5 يونيو 2025 / 17:56

السردية المؤدلجة واحتراف الاغتيال المعنوي

يوسف حميتو

استصنام المفاهيم والتنظيمات والرموز والرمزيات

في الفضاءات العلمية المنتمية إلى الحق الديني، والتي هيمن عليها خطاب أيديولوجي كثيف، لا يُتاح للمفاهيم أن تنتقد أو أن يعاد بناؤها من الداخل، ولا يُسمح لها أن تُراجع من الخارج، ما لم يكن الناقد جزءًا من النسيج الذي تُدار به شرعية القول. ذلك أن المفهوم في مثل هذا السياق لا يُفهم من حيث دلالته، بل من حيث نسبته، ولا يُقبل لذاته، بل لجهة صدوره. وبهذا، يتحول الحقل من ساحة اجتهاد مفتوح إلى محفل تصديق مغلق، لا يُمنح فيه الحق إلا لمن كرّر، ولا يُدان فيه أحد إلا إذا فكّر، وحتى إن حدث وخرج النقد من داخل الحاضنة، فإن حملة شيطنة الناقد والتأليب عليه تشتد لفترة، ثم تهدأ لترجع نفس البيئة في وقت لاحق إلى الاستشهاد بجهود الناقد في نقد عقيدة الاستصنام، وتجعل ذلك دليلا على أن هذه الدائرة المغلقة تقوم بنقد ذاتي، وتنتقد نفسها، وابناؤها ينتقدونها.

مناسبة هذا المقال، بعض السجالات من طرف واحد حول انتقاد بعض المفاهيم الجوهرية لدى بعض التيارات الدينية المؤدلجة، التي تمارس سلطة تُبنى عبر بنية تراتبية غير مكتوبة، تُفرز داخلها رموزًا تحتكر النطق باسم المجال، وتنتج حولها شبكة صامتة من الحراسات، تمنح صك المشروعية لمن يَقبل، وتنزعها ممن يتجرأ على أن يُعيد ترتيب المنطلقات من خارج الدائرة. وإذا ارتبط هذا الخطاب ببنية تنظيمية سياسية تحظى بدعم خارجي، فإن الفضاء يتحول من ساحة معرفية إلى أداة ضبط، تُستخدم لحراسة الموقع وليس لحماية المفهوم.

في هذا الإطار، لا يُشترط في المستهدَف أن يكون منتميًا فعليًا، ولا أن تربطه علاقة قائمة بأحد أركان البنية؛ يكفي أنه نشأ في حقل يسيطر عليه هذا التيار، أو اشتغل على موضوع هيمنت عليه سرديته، حتى يُعامل – في لحظة نقد – بوصفه خائنًا لما لم يلتزم به أصلًا. ثم يُعاد تفكيك مساره التكويني، لا لاستخراج بنيته المنهجية، بل للبحث عن أي أثر يُسوّغ اتهامه بالنكوص: من جلس إليه؟ من حضر مجلسه؟ من ذُكر في كتابه الأول؟ فيصبح الدرس الواحد تلمذة، والمجال المشترك انتماءً، والاقتباس التخصصي علامة ولاء.

ولأن هذه البنية لا تحتمل المستقل، فإن من يكتب من خارجها لا يُنتقد من داخل منطقه، بل يُسحب قسرًا إلى ساحة المحاكمة الأخلاقية، ويُطلب منه أن يُثبت الطهارة، وأن يُدين نفسه بالبراءة، وأن يُفصح عن كل ما لم يَقل. فإن رفض الخضوع لهذه المسرحة النفسية، ازداد الاشتباه، وسقطت عنه صفات الصدق، لا لأنه كذّب، بل لأنه لم يؤدِّ القسم في محراب الجماعة.

في بعض لحظات الهجوم على المخالف في التصور والفهم، تُستدعى الجغرافيا قرينة على الانحياز وليس باعتبارها ظرفا طارئا، من خلالها يُعاد تشكيل الصورة وفق منطق استبدالي: إن لم نثبت الانتماء، أثبتنا التحول. وإن لم نكشف الولاء، أشرنا إلى مكان الإقامة. فتُحمَّل الجغرافيا ما ليس فيها، وتُتَّخذ حجة على ما لا يَكفي لإدانة سواه، وتُقدَّم في الخطاب كأنها هي العلّة التي تفسر كل شيء: من المتن إلى السياق، ومن القول إلى النية.

