6 سبتمبر 2025 / 11:11

الزكاة ورهانات الدولة الاجتماعية: من الفتوى الشاملة إلى المأسسة القانونية عبر صندوق وطني

محمد الغيث ماء العينين. خبير في الاقتصاد التضامني والاجتماعي

مقدمة

الأمر الملكي الصادر عن جلالة الملك محمد السادس، بصفته أمير المؤمنين، بتكليف المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة حول الزكاة، ليس مجرد توجيه ديني عابر، بل هو خطوة استراتيجية ذات أبعاد مؤسساتية واقتصادية واجتماعية عميقة. فهذه المبادرة تأتي في لحظة مفصلية، حيث يسعى المغرب إلى بناء نموذج متكامل للدولة الاجتماعية من خلال تعميم التغطية الصحية، وإطلاق برامج الدعم المباشر، وتوسيع التعويضات العائلية.

في هذا السياق، تطرح الزكاة كأحد الموارد الكبرى غير المستغلة، والتي يمكن، إذا أطّرت قانونيا ومؤسساتيا، أن تتحول إلى رافعة أساسية تكمل الموارد الضريبية التقليدية، وتعزز ثقة المواطنين في المنظومة الوطنية، وتربط بين المرجعية الدينية الأصيلة وحاجيات المجتمع الحديث.

الزكاة: كنز اجتماعي غير مستغل

تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن إمكانات الزكاة في المغرب تتراوح بين 1.3 و4.1 مليار دولار سنويا، أي ما يعادل 11 إلى 42 مليار درهم. هذه الأرقام تقارب أو تفوق أحيانا ميزانيات برامج اجتماعية قائمة مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ما يجعل الزكاة موردا موازيا ذا قيمة مضافة للمالية العمومية.

وقد بيّنت دراسة أخرى أن موارد الزكاة المحتملة قادرة على سد فجوة الفقر عند خط 3.20 دولار/يوم، والتي تقدَّر بحوالي 270 مليون دولار سنويا. هذا يعني أن تعبئة حتى 20% فقط من الإمكانات كفيلة بالقضاء على الفقر النقدي في المغرب وفق المعايير الدولية.

لكن القيمة الاستراتيجية للزكاة لا تقتصر على الفقر فقط. فهي قادرة أيضا على المساهمة في تمويل حاجيات كبرى أخرى، مثل:

ــ التغطية الصحية للفئات الهشة: بكلفة سنوية تناهز 400–500 مليون دولار.

ــ برنامج الدعم الاجتماعي المباشر: الذي يستهدف ملايين الأسر الفقيرة، وتقدَّر حاجياته بمئات ملايين الدولارات سنويا.

ــ مكافحة الهشاشة التعليمية في الوسط القروي: بكلفة تقارب 100–150 مليون دولار سنويا. وبالمقارنة مع التجارب الدولية (الأردن، ماليزيا)، يتضح أن إدماج الزكاة في المنظومة الوطنية للرعاية الاجتماعية يساهم في تقوية شبكات الأمان الاجتماعي ويعزز العدالة التوزيعية.

من عبادة فردية إلى مشروع وطني

هذه التحديات تبرز الحاجة إلى تحول نوعي: من ممارسة فردية متفرقة إلى مشروع وطني مؤطر، ومن ذلك: الفراغ التشريعي يسد عبر الفتوى الشاملة كأساس شرعي، يتبعها تقنين قانوني يمنح الزكاة وضعا متميزا، التحولات الاجتماعية تدار عبر مأسسة التحصيل والتوزيع وفق معايير الحكامة الحديثة، لضمان العدالة والشفافية، أو المخاطر الأمنية تحتوى عبر إدماج الزكاة في قنوات رسمية تغلق الباب أمام أي توظيف منحرف أو استغلال سياسي.

وبهذا المسار، تصبح الخطوة المركزية هي إقرار إطار قانوني خاص بالزكاة يكون المدخل المؤسساتي لإنشاء صندوق وطني تطوعي يخضع لحكامة ثلاثية (شرعية دينية، شفافية مالية، ورقابة مستقلة). ومن خلال هذا الصندوق، يمكن إدماج الرقمنة لتسهيل الأداء، وضمان الشفافية عبر تقارير سنوية مبسطة، وربط الموارد ببرامج الدولة الاجتماعية الكبرى (التغطية الصحية، الدعم المباشر، التعليم القروي). وبهذا تتحول الزكاة إلى رافد تطوعي منظم يكمل الموارد العمومية دون أن يحل محلها، ويحقق في الآن ذاته الهدف الشرعي والاجتماعي من الزكاة.

إن الأمر الملكي بخصوص الزكاة يفتح أمام المغرب فرصة تاريخية ليقدم للعالم الإسلامي نموذجا رائدا يدمج بين المرجعية الدينية الأصيلة ومتطلبات الدولة الحديثة. فمأسسة الزكاة كرافعة استراتيجية لدولة الرعاية ستعزّز الأمن الروحي والاجتماعي، وتجسّد مقاصد الشريعة بروح عصرية وفاعلة، وتحوّل موردا شرعيا أصيلا إلى أداة حديثة لبناء الثقة، وتحقيق العدالة، وتقوية دولة الرعاية.