نورالدين الحاتمي
في هذه الورقة، نريد أن نتسلح بقدر من الجرأة و الشجاعة، لنقول ما نراه جديرا بالقول، ونفصح عما نحسبه جديرا بالإفصاح، وهذه الورقة تحاول أن تكون مساهمة في فتح نقاش حقيقي حول موضوع “الإسلام السياسي” و”السلفية الجهادية” على وجه الخصوص، ومدى الخطر الذي يمكن أن تشكله على امن و استقرار المجتمعات، و حجم الضرر الذي يمكن أن تحدثه على النظام العام.
يعتقد “الإسلاميون” بشكل عام و”السلفيون الجهاديون” بشكل خاص، أنهم رقم صعب في معادلة صعبة، ويظنون أنهم ذوو ثقل في مجتمعاتهم، وأن السياسات كلها تدور حولهم، وهم يتمركزون داخلها، و هم ـ تبعا لمعتقدهم هذا ـ يفسرون كل الوقائع والأحداث انطلاقا منهم أو انتهاء بهم، بمعنى أنهم هم مدار المجريات، فهل هذا صحيح أو معقول؟ و من كان مسؤولا عن ترويج هذا النوع من الأفكار؟
لا يستطيع الإسلاميون ـ أو بالأحرى ـ لا يقبلون النظر إلى حقيقتهم، و حقيقة وضعيتهم في مرآة الحقيقة، لأن هذه النظرة، من شأنها أن تكون مؤلمة و قاسية، و لذلك، فإن الإيمان بالحقيقة و العمل على مواجهتها، يحتاج إلى جرأة لا نمتلكها، و شجاعة لا نتسلح بها، إن الجواب عن أسئلة من مثل: ما قيمة “السلفية الجهادية” وما وزنها في المجتمعات العربية والإسلامية؟ و ما هي الأدوار التي لعبتها أو تلعبها؟ ومن تضرر منها و من أعمالها؟ و كيف وصل “الإسلاميون” قبل و “السلفيون الراديكاليون” اليوم، إلى اعتقاد أن الدور اليوم دورهم، و أن اليوم يومهم؟
أقول إن هذا الجواب جواب عن أسئلة ينبغي، و يجب طرحها، و حتى تكون الصورة واضحة يجدر ـ في تقديري على الأقل ـ العودة قليلا إلى الوراء إلى التاريخ المعاصر، وبالضبط إلى نهاية الحرب الباردة، وانهيار المعسكر الشرقي، و تفكك الاتحاد السوفيتي و سقوط جدار برلين، فالعودة إلى هذه الحقبة مفيد في موضوعنا. غني عن البيان، الإشارة إلى أن الغرب كان مستفيدا من وجود عدو من مستوى الاتحاد السوفيتي، و من مستوى المعسكر الشرقي، فالإجماع الوطني الذي ضمنه زمنا، و تبرير الإنفاق على التسلح زمنا والتسابق فيه كان ممكنا و مقنعا،و الصراع من أجل أن يبقى في الصدارة و قيادة العالم، و الحفاظ على مكانته كعالم أول وحر، كان ممكنا أيضا، وهذا كله، إنما يكون ممكنا بوجود عدو يمكن إقناع الشعوب بأنه عدو حقيقي فعلا. و الغرب ـ كما هو واضح و معلوم ـ لا يستطيع أن يعيش دون وجود هذا العدو، ولا يضمن وحدته وتضامنه دونه، أي دون هذا العدو.
ولم يكن ثمة عدو يرقى إلى أن يكون عدوا جديرا بالحرب، كالإسلام و حركاته المنبثقة عنه، المناضلة باسمه، خصوصا، وأنه العدو التقليدي للغرب المسيحي، والتاريخ الدموي والمخيف الذي شاركا في صناعته و توقيع أحداثه معا يكرس هذا العداء و ينفخ في ناره، وعليه، توجهت الانظار إلى حركاته و تنظيماته، فأخضعتها للدرس و التحليل، وسلطت عليها الأضواء، و انكب عليها الباحثون و المحللون، وما كان ذلك بغرض العلم و المعرفة، وإنما كان من اجل تضخيم هذا العدو، و إقناع الشعوب الغربية بضرورة التحالف مع انظمتها لاتقاء شره، وبضرورة التفويض لها لفعل ما تراه مناسبا، لخدمة مصالحها، وفي هذا السياق، صدرت دراسات و كتابات تتعامل مع هذه الحركات بنوع من التهويل، حتى خُيّيل إلى “الإسلامين” بل إلى المسلمين عموما، ومن شدة الترويج لخطورة هذه الحركات والتحذير منها، خييل إليهم أن هذه الحركات ستقود العالم العربي و الإسلامي، لاسترجاع زعامته وتصدره، و إحياء أمجاده و أيامه، و أن هذا الامر في حكم اليقين، مما زاد عدد الملتفين من المسلمين حول تلك الجماعات، كما اسهم أيضا في ذلك الالتفاف، أن عددا من الكتابات التي تناولت موضوع صعود “الإسلام السياسي” و إمكانية عودته لقيادة العالم، كانت بأسماء و أقلام غربية، الامر الذي يتعامل معه المسلمون بنوع من الانتشاء، فيثملون له و يسكرون.
