محمد الغيث ماء العينين
في المغرب، لا تُقاس السياسة فقط بما يُنجز، بل أيضًا بما يُؤجَّل.
والفارق بين من يؤجل ومن يقرر لا يعود فقط إلى الكفاءة أو الجرأة، بل إلى اختلاف الزمن الذي يُفكر فيه كل طرف. فبين زمن انتخابي قصير، يُلزم السياسي بحسابات الأصوات والدوائر، وزمن استراتيجي طويل، يُفكر فيه الملك باعتباره الضامن لاستمرار الدولة، يَبرز شكل فريد من التوازن المغربي، عنوانه الأبرز: الخصوصية في صناعة القرار.
- الأحزاب السياسية… حين تضعف السياسة أمام الاستحقاق
لا أحد يُنكر أن النضال من داخل المؤسسات الحزبية في المغرب كان دومًا أحد روافد التحول الديمقراطي. لكن حين يتعلق الأمر باتخاذ قرارات كبرى – غير شعبية غالبًا – تظهر حدود هذا الدور. الأحزاب تُفكر بمنطق الولاية، وتُبرمج وعودها بحسب الرزنامة الانتخابية، وتخشى دائمًا من أن تُغضب ناخبًا، أو أن تمنح خصمًا فرصة لتسجيل نقطة.
لهذا نراها تتردد في قرارات جوهرية، تتفادى الملفات الثقيلة، وتؤجل المواجهة مع الأعطاب البنيوية، وتُغرق النقاش العمومي في تعارضات ظاهرها تنوع، وباطنها مراوغة.
وقد أشار جلالة الملك محمد السادس إلى هذه المفارقة بوضوح في خطاب ثورة الملك والشعب، 20 غشت 2013:
“فإذا كانت الحكومة الحالية لا تملك وقتًا كافيًا لتنفيذ مشروع تربوي، فلماذا تأتي كل حكومة بخطة جديدة كل خمس سنوات، متجاهلة التراكم؟”. وفي خطاب العرش، 29 يوليوز 2017، خاطب جلالته الأحزاب بصراحة غير مسبوقة: “بمجرد اقتراب موعد الانتخابات، وكأنها القيامة، لا أحد يعرف الآخر، ويدخل الجميع في فوضى وصراعات… وهذا غير مقبول”.
- المؤسسة الملكية… حين يتحرر القرار من زمن الانتخابات
في المقابل، لا يُقاس القرار الملكي بزمن الخمس سنوات، ولا يرتبط بموازين قوى حزبية، بل يستند إلى رصيد من الثقة الشعبية الرمزية والتاريخية، يُتيح له اتخاذ القرار الصعب حين يعجز الجميع.
وفي خطاب العرش لسنة 2017، طرح جلالة الملك سؤالًا بالغ الدلالة:
“إذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تُمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”
الملك في المغرب ليس حَكمًا بين الأحزاب فقط، بل هو أيضًا فاعل مباشر حين يعجز الفاعلون، ومبادر حين تَتعطل لغة التوافق، ومتدخل حين تضيع الملفات في المكاتب أو تُدفن في الانتظارات.
- القرار الاستراتيجي لا يُصاغ بلغة الصناديق فقط
القرار الوطني الحق، لا يُستولد من لحظة انتخابية، بل من قراءة مركبة للمصلحة العامة.
في السياسة، القرار يُصوّت عليه.
لكن في الدولة، القرار يُبنى عليه.
كلما اشتدت الأزمة، عاد المواطن إلى خطاب الملك، لا إلى تصريحات زعماء الأحزاب. ليس بدافع الولاء العاطفي، بل لأنه يرى فيه اللغة التي تقول ما يجب أن يُقال، لا ما يُحب أن يُسمع.
- هل يمكن للأحزاب أن تُفكر وتشتغل خارج إكراهات صندوق التصويت؟
هل تستطيع الأحزاب أن تتحرر من المنطق الانتخابي القصير؟
أن تُعيد ترتيب أولوياتها، فتجعل من المصلحة العامة مرجعًا، لا مجرد أداة تعبئة ظرفية؟
الملك، في أكثر من خطاب، لم يُغلق الباب، بل طالب بإعادة الاعتبار للعمل الحزبي، وربط المسؤولية بالمحاسبة، لا بالتشهير أو التباهي.
