محمد زاوي
تسلك السلطة في علاقتها بالسر ثلاثة مسالك: تحفظه ويحفظها، تتدخل فيه إذا أفشي أو أفشاه أصحابه، تنقله من جوفٍ إلى جوفٍ أو من طريقة إلى أخرى إذا استعصى جمعه واستعادته لأصحابه..
المرجعيات مهما كان نوعها وصنفها، عندما تخرج للعلن وتظهر للناس، تصبح ممارسةَ سلطةٍ.. هذا درس آخر يجب أن يتعلمه “الشيخ والمريد”، ولا حاجة لهما بنصب “السرّ” مرجعية جديدة لتوجيه السلطة، في ظل تعدد المرجعيات السياسية والمثابرة والإيديولوجية المتحدثة بمنطق غير “عرفاني”..
الذي يجب أن يعرفه “الشيخ والمريد” معا أن السر الوحيد الذي يورّث هو السلطة لأنها ضرورة الجميع وتحكم الجميع ويخضع لها الجميع..
أما باقي الأسرار فهي “أسرار” أصحابها لا يجمع عليها كافة الناس، بل منهم الناقم عليها والمستهزئ بها.. تلك أسرارٌ لا يعرفها إلا أصحابها، وتستمد وجودها من “ضرورة السلطة” أكثر مما تستمدها من “حقيقة السرّ”..
لا سرّ يصمد مع التضييق والمنع، ولنا في تجارب التاريخ ما يعزز هذا القول. لا نتحدث عن الأفراد، بل عن “الأسرار الجماعية”.. لكل فرد “جنون خاص”، بوابة خاصة نحو عوالم “الميتا-كون”؛ أما الجماعات فواجبها الانضباط، وهذا تفرضه السلطة..
وعندما تتدخل السلطة فلا حق لرعاياها في وضع حدود لتدخلها، لا حق لهم في تهريب “السرّ” من بين يديها، وكأننا أمام “تصوف شيوعي” غير الذي يخدم السلطة ويتغذى من تشكيلتها الاقتصادية-الاجتماعية..
هذا اختيار آخر يجب أن يعرفه صاحبه قبل أن ينطق به، لأن النطق به في “خصوصية سياسية” تعرف “سر الأسرار” وتحوز “مشيخة المشيخات” و”ولاية الولايات”؛ لأن النطق به في هذه الحالة يفتح صفحة جديدة في العلاقة بالسلطة..
إنه نضال خاص، ورفض صوفي طرقي، يعلن عنه “صاحب السر” الذي أنساه “السر” أن يجد مسلكا سلوكيا اجتهاديا جديدا لـ”سره” هو الأكثر نجاعة وسدادا، وبتأصيل صوفي لا يخفى على العارفين..
ذلك هو حق “الولاية العليا” في التصرف في “الأسرار”، علما أن علو الولاية هنا ليس علو سياسة واجتماع فقط، وإنما أيضا هو علو شرف وسند.. فكيف غاب هذا العلوّ عن “سر” “صاحب السر”؟! كيف له أن يغفل استحضار “سر الأسرار”، ذلك الذي يخترق الظاهر والباطن معا، بل يصنعهما ولا يعوزه صنعهما؟!
لا نريد خوضا في تفسيرٍ لهذا “التعالم بالأسرار” بين تشبث وتباهٍ، فهو مدخول بالأغراض لا محالة، لأن “الصوفية الحقيقية” لا تتوارث أسرارا بل تنتجها في دواخلها، ولا تدّعي سرا لأن السر معرفة وأحوال لا يبلغها العارفون إلا في ذهول ونسيانٍ..
السر هنا سياسي، غذته السلطة ردحا من الزمن ليدّعي بعد عقود باطنا لا تمتلكه ولا تعرفه ولا حق لها فيه..
هل يعتقد بعض الشيوخ والمريدين أن مجموع شطحات وأوراد تكفي لتهريب الباطن من يد السلطة؟!
“السر” في السلطة، السلطة في “السر”؛ لكن “صاحب السر” في “سُكرٍ صوفي” سكبه المريدون في “آنية المشيخة”، فمنعه عن الوعي بجدلية “السر-السلطة”!