها بالقراءات الفردية البديلة ومواعظ مناسباتية…
ثم اندثرت أو تكاد مع (التدين السلفي الوهابي) الذي شن عليها حملة شعواء بدعوى أنها “بدعة ضلالة”!! ؛ كما ساهم أيضا في هذا التراجع والانحسار بعض الطلبة (بسكون اللام) حينما انضموا لتلك “الجماعات” وتبنوا آراءها ظنا منهم أنهم “التزموا بالنهج القويم”.. فلذلك تجدهم لا يقرأون الحزب الراتب في المساجد إلا تقية وخوفا من الحرمان من تعويضات الأوقاف.. لأنهم في قناعاتهم “سلفيون”… و”سنيون”!! مع القراءة في أساسها عبارة عن أنغام وأداء وأصوات.. إضافة إلى قواعد وضعها أهل الاختصاص .. ولذلك تختلف كيفيات أداء هذه القراءات على حسب اختلاف صيغ أداء الناس لها فالصيغة المغربية تختلف حسب الجهات بين السوسية (تحزابت) والفكيكية والصحراوية والشمالية…
وهكذا دواليك وقس على ذلك الصيغ الأسيوية والإفريقية والعربية المشرقية.. وكل تستهويه صيغته التي ألف سماعها منذ الصغر في محيطه… وكم يشعر المرء بالقشعريرة والانتشاء حينما يمر بقرية من قرى سوس العالمة وهو يسمع صدى تَحْزّابْت تنبعث من أفواه إمْحْضَارْن (الطلبة) وهم يتلون الحزب الراتب في المساجد أو المدارس العتيقة… لكن الذي حصل هو الترويج للنمط المشرقي في الأداء بسبب الدعم الإعلامي الهائل واعتباره الأنموذج في التلاوة.. بل هو “السنة” التي ينبغي اتباعها لأنها تنضبط لقواعد (التجويد)!!! فصار كل من يخالفها خارجا عن “السنة”!!!
ومع انحسار أو اندثار هذه العادة الحسنة بسبب هذه الحملات الاستنكارية الخفية والجلية… فقدت كثير من البيوت المغربية حميميتها الاجتماعية ودفئها العائلي وقلَّ التلاقي بين الأقارب والأحبة والأصدقاء ممن تفرقوا في أرض الله الواسعة سواء داخل الوطن أو خارجه… وهكذا عطلت المقاصد الاجتماعية النبيلة لتلك العادة المباركة من طرف من يزعمون أنهم يحاربون البدع ولكنهم استبدلوها ببدعهم الجديدة قوامها تصدر المجالس بمواعظ فيها من الترهيب والتنفير أكثر من الترغيب والتحبيب!! يستوي في ذلك لديهم مناسبات الزفاف والولادة والمآتم!!!
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19496