قالها في خطاب العرش 2017 بلهجة تحذيرية: “أنا لا أريد أن يظن الشعب أنني متشائم… ولكن كيف يُمكن لمسؤول لا يقوم بواجبه أن يخرج من بيته، ويركب سيارته، وينظر في عيون الناس، دون خجل؟”.
- حين يتحرر القرار من الخوف ويتحول إلى إصلاح بنيوي
في السياسة، كثيرًا ما يتردد الفاعل قبل اتخاذ قرار لا يُرضي قاعدته الانتخابية. هذا الخوف قد يكون مبررًا في السياقات الديمقراطية المفتوحة، لكنه يُصبح مشلًا ومُعطِّلًا لهذه الديمقراطية نفسها إذا ما تحول إلى قاعدة سلوك دائمة.
في المقابل، تمتلك المؤسسة الملكية، بما تحمله من مشروعية تاريخية، وبما تملكه من موقع فوق الاصطفاف الحزبي، الجرأة والقوة – باسم المصلحة العامة – أن تتجاوز تردد وخوف السياسي بعزيمة الوعي بثقل المسؤولية، وتبعات التهرب من القرارات التي لا محيد عنها.
ولهذا لا يظهر في القرار الملكي تردد أمام الملفات الشائكة. لكن الشائكة هنا لا تعني تلك التي تُناقش في الندوات، بل الملفات التي يُخشى حتى الاقتراب منها، لما لها من حمولة تاريخية، أو حساسية دينية، أو تعقيد اجتماعي.
- هيئة الإنصاف والمصالحة (2004): المصالحة مع الماضي، كشف الحقيقة، جبر الضرر، توصيات إصلاح.
- مدونة الأسرة (2004 و2023): توازن بين مقاصد الشريعة وروح العصر، ثم تحديث بتوجيه ملكي جديد.
- دستور 2011: تعزيز الحقوق والجهوية والهوية الوطنية الجامعة.
- المشاريع الاقتصادية الكبرى: التصنيع، الطاقات المتجددة، السيادة الغذائية، القطار الفائق السرعة، طنجة المتوسط، التعاون مع إفريقيا…
وفي خطاب العرش لسنة 2017، لخّص جلالة الملك هذه الروح بقوله:
“إن اختياراتنا التنموية تبقى عموما صائبة. إلا أن المشكل يكمن في العقليات التي لم تتغير، وفي القدرة على التنفيذ والإبداع”.
هذا النوع من الخطاب لا يبحث عن الترضية، بل يؤدي إلى الصدمة الإيجابية التي توقظ وتُنقذ المشهد السياسي من ارتباكه وتردده.
- الخصوصية المغربية… ليست استثناء جامدًا، بل اجتهاد متجدد
الخصوصية المغربية ليست استثناءً جامدًا موروثًا، بل حركية دينامية اجتهادية متجددة، تولّدت من تفاعل التاريخ مع التحديات، ومن وعي الدولة المغربية بأن صيانة الاستقرار لا تعني تجميد الحياة السياسية، بل إبداع حلول داخل منطقها.
وليست هذه الدينامية بديلاً عن الديمقراطية، بل هي فعل إيجابي مؤطر دستوريًا لحمايتها من الجمود، الذي قد ينتج عن التجاذبات المعطلة بين الفاعلين الحزبيين.
وفي هذا السياق، يمكن فهم مفردة جوهرية تتكرر في خطاب جلالة الملك: “التوازي بين الحقوق والواجبات”.
خاتمة: المغرب الذي نريد
الحديث عن القرار في المغرب لا يُفهم إلا بمنطق التكامل الذي يفرضه الواقع وتفرضه الحكمة السياسية.
المؤسسة الملكية لا تتدخل لاحتكار المبادرة، بل لمنع سقوط القرار في الفراغ.
والأحزاب، إذا أرادت أن تستعيد دورها، عليها أن تتحرر من ضغط الزمن الانتخابي، وتلتحق بزمن الدولة: زمن الأثر، لا زمن الدعاية.