ذ. محمد جناي
ما أحوج الأمة الإسلامية أفرادا ومجتمعات إلى الركون إلى هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- واعتماده منهج حياة فيما دق وجل من أمورها في عصر تنوعت أزماته، حتى أضحى المسلم في حيرة من كثرة تطلبات الحلول من مناهج قاصرة ، في الوقت الذي حباه الله فيه بنماذج نبوية هادية مهدية، تعلو ولا يعلى عليها في التعامل مع هذه الأزمات، ولقد فطن إلى تلك الحقيقة سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – فجاء تعاملهم مع السنة على نحو استلب الألباب وأبهر الأنظار ، ولو رمنا الوقوف على مشاهد التطبيق الصادق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في حياة أولئك الأفذاذ لألفينا أمرهم عجبا وأعجب من العجب.
فالسنة النبوية الصحيحة تمثل في وجدان الأمة منهج الحياة وطوق النجاة ، في بحار ظلمات الفتن العاتية، ورياحها الهوجاء العاصفة، مما يستدعي التماهي معها بالتفقه فيها والدراسة لتنزيلها على الوقائع المستجدة ، يقول ابن القيم الجوزية في معرض الحديث عن الرسل ومدى حاجة البشر إليهم وتعلق مصالحهم بهم :” فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه ، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت ،فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير ، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين ، فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ، ووضع في المقلاة ، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم ،ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي ، وما لجرح بميت ايلام”.
فإدارة الأزمات شأن إنساني يواكب الناس في كافة مراحلهم العمرية وأحوالهم المعيشية، يقول عباس رشدي العماري :” إن إدارة الأزمات كانت أحد أساليب إدارة العلاقات الإنسانية على مستوياتها المختلفة منذ فجر التاريخ، وأن القدرة على النجاح فيها كانت امتيازا غريزيا خص به الله – سبحانه وتعالى – البعض من البشر دون البعض الآخر ، وأنها كانت أسبق وجودا من محاولات التأصيل النظري التي بدأت في مطلع الستينات، تماما مثلما تعلم الإنسان السباحة قبل أن يكتشف قانون الطفو ومثلما تعلم الحذر عند صعوده للمرتفعات قبل أن يكتشف قانون الجاذبية”.
إذا كانت إدارة الأزمات في العصور الحديثة تعنى بوضع حلول للأزمة بغض النظر عن كون هذه الحلول ذات قيمة أخلاقية ، أم مهدورة القيمة ، فإن النموذج النبوي الراقي في إدارة الأزمة يعنى كذلك بالجانب القيمي في مراحل الأزمة المختلفة أيما عناية، ولعل هذا مايدعونا إلى تسليط الضوء على النماذج النبوية في إدارة الأزمة ، لأن الحل والعلاج كلما كان مقرونا بهذه الخصلة كلما كانت نتائجه نافعة، وحلوله ناجعة ، وبدون هذه الخصلة يبقى تأثير الحلول ، مرهونا بعوامل وقتية لحظية سرعان ما تعاود الأزمة نشاطها فور زوال تأثير تلك العوامل.
ومن أساليب التعامل مع الأزمات في ضوء نصوص السنة:
أولا: أسلوب التعبئة العامة
عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل “.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم”.
حيث ورد لفظ التعبئة في المعجم الوسيط بأنه :” تهيئة موارد الدولة وإعدادها عند الحرب”، وبهذا المعنى جاء استعمال اللفظ في بعض تراجم الأبواب في كتب الحديث ، كما هو صنيع البغوي رحمه الله في شرح السنة ، حيث أورد في كتاب 《 الجهاد والسير》، ترجمة تحمل هذا اللفظ ، وذلك في قوله :《 باب الصف في القتال والتعبئة 》.
والتعبئة والتهيئة العانة كأسلوب من أساليب التعامل مع الأزمات هو أمر درج الأولون على استعماله ، وفي واقع الأمر يعتبر أسلوب التعبئة العامة في مواجهة الأزمات من الأساليب الهامة والخطيرة التي لا غنى عنها وقت اشتداد الأزمة واستحكامها، لأن فريق إدارة الأزمة قد يجد نفسه عاجزة عن مواجهة الأزمة وإحكام قبضته عليها منفردا، وتطلعنا دواوين السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع موضوع التعبئة العامة في أولوياته عند مواجهة الشدائد ، ومن ذلك على سبيل المثال ما ورد في حديث ابن مسعود السالف الذكر ، ففي هذا الحديث يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام أمام أمر واقع، وإن كان مرا، كونه يفرز طائفة من المنتسبين لهذا الدين لا يعلون له رأسا بنفاقهم وزيفهم، ويكونون بسبب هذا النفاق مصدرا للأزمات والمحن داخل المجتمع ، ثم نراه صلى الله عليه وسلم يوجه حديثه للغيورين على دينهم من هذه الأزمة معبئا إياهم لمجابهة هؤلاء بما أوتوا من قوة وبما لا يدع مجالا لاعتذار معتذر عن مجابتهم والتصدي لهم.
