16 أغسطس 2025 / 03:03

الزاوية القادرية البودشيشية: حين يتحول الذكر إلى رأسمال استراتيجي للمغرب

إيمان بوحزامة

في المغرب، ليست الزوايا مجرّد فضاءات للذكر والتربية الروحية.إنها متى استقامت مرجعيتها وأحكمت صلتها بالمجتمع والدولة، تتحوّل إلى رافعة استقرار وأداة نفوذ ناعم.
من قرية مداغ الهادئة في بركان، خرجت الطريقة القادرية البودشيشية إلى خرائط إفريقيا وأوروبا، فصارت قبلةً لمريدين من جنسيات شتّى، ومدرسةً صوفية لها وزنها في معادلة الأمن الروحي للمملكة، وذراعًا ثقافيًا ودبلوماسيًا يشتغل بلغة القيم لا بلغة الإملاءات.

تفسير هذا الثِّقل يبدأ من شرعيةٍ ثلاثية: سندٌ صوفي متصل في الطريقة القادرية، وتاريخٌ من الانخراط الوطني إلى جانب العرش ومؤسسات الدولة، ثم حداثةٌ تنظيمية تربط السلوك الروحي بخدمة الجماعة. اذ ليس سرًّا أن مواسم الذِّكر الكبرى في مداغ تستقطب آلاف المريدين، وأن المدرسة البودشيشية نجحت في تقديم نموذجٍ أخلاقي وتربوي يوفّق بين الصفاء الروحي ومتطلبات العيش المشترك، لذلك اختزلها كثيرون في عبارة: “التصوّف حين يكون طُهرًا وفاعلية”. وحتى ان كنا نتحفّظ على بعض ممارساتها، لا يمكنه إنكار أنها كانت سببًا في تهذيب أشخاص كثر، وفتح طريق الهداية أمامهم.

أبعد من حدود المغرب، يشتغل هذا الرأسمال الروحي ضمن رؤيةٍ أوسع لصناعة النفوذ الهادئ، عبر تكوين الأئمة الأفارقة، تأسيس منصّاتٍ علمية عابرة للحدود، وتثبيت المرجعية المالكية الأشعرية ذات النفس الصوفي كخط دفاعٍ حضاري ضدّ التطرّف. هنا تتقاطع المدرسة البودشيشية مع دبلوماسيةٍ دينية راكمتها الرباط طوال عقدين، عبر بناء جسور مع نُخَبٍ دينية إفريقية، ونسج شبكاتٍ بشرية في أوروبا ضمن الجاليات، بحيث يصبح حضور المغرب الديني جزءًا من صورته السياسية والاقتصادية والأمنية. هذه ليست رفاهية رمزية، بل إنها سياسة نفوذ بالقدوة والاعتدال، تُنتج ثقة وتُقلّل الاحتكاك.

لكن، بعد رحيل الشيخ مولاي جمال الدين القادري البودشيشي، لم يكن الصراع الذي حاول شقّ الصف البودشيشي وليد الداخل وحده؛ بل كانت محاولة انقلاب خارجية محضة، وجدت في بعض الاختلافات الداخلية فرصةً لتقوية نفوذها، عبر فرض قيادة بديلة في خرقٍ واضح للوصية، بهدف السيطرة على القطب الصوفي الأبرز في المغرب.و لو نجحت تلك المحاولة، لأدّت إلى إضعاف الامتداد الدبلوماسي المغربي، وإرباك حضوره وهيمنته على الساحة الصوفية عالميًا، بما يحمله ذلك من مخاطر على صورة المغرب واستقراره الروحي.

حسم الموقف لصالح الشرعية لم يكن مجرّد قرار إداري أو ردّ فعل عاطفي؛ بل كان حفاظًا على رصيد إستراتيجي راكمته المملكة عبر سنوات. واليوم، يأتي الدكتور منير القادري البودشيشي، شابًا باحثًا، ليمسك بزمام هذه الأمانة. تفاؤلي هنا ليس في كونه الوريث المعيَّن فحسب، بل في كونه شخصية تفتح أبواب النقاش داخليًا وخارجيًا، وتبدوا قادرة على الجمع بين الوفاء للتراث والجرأة على تطويره. وهذا بالضبط ما تحتاجه الطريقة إذا أرادت أن تحافظ على إشعاعها وتحصّن نفسها من كل محاولات التشويش القادمة من الخارج.

الرهان اليوم أكبر من مسألة خلافة؛ إنه رهان على أن يبقى الذكر أعلى من الضجيج، وأن تحافظ الطريقة القادرية البودشيشية على موقعها كمدرسةٍ روحية موحِّدة، وذراعٍ دبلوماسية ناعمة، لا كساحةٍ لصراعات الطامحين.