يضاف إلى ذلك، الكتابات الإديولوجية الخالية من العلم و الوعي الموضوعي، التي ما فتئت أقلام مفكري و مثقفي “الحركة الإسلامية” تكتبها، و يتلقفها الشارع العربي و الإسلامي بلهفة، و التي كانت تبالغ في تنبؤاتها و توقعاتها، إلى درجة تجعل حماسة الناس ملتهبة و مشتعلة، كقولهم مثلا: أن الغرب استنفذ أغراضه، و لم يعد لها ما يقدمه للإنسانية المتعبة، و أن العالم، برمته، يعيش على وقع فراغ روحي مخيف و مرعب، و ان هذا الفراغ لا يملأه إلا الإسلام، و أن عصر “الرجل الابيض” قد انتهى، مما يزيد الخطاب الإسلامي انتشارا، ويزيد التيار الإسلامي هيمنة و إحكاما لقبضته على الشارع المسلم، و قد كان مما يضفي على هذه النبوءات نوعا من “المصداقية”، استئناسهم بالنقل عن الكتب الفلسفية الغربية المفيدة في الموضوع بشكل عام، و الألمانية على وجه الخصوص، و التي انصبت على توجيه الانتقادات للغرب و نموذجه، بل و التشاؤم من مستقبله.
الأمر الذي كان يجعل القول أن الإسلام اليوم هو الحل لأنه هو البديل، إذ لا شيء بإمكانه أن يقدم حلولا و بدائل لمشكلات الحضارة المعاصرة، ويضع حدا لمعاناة الإنسان المعاصر إلا هو ـ كما كان يقال ـ أقول يجعل هذا الرأي ليس ممكنا فحسب، بل و ضروريا، و بالتالي، فإن قضية وراثته الأرض، وسيادته عليها، ليست إلا مسألة وقت فقط. انتهاء النموذج الغربي و وصوله إلى النفق المسدود باعتراف عدد من متفلسفة الغرب نفسه، والتبشير بأن المستقبل لهذا الدين، أي للإسلام، هو الأمر الذي سمح “للحركة الإسلامية” بابتلاع الشارع المسلم، و جعله “خاليا” من خصومها، و ليس شيئا آخر.
نريد أن نخرج من هذا، إلى أن قوة الحركة الإسلامية لا تعود إليها وحدها، لسبب ذاتي فيها، و إنما تعود في جزء كبير منها إلى الأضواء التي سلطها عليها الغرب، لغاية في نفسه و لغرض عنده، و هو أن يدبر بها مرحلته.
وإذا كان الغرب قد استفاد من تصوير “الحركة الإسلامية” عدوا حقيقيا له، وذلك بما روجه سياسيوه من القول أن “الأصولية الإسلامية” تشكل تهديدا له، و تهديدا لمصالحه في العالم الإسلامي، و بإصراره على إجهاض أية تجربة “ديمقراطية” في هذا الجزء من الأرض، بدعوى أن “الديمقراطية” ستوصل “الأصوليين” إلى الحكم، وستمكن لهم، مما يعني إنهاء الهيمنة الغربية، فإن قيادات “الحركة الإسلامية” استفادت أيضا، من هذا التهويل، حيث تصدرت المشهد و غلبت غيرها، وسلم لها الناس و انقادوا إليها، بما ظنوه أنها ستقودهم في مواجهتهم مع الغرب، وستعيد إليهم كبرياءهم و كرامتهم، وستمنع الغرب من مواصلة نهبه لثرواتهم و سرقتها، و ستمنعه أيضا، من التمادي في الإمعان في إذلالهم واحتقارهم، وبما صدقوه من تلك الحرب “المعلنة”، التي صورت لهم أن الغرب، فعلا، يخوض حربا شرسة ضد “الحركة الإسلامية” و ضد قياداتها، و إذا كان الغرب قد استفاد من هذا الصراع، إذ ضمن تماسك مجتمعاته، وضمن تحالفها مع أنظمته، ووجه انتباهها و رأيها و تفكيرها إلى عدو خارجي، هو الإسلام والتنظيمات العاملة تحت شعاره، و نجح في ذلك، فإن القيادات “الإسلامية” أيضا، استفادت ماديا و رمزيا، وراكمت على المستويين: المادي و الرمزي كليهما.