هذا التحول في وظيفة المكان لا ينبع من تحليل واقعي، كونه يأتي استجابة لحاجة نفسية داخل البنية المغلقة إلى تثبيت صورة الجماعة المستقيمة في مقابل الخارج المُشوَّه. فحين يغيب الدليل، ويظهر الصدع، ويتكلم من لم يُحسب على أحد، يُنتج العقل الجمعي آليات حماية، يتقدمها الإسقاط، فيُنزَّه الداخل من التهمة، ويُلبَس الخارج لباس النفعية أو العمالة أو التلوّن فقط بناء على اختلاق قرائن بيّنة قابلة للتصديق الفوري لدى الأتباع مستقاة من التجاذب السياسي المؤقت، وكذلك ردة فعل على صدمة ما لا يُحتمل الاعتراف به: أن فكرة صادمة خرجت من مكان غير مألوف، ولم يسبق أن خضعت للترتيب النفسي للجماعة.

ويتضاعف هذا القلق حين تُفتح المقارنة، لأن الأصوات التي تنطق من داخل الفضاءات التي تؤوي التنظيم سياسيا وايديولوجيا وتُديره وتُؤسسه وترعاه، لا تُساءل، ولا تُتَّهم، ولو كانت أكثر حدة، وأشد انفصالًا عن أدوات الاجتهاد وفضاء الأخلاق، بل وحتى إذا كانت مواقف هذه الفضاءات ضبابية أو مخادعة تجاه قضايانا الوطنية الكبرى. وهنا يغيب التساؤل البسيط: إن كانت الإقامة كافية لنفي الأهلية، أفلا تبدأ المحاكمة من مكان التنظيم نفسه؟ أم أن الجغرافيا لا تُصبح متهمة إلا إذا أفلتت من اليد، وصارت ملاذًا للمارق المزعوم؟

هذا الاضطراب في معيار الحكم، إلى جانب كشفه عن خلل في المنطق، يكشف أيضا عن تصدع داخلي يشتغل بوظائف نفسية خالصة. فكل نقد لا يُمكن السيطرة عليه يُسحَب إلى الحيز الأخلاقي، ويُعاد تقديمه بوصفه خيانة، ويُطلب من صاحبه أن يُثبِت ما لم يُطلب من غيره، وأن يبرر ما لم يصدر عنه، فقط لأن الجماعة لم تعتد أن ترى أحدًا يخرج من مجالها صامتًا، ثم يعود ناطقًا دون أن يطرق بابها. وهذا ما يحصل أيضا في مجال القضايا الكبرى للمسلمين خاصة قضية فلسطين، التي تتم مصادرتها كملكية رمزية تحتكرها فئة بعينها، تدّعي وحدها امتلاك مفاتيح الشرعية في التعبير عنها، وليس باعتبارها مأساةً، وهذا الاحتكار للقضية الذي يترافق مع أحادية صورة الحل لا يُقصي المخالف في الاجتهاد الفقهي أو السياسي أو الأخلاقي فحسب، بل يُجرّمه، ويُخرجه من دائرة “الانتماء الأخلاقي”، هذا إن تواضعوا ولم يخرجوه من دائرة الانتماء الديني.

ولذلك، لا يعود الدفاع عن الذات سعيًا لإثبات الحق، بل يتحول إلى قلق وجوديٍّ لا تهدئه الحجج، ولا تسكنه الوقائع، ويطلب في كل مرة صكّ طهارة جديد، حتى إذا لم يُقدَّم، بادر الخطاب إلى ملء الفراغ بأقرب التهم إلى الذهن: “باع”، “تلوّن”، “غيّر الوجهة”، “اختار الموقع الخطأ”، دون أن يُطرح السؤال الحقيقي: ما الذي قيل؟ وما وجه الخلل فيه؟ لأن الجواب – عند هؤلاء – ليس في القول، بل في الخروج، وليس في الحجة، بل في العنوان.

حين يُربَّى التابع على رفض الفكرة قبل أن يستوعبها

تكتسب الذاكرة الجماعية وظيفة تتجاوز مجرد تسجيل التراكم إلى التحكم فيمن يجوز له أن يتحرك ضمن فضائها، وكيف، وبأي ماضٍ، فلا يبقى المسار العلمي في هذه البيئة ملكًا لصاحبه، بل يصبح موضوعًا للمراقبة، ومحلًا للتأويل. فكل تحول في المفاهيم، أو إعادة ترتيب في البنية المرجعية، يُقابل بنظام داخلي يُعيد استدعاء محطات محددة من هذا المسار، ويُعيد توظيفها لإعادة تطويقه داخل السردية الأصلية.

يشتغل هذا النظام من خلال آلية انتقائية تنتزع من الماضي العلامات التي تُبقي الفاعل ضمن الحدود المرخص بها، وتُقدِّمها بوصفها إقرارًا غير معلن بالانتماء. ويُعاد تأطير هذا المسار على نحو يجعل أي تجاوز لاحق امتدادًا غير منضبط وليس لحظة مراجعة. وتُستثمر هذه الآلية في تثبيت مشروعية الجماعة، من خلال الدفاع عن خطابها عبر التحكم في سِيَر من أنتجوا خطابًا خارجها.