ثانيا: أسلوب احتواء الأزمة
عن المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن عبد القاري أنهما سمعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت هشام بن حكيم بن حزام ، يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، وكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف ، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ على غير ما أقرأتنيها، فقال لي :” أرسله ” ، ثم قال له :” اقرأ ” فقرأ ، قال : ” هكذا أنزلت” ، ثم قال لي :” اقرأ ” فقرأت، فقال :” هكذا أنزلت إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ” ، فاقرءوا منه ماتيسر”.
تعد القدرة على تطويق الأزمة وإيقافها عند مرحلة معينة من الأساليب المهمة في مواجهة الأزمات والتصدي لها، ومما لا شك فيه أن عملا كهذا يحتاج من القيادة أن تكون ذات أوصاف تمكنها- بنجاح- من تحقيق هذا الأمر، والذي هو احتواء الأزمة ومنعها من التوسع والانتشار، ومن أهم هذه الأوصاف:
الدراية التامة بأبعاد الأزمة ومسبباتها ومآلاتها وطبيعة أطراف الصراع فيها.
الحنكة الكبيرة في إدارة الحوارات بما يخلف حالة من الرضا في نفوس المتصارعين، إذا كانت الأزمة ناجمة عن صراع ما.
التحلي بدرجات عالية من القبول لدى الأطراف المتنازعة والمتصارعة.
إن استخدام أسلوب الاحتواء يؤدي إلى إفقاد الأزمة لقوتها وشدتها التدميرية، ويمكن أيضا تحويل قوة دفع الأزمة من الاتجاه السلبي إلى الاتجاه الإيجابي الذي يصب في خدمة الصالح العام.
وما أكثر المواقف التي جرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على نحو كان من الوارد جدا أن تفضي فيه تلك المواقف إلى أزمة مستحكمة لولا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب، محتويا إياها، حائلا بينها وبين بلوغها مرحلة يصعب السيطرة عليها.
ثالثا: أسلوب تحييد بعض عناصر الأزمة
عن أبي هريرة و جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم :” النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم” فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا، فليأتني فأنا مولاه”.
من المفيد جدا ونحن نتواجه مع أي أزمة من الأزمات أن نعمد إلى تفتيتها وتقطيعها إلى أجزاء صغيرة، لتحييد بعضها عن مشهد الأزمة الملتبس، حتى يسهل التعامل مع ماتبقى منها بعد ذلك، لأن مواجهة الأزمة وهي متماسكة الأجزاء متداخلة العناصر والمكونات يعتبر أمرا بالغ الصعوبة ، بل ربما كان من المستحيل في بعض الأحيان تفادي الأزمة وآثارها الفتاكة إن لم نسلك سبيل التجزيئ والتبعيض لهذه الأزمة.
وختاما: تعمل هذه النماذج النبوية في إدارة الأزمة على تقوية الإيمان بالله ، والتأكيد على ضرورة توثيق العلاقة به، وحسن التوكل عليه، وزيادة التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ إنها تتناول بالبحث موضوعا يتعامل مع أشد حالات الإنسان ضعفا وقلة حيلة، وهي حالة الأزمة والاضطرار والكرب والضيق، وهي حالة تجعل المرء أحوج مايكون إلى طوق نجاة يتعلق به ، لينقذ نفسه مما هو فيه، فعندما يكون طوق النجاة هذا موضعا من مواضع الأسوة والقدوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ؛فإنه يخرج لنا نفسا عظيمة الإيمان بربها، وثيقة الصلة ببارئها، حسنة الاقتداء بنبيها.
ــــــــــــــ
هوامش:
[1]: إدارة الأزمة مقاربة التراث والآخر ، ل د . عبد الله إبراهيم الكيلاتي، سلسلة كتاب الأمة العدد : 131
[2]: منهج السنة النبوية في إدارة الأزمات (دراسة تطبيقية)، تأليف الدكتور صلاح خليل محمد قشطة ، إصدارات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – قطر- الطبعة الأولى 2015.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18895