محمد زاوي
يجب أن نتساءل أولا: من أين تستمد الروح وجودها في حكمة الشرق، بما هي فضاء أوسع لحكمة ابن قيم الجوزية؟
إن “الروح” التي طمستها التفسيرات المادية في الغرب الحديث، ما يزال الشرق متمسكا بها خارج مجال الجسم والفكر.
إن التصوف في حضارة الشرق، الاستنارة بلغة متصوفة الهند، لا يحصل إلا بالخروج من عالمي الجسم والفكر إلى عالم سابق عليهما هو عالم الروح، أما هما لتكوين لاحق.
وبغض النظر عن اختلاف هذا النظر مع نظر ابن تيمية في مسألة السابقية بين الروح والجسد (لأن ابن القيم يقول بسابقية الجسد في الخلق في “كتاب الروح”)؛ بغض النظر عن ذلك، فإن هذا العالم من الروح عالم مشرقي بامتياز، فضلا عن أن ابن القيم يميز بين روحين:
– روح هي روح الجسد ذات السمات المعروفة من كفر وإيمان، ومعصية وطاعة، وألم ولذة، مرض وصحة، وحزن وفرح، وعذاب ونعيم، وشقاء وسعودة. وهي التي “لا خلاف بين المسلمين… في أنها مخلوقة لله، خلقها وأنشأها، وكوّنها واخترعها؛ ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه”. (ابن قيم الجوزية، كتاب الروح، ص 424 وص 433)
– وروح أخرى هي روح الروح، التي بها تسمو الروح على دوافع الجسد وشهواته. و”نسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه”. إنها “الروح التي يؤيد الله بها أهل ولايته وطاعته”. (نفس المرجع، ص 620)
وإذا كان ابن القيم يميز بين هذين الروحين، فإنه لا يقصد بأولوية الخَلق الجسدي على الخلق الروحي إلا تلك الروح التي هي ملازمة للجسد، أما تلك التي تسمو به فهي في اعتقاده خالدة لا تموت بموت الجسد ولا تقبض بقبض “الروح” (النفس).
يقول ابن قيم الجوزية في هذا الخصوص: “أما الروح التي تتوفر وتقبض، فهي روح واحدة، وهي النفس. وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح”. (نفس المرجع، ص 619)
وليس عبثا أن أرواح بني آدم “لم تسم في القرآن إلا بالنفس” كما يقول ابن القيم (ص 446-447)؛ فكأنما تريد حكمة القرآن أن تميز النفس التي هي “روح الإنسان” عن “الروح” التي هي “روح الروح”، والتي يتفاوت فيها الناس بقدر ما يبذلونه من جهد في “الوصول”.
فـ”الناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت، فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بوهيميا”. (نفس المرجع، ص 621)
يتحدث ابن القيم عن فيوض خارجية يتلقفها الإنسان، يفتح لها مسامات منه لعله يجد بعضها في وجدانه، يكابد عوائق الزمن لعله يعرف منها بعض نفحاتها. وإذا كانت هذه الفيوض خارجية، فماذا يمنعها حتى لا تكون داخلية، ما دام الإنسان موجود في ذاته وفي عالمه الخارجي.
إن هذا النوع من الكشف ينبعث من الداخل بقدر ما يحصل من الخارج، ويداهم من الخارج بقدر ما يجود به الداخل.
“الأرواح” بهذا المعنى فيوض تملأ المجال، تعيقها الطوارئ (الجسم والفكر) حتى لا تظهر للناس. السلوك محاولة لرفع المعيقات والحوائل حتى يقع الاتصال ب”الأرواح”، تلك المخلوقات القديمة التي يمسها التاريخ.
قد لا يتفق ابن القيم مع بعض متصوفة الهند في تحديد موقع الروح (الداخل أم الخارج/ قبل الجسم أم بعده)، لكنه مثلهم يبحث عن “روح” يسمو إليه الجسم والفكر.
وعندما يتحدث كارل غوستاف يونغ عن “الروح” باعتبارها “قديما صامدا لم يتلاش في النفس (في اللاوعي) مع مرور الزمن”، فإنه لا يعدو أن يكون قد خاض غمار بحث عن تفسير لروح يستدعيها ابن القيم من الخارج أو يحسها متصوفة الهند في الداخل.. هذا “القديم” خلاق، عالم آخر يفتح بابا عرفانيا على الدين (الغيب). يلهم النفس لا محالة، بغض النظر عن مصدر هذا الإلهام، أ منها أم من خارجها؟!