بذلك، تتجاوز الجماعة وظيفة الحفظ إلى وظيفة الهيمنة على التفسير، وتُحوِّل تاريخ من يراجع إلى وثيقة تربط حاضره بسقف رمزي سابق. فالمراجعة لا تُقرأ ضمن مسار تطور التفكير، بل يُعاد تفسيرها بوصفها خروجًا عن إطار ماضٍ لم يُترك له أن يُراجع، ولم يُعترف لصاحبه بالحق في الانفصال عنه. ويصبح فعل إعادة الكتابة جزءًا من ساحة المواجهة، تُقرأ فيها العبارات، والهوامش، والأسماء، بوصفها إشارات سياسية، لا مكونات بحثية.

بهذه البنية، تُنتج الجماعة منظومة ضبط لا تتوجه إلى المضمون، بل إلى المصدر. وتُفعِّل آلياتها انطلاقًا من وظيفة واحدة: الإبقاء على كل مَن مرَّ منها -على فرض صحة أنه مر فعلا- ضمن مجال نفوذها، مهما تباعدت المسارات، أو تغايرت المواقع. وتُمنح الذاكرة سلطة أعلى من سلطة البرهان، لأنها تختزن شرعية لا يُقبل أن تُعاد صياغتها خارج البنية المؤسسة لها.

أشد أشكال التحكم ليست التي تُمارس على الكلام، إنما تلك التي تُمارس على الذهن قبل أن يبدأ في العمل والقيام بواجب العدل والإنصاف.  يُربَّى التابع على أن السكوت فقه، وأن التكرار برهان، وأن الصمت عن غير المألوف عبادة لا تنقضها حتى النصوص. في مثل هذا التكوين، لا يحتاج النظام إلى إصدار أوامر للاغتيال المعنوي، يكفيه أن يُهيئ الذهن لرفض ما لم يتعوّد عليه، ويجعل الفكرة الجديدة تُفهم فورًا كخطر، دون حاجة إلى تحليل، أو تحقق، أو نظر، ولو كان المخالف غير مسلم لبسطوا له بساط الود، لكن يبدو أن الإسلام عندهم لا يثبت حقا إلا لمسلميهم هم.

في هذه البيئة، لا يتعلم الفرد كيف يحاور، بل كيف يتحسس الخطر. لا يُلقَّن مفاتيح الاستدلال، بل يُربَّى على غرائز الانتباه: من خالفنا؟ من تغيّر؟ ومن كتب دون أن يُشيد بسلسلتنا؟ لا يسأل أحد عن المعنى، لأن ما يُحرِّك الجماعة ليس ما قيل، بل موقع من قاله، فتُعاد صياغة اليقين داخلها على نحو يجعل الفكرة تُدان قبل أن تُفهم، فقط لأنها لم تُخرِج يدها من جيب نظام الجماعة والتنظيم.

إن الذي يُهاجم فكرًا مغايرا قد لا يفعل ذلك لأنه اقتنع بفساده، ولكن لأنه دجن وكون على ألا يرى المختلف المسلم الخارج من الحظيرة إلا كتهديد. فلا يطلب دليلاً، لأن تكوينه لم يُبْنَ على الحجة، بل على الحساسية. كل فكرة لا تمر من قناة الولاء تُرجم فورًا، ليس لأنها باطلة، ولكن لأنها من الممكن تحرِّك في بعض النفوس ذاكرة الخروج، وتحيي وظيفة الذهن والعقل المغيب، والخروج في هذه التربية هو الجريمة القصوى، ولو صدر على هيئة سؤال، أو احتمال، أو مسافة، المهم أن عود الثقاب المدلل مستعد أن يحرق كل شيء: دين المخالف وذمته وعرضه، فتواه جاهزة في حق من حكم عليه بأنه باع دينه بعرض من الدنيا.

ولذلك، لا يستفز التابع أن يُفحَم المخالف، بل أن يبقى حاضرًا، ناطقًا، غير منكسر. هذا ما لا يُحتمل في وجدان تربى على أن الفكرة لا تُقال إلا بإذن، وأن كل من تكلم دون تسلسل، إنما خان. لا ينتصر عود الثقاب المدلل بالحجة، بل بخوف أتباعه من أن يكون المختلف محقًّا. وكلما بدا المتكلم أكثر استعدادا للمضي قدما، أو كلما تسامى وأعرض عن المفلسين، ازداد الصراخ من حوله، لأن الصراخ في هذه اللحظة ليس دفاعًا عن المبدأ، بل محاولة لمنع الذات من رؤية ما لم تتهيأ له: أن يكون الخارج أصدق، وأن يكون السكوت الذي اعتُبر حكمة، خضوعًا لم يجرؤ أحد على تسميته.