28 أكتوبر 2025 / 10:15

السنة النبوية بين الوحي والتدوين والتشكيك

د. صلاح الدين المراكشي 

إمام وخطيب ومرشد ديني بالمستشفيات والسجون الفرنسية، ومبتعث سابق من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية

يكثر في زماننا هذا، وخصوصًا بين من يُعرفون بـ”القرآنيين”، الجدل حول مصطلح : “ السنة”؛ حيث يزعم بعضهم أنه مصطلح حادث لم يكن معروفًا في زمن النبوة، ولا في صدر الإسلام ! غير أن الناظر المتأمل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يظهر له بجلاء بطلان هذا الزعم !.

إن مصطلح : “السنة” ثابت، ومتجذر في نصوص الوحيين وفي كلام العرب، ففي القرآن؛ ورد لفظ: ” السنة ” بمعنى: الطريقة والمنهج، كما في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [النساء: 26].

وأكدت السنة النبوية هذا المعنى، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «لتتبعنَّ سُنَن من كان قبلكم» (البخاري: 3456)،وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» (البخاري: 5063، مسلم: 1401)، أي من أعرض عن طريقتي وهديي.

كما تطلق : “السنة” في اللغة، والشرع ايضا على الطريقة سواء كانت محمودة، أو مذمومة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سنَّ في الإسلام سنةً حسنة…ومن سنَّ سنةً سيئة…» (مسلم : 1017).

وقد عبّر الشعر العربي عن هذا المعنى، فقال: خالد الهذلي: فلا تجزعن من سيرةٍ أنت سِرتها / فأولُ راضٍ سُنَّةً من يسيرُها. أي : من سنَّ طريقًا كان قدوةً لمن بعده، خيرًا كان أو شرًا.

كما يختلف مفهوم: ” السنة ” باختلاف المجالات الشرعية التي تُستعمل فيها، وإن كان الهدف واحدا وهو اتباع هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

فعند المحدِّثين، تُطلق : ” السنة ” على كل ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ أو صفةٍ خَلقيةٍ أو خُلقيةٍ، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها، لأنها تمثل الصورة الكاملة لشخصه الشريف وسيرته المباركة.

أما عند الأصوليين، ف : ” السنة ” يُقصد بها ما صدر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أقوالٍ أو أفعالٍ أو تقارير يُستدل بها على الأحكام الشرعية، فهي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.

في حين أن الفقهاء يستعملون مصطلح : ” السنة ” بمعنى: ما يُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه، وهو ما يُرادف المندوب، والمستحب، والنافلة، والرغيبة، وقد تُطلق أحياناً في مرادف الواجب الآكد، أو الفرض، وتفرق بعض المذاهب الفقهية بين هذه المصطلحات بحسب دقة الاستعمال الفقهي.

وأما عند علماء العقيدة، ف : ” السنة ” تعني: ما يقابل البدعة، وهي تعني هنا – أي: “السنة ” : التمسك بما جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الاعتقاد والمنهج.

وهكذا؛ يتضح أن اختلاف التعريفات ” للسنة ” باختلاف المجالات الشرعية لا يعني اختلافاً في المقصود الجوهري، ف : ” السنة ” في مجملها هي الطريق النبوي الصحيح الذي يُهتدى به في القول والعمل والاعتقاد.

ولا تُعد السنة ابتداعاً بشرياً للتشريع، بل هي وحي من الله تعالى كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰٓ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم: 3-4]. ويؤكد القرآن في مواضع عدة ارتباط طاعة الرسول بطاعة الله، وعصيان الرسول من عصيان الله إذ قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80] وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم مؤكدًا هذه الحقيقة : “من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله” (رواه البخاري: 2957 ومسلم: 1835).

لقد عظّم الصحابة رضي الله عنهم السنة النبوية تعظيمًا بالغًا، فحرصوا على العمل بها في جميع شؤون حياتهم، وأقبلوا على اتباعها بدقة وإخلاص.

ولم يقتصر هذا التقدير على جيل الصحابة فحسب، بل ورثه عنهم التابعون الأبرار، فكانوا يسيرون على نهجهم في توقير الحديث النبوي وتعظيمه، مظهرين حرصهم على نقله وحفظه.

وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: إذا كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على حفظ الحديث ونقله، فكيف نفهم ما ورد عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله

عنه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث؟ والجواب عنه : أن هذا النهي كان مؤقتًا في المرحلة الأولى من الدعوة، لأسباب تربوية وتشريعية، ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم لاحقًا بكتابة الأحاديث، كما دلّت على ذلك أحاديث صحيحة. وفسّر العلماء هذا النهي بأنه جاء لحفظ القرآن الكريم ومنع اختلاطه بما يُكتب من أحاديث، أو خوفًا من انشغال الناس بالسنة على حساب القرآن. وأشار بعض العلماء، ومن بينهم البخاري، إلى أن حديث أبي سعيد الخدري الوارد في النهي قد يكون حديثًا موقوفًا.

ومع هذا التحفظ المؤقت، بدأ الصحابة تدريجيًا يتطلعون إلى تدوين السنة النبوية في عهدهم فمرت عملية الكتابة بعدة مراحل، بدأها النهي المؤقت كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : “ لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه…” ( رواه مسلم: 3004).

ثم صدر الإذن لاحقًا بالتدوين، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص : «..اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق”، وحديث

أبي هريرة رضي الله عنه: “ ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب ” (رواه البخاري: 113).

وبهذا الرأي استقر العلماء على جواز كتابة الحديث النبوي، بل واستحبابها، وأجمع على ذلك علماء جهابذة مثل القاضي عياض، والنووي، والذهبي، تأكيدًا على أهمية حفظ السنة وتعليمها للأمة.

وهنا؛ يمكن القول: إن بواكير كتابة الحديث النبوي بدأت في عهد الصحابة، حيث دوّنوا أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم في صحف متفرقة، من أبرزها : صحيفة أبي بكر الصديق، وصحيفة علي بن أبي طالب. وصحيفة عبد الله بن عمرو، المعروفة بـ الصحيفة الصادقة. ولم تقتصر كتابة الحديث على الصحف الفردية، بل كان بعض الصحابة يرسلون ما دوّنوه لبعضهم، مثل جابر بن سمرة إلى عامر بن سعد، وأسيد بن حضير إلى مروان بن الحكم، وزيد بن أرقم إلى أنس بن مالك. وتلقّى التابعون السنة، وبذلوا جهودًا كبيرة في حفظها ونشرها، فظهرت صحف متعددة : كصحيفة سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وهشام بن عروة، وغيرها.

وفي نهاية هذا الجيل، ومع بداية جيل تابع التابعين أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز الإمام الزهري؛ بجمع السنن كأول خطوة لتدوين السنة بشكل رسمي؛ بينما كانت الكتابة والتقييد قد بدأت في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته.

وبعد عصر الصحابة ومن جاء بعدهم، تطوّر التدوين في القرن الثاني الهجري من جمع عشوائي، إلى ترتيب وتصنيف، فظهرت مصنفات كـ : مصنف عبد الرزاق، وكتب الجوامع : كجامع سفيان الثوري، وكتب الموطآت كموطأ الإمام مالك، وهي كتب تجمع بين أحاديث النبي وأقوال الصحابة والتابعين.

وفي القرن الثالث ازدهرت أنواع المصنفات، مثل المسانيد، والصحاح، والسنن، وتصنيفات متنوعة، واستمر التطوير في القرنين الرابع والخامس باستكمال التصنيف، وظهرت المستخرجات وغيرها.

ومن هنا؛ تتضح لنا أهمية تدوين السنة النبوية وجمعها، إذ تتجلى قيمتها في وظائفها المتعددة القولية والعملية والتقريرية والتفسيرية والتي تهدف إلى بيان القرآن وتفصيل أحكامه؛ فهي أحيانًا تؤكد ما ورد في القرآن، كما في فرائض الصلاة والزكاة والصيام وحج البيت، التي أكدت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على بنائها ضمن أركان الإسلام الخمسة، وأحيانًا تأتي مبينة لما جاء مجملاً في القرآن، كشرح كيفية إخراج الزكاة وتفاصيل الحج، أو مخصصة لعموم النصوص القرآنية، كما في تحريم الميتة والدم مع استثناء ما أباحته السنة كالكبد والطحال. وأحيانًا تقيد المطلق، كما في كفارة من ظاهر من امرأته، وأحيانًا تفسر ما جاء في القرآن، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى “الحسنى وزيادة” بالنظر في وجه الله.

ولذلك، فإن من يسعى إلى التفريق بين الوحيين العظيمين، القرآن والسنة، يكون بذلك قد أنكر الحقيقة القرآنية، حتى وإن زعم أنه ينصر القرآن، إذ يلجأ حينها إلى تفسير الآيات بما يخالف ما ثبت في السنة النبوية.