وإذا كان هذا الأمر من الصعب استيعابه و تصوره، فإن هناك عددا من التساؤلات المستفزة للعقل ينبغي طرحها، وينبغي الوقوف عليها و تحليلها: فكيف أمكن لشاب في عمر الشباب كـ “حسن البنا” أن يؤسس تنظيما كبيرا و عالميا كجماعة “الإخوان”؟ من ساعده؟ ومن قدم له الدعم؟ أقصد من من الجهات القوية على مستوى العالم ساعدت على ذلك؟
إنه من شبه المستحيل، تصديق أن شابا و معه مجموعة من الشباب أيضا، ينجحون في تأسيس تنظيم كبير كجماعته. وكيف لقيادات “إسلامية” راديكالية و متطرفة، أن تُنظر للقضاء على الغرب و هي تعيش معززة مكرمة في عواصمه، و تحت حماية أجهزته و مؤسساته؟ كيف يحميها الغرب و هي تحرض عليه و تدعو إلى محاربته؟
إن من الغباء، التصديق أن الغرب يسمح بإيواء الأسماء والشخصيات القيادية، المعادية له، ويمنحها “اللجوء السياسي” لتعمل ضده و ضد حلفائه، فقط، لأن قانونه يسمح بذلك وفقط، لأنه يحترم قانونه، ان من المقطوع به أنه، يكبح جماحها عنده، و يرسلها على الأنظمة العربية ليخيفها كما قال أحد الباحثين العرب. والتنظيمات “الجهادية” التي تأسست على أنقاض الحركات “المعتدلة” من يمولها و من يدفع لها؟ من أين تُجمع لها أموال التبرعات التي تمول بها عملياتها؟ من يستفيد من عملياتها و جهادها؟ و أين تدور رحى حروبها ؟
إن النظر إلى جهاد التنظيمات “الجهادية” من جهة الرابح و الخاسر، يطرح أكثر من تساؤل، و يثير الكثير من الشك و الريب، إن أكثر ضحايا العمليات “الجهادية” من المسلمين، وأكثر الساحات التي تعد مسرحا لتلك العمليات، هي الساحة العربية و الإسلامية، و إن اكثر من يتكبد خسائرها هم العرب و المسلمون، وبالمقابل، فإن أمريكا “هبل العصر” هي الرابح و هي المستفيد من كل هذه الكوارث ومن كل الأعمال “الجهادية” التي يوقعها “الجهاديون” فقد دمرت بلدين مسلمين و قتلت مئات الآلاف من العرب و المسلمين و اعتقلت وشردت و أطلقت العنان لشياطينها من حلفائها للفتك و القتل و التشريد، و أكثر من ذلك عبأت شعوبها ضد كل ما هو مسلم أو إسلامي، و شحنتهم بالحقد عليهما، و أججت الكراهية ضدهما.
إذا سلمنا أن “القوة” التي اعتقدت “الحركة الإسلامية” أنها تحوزها بفضل الدعاية الغربية، أي بفضل كتابات الباحثين المزيفين، الذين لا يعتمد الغرب نفسه عليهم و لا يستقي معلوماته منهم، لأنهم عند التقصي و التحقيق ليسوا إلا مساهمين في توجيه الرأي العام إلى الوجهة التي يريدها “الكبار” و بالمعلومات التي تصلهم من “الكبار” بقي أن نتساءل عن مكانتهم في مجتمعاتهم.
إن الجماهير ليست معهم بالشعارات التي كانوا يرفعونها في السابق أي إقامة الدولة الإسلامية و تطبيق الشريعة الإسلامية إذ يحتل الدين المرتبة الدنيا في سلم أولويات الناس كما يقول الطوزي. لقد كانت الجماهير تصفق لخطاب الحركة الإسلامية ظنا منها أنها ستوفر لها الخبز و ستعمل على تحسين شروط عيشها، اما وقد فشلت في هذه أيضا فأعتقد أنها ستمسي في حكم المفلس و لن تقوم لها قائمة.
أعتقد أن المرحلة التي تعيشها الحركة الإسلامية اليوم، تحتاج إلى اكثر من وقفة ثورية و صادقة مع الذات أولا، و تحتاج إلى القيام بنوع من النقد الذاتي الصارم و الشجاع للخروج بأقل الخسائر و لاستئناف العمل.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13169