لقد أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالسنة كما أوحى إليه بالقرآن، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “

ألا إنِّي أوتيتُ القرآن ومثله ” ( رواه ابوداود برقم: 4064 وأحمد ج : 4/ 131 وغيرهما وهو حديث حسن ) مؤكّدًا أن السنة وحي إلهي كالقرآن في أصلها ومصدرها.

كما حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من إنكار السنة أو التفريق بين الوحيين، فقال: “ لا أُلفِينَّ أحدَكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، يقول : لا أدري، ما وجدنا في كتاب اللّه اتّبعناه ” ( رواه ابوداود برقم : 4605 والحاكم ج 1/ 108 وهو حسن ) وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بما سيكون في مستقبل الأمة من إنكارٍ للسنة وادّعاء الاكتفاء بالقرآن، وهو ما وقع بالفعل. وقد تصدى العلماء لهذا الفكر المنحرف عبر العصور، وردوا شبهاته بالحجة والبيان حيث ظهر ردّ السنة في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، مع الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فطعنوا في جمهور الصحابة بعد الفتنة، وردّوا كثيرًا من أحاديثهم بدعوى مخالفتها لآرائهم. كما ظهرت طائفة اخرى من الغلاة في التشيع طعنت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وجرَّحت أكثر الصحابة، فلم يقبلوا رواياتهم.

وعلى الرغم من ذلك، ظل جمهور المسلمين وعامتهم على الجادة التي سلكها الصحابة والتابعون، متمسكين بالسنة، مقتدين بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، معظّمين للوحيين معًا.

وفي نهاية القرن الثاني الهجري، كان قد بدأ التشويش ممن تأثروا بالفكر الفلسفي في منحاه المنحرف عن منهج الوحي من أمثال : أبو الهذيل العلاف، وعبيد الله بن الحسن، وهشام بن الحكم، ومحمد بن الجهم البرمكي، الذين أكثروا من إيراد الشبهات على النصوص النبوية بل وعلى بعض الآيات القرآنية نفسها ! وقد عُرف غلاة هؤلاء بضعف الديانة والاستهزاء بأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والاستخفاف بنقل الأخبار الصحيحة.

ومع مرور الزمن، لم يخل أي عصر من ظهور فكرة رد السنة أو التشكيك في حجيتها، إذ كانت تنبثق بين حين وآخر في مناطق مختلفة، كما حدث في بلاد السِّند، ثم امتدت إلى مناطق أخرى لتصل في النهاية إلى العالم العربي الحديث، فتأثر بها بعض الناس. وفي أمثال هؤلاء قال الإمام أيوب السختياني : ” إذا حدّثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا بالقرآن، فاعلم أنه ضال مضل” (الخطيب البغدادي، الكفاية، 1/86). وتعد هذه الكلمة قاعدة علمية في التمييز بين أهل الاتباع وأهل الزيغ والانحراف.

ولمّا ظهرت هذه الدعوات المنكرة في أزمنة متفرقة، تصدى العلماء –قديمًا وحديثًا– للرد عليها وتفنيد شبهاتها، ومن أبرز من كتب في ذلك :

– الإمام الشافعي، الذي أفرد في كتابه : ” جماع العلم” بابًا بعنوان: باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها، بيّن فيه فساد مذهبهم وإجماع الأمة على حجية السنة.

– الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه : ” السنة ” الذي جمع فيه الأدلة على وجوب تعظيم السنة واتباعها.

– جلال الدين السيوطي في رسالته: ” مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة “، ردًا على أحد الرافضة الذين طعنوا

في السنة في عصره.

ومن الكتب المعاصرة في هذا الباب:

– ” الأنوار الكاشفة لما في كتاب أبي رية من الأكاذيب والأباطيل والمجازفة ” لعبد الرحمن المعلمي.

– ” السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ” لمصطفى السباعي.

وغيرها من المؤلفات التي حفظت مكانة السنة وردّت على شبهات الطاعنين فيها. وهكذا، يتبين أن محاولات التشكيك في السنة لم تكن جديدة، بل هي امتداد لتيار فكري قديم يجدّد نفسه كلما ضعف العلم وقلّ التمسك بالوحيين. غير أن الله تعالى

قد تكفّل بحفظ دينه، فقيّض للأمة علماء راسخين يدافعون عن سنة نبيها، ويذبّون عنها كما يذبّ المرابط عن الثغور، فتبقى السنة –بوعد الله– محفوظة نقية، تضيء للناس طريق الهداية والإيمان.

والحمد لله رب العالمين.