كولاس دوفلو (Colas Duflo)
ترجمة يوسف اسحيردة
من بين أحسن الطرق التي كانت سائدة إبان عصر الأنوار من أجل نشر الأفكار الفلسفية، نجد غرسها في العقول من خلال روايات بورنوغرافية. فكرة إباحية أدت إلى التسامح الحديث.
“فينوس (آلهة الحب) في الدير” أو “المتدينة في زي قميص” هي واحدة من كلاسيكيات الرواية السرية. هذه الرواية التي نُشرت سنة 1683، ظلت تتناقلها الأيدي من تحت المعاطف طيلة القرن 18، وتمت باستمرار إعادة نشرها، تعديلها واستئنافها، وأحيانا اِختيرت لها عناوين أخرى من قبيل “انتصار الراهبات”، “الأخت المتنورة” أو “لذات الدير”…في نسختاها الأولى، نُسبت إلى شافيني دو لابغيتونييغ (chavigny de la bretonnière)، الذي ولد سنة 1658، وولج إلى الديانة في سن 18 سنة، ليَفِرَّ بعد ذلك بعشر سنوات من الدير، ويستقر في هولندا. كتب العديد من الروايات والكتيبات السياسية الساخرة ما بين سنتي 1681و 1685، قبل أن يتم اعتقاله بشكل مفاجئ من طرف شرطة لويس XIV ويتم سجنه لبقية حياته، أي العشرين سنة القادمة، في قفص خشبي بسجن مونت سان ميشال الرهيب(1).
من المتعة إلى الأخلاق
بعيدا كل البعد عن هذه النهاية الحزينة، تعرض الرواية حوارات فلسفية-إيروتيكية مُبهجة. في الحوار الأول، تستغل راهبتان جنح الظلام الليلي، وتتواجدان في نفس الغرفة من أجل الاستغراق في اللذة. بمجرد إشباع الرغبة وزوال الاضطراب الأول، سيراود القلق أقلهما تجربة بخصوص خلاصها الروحي. من وجهة نظر دينية، في حقيقة الأمر، يُوجد تحريم للذة البدنية، خصوصا إذا كانت بين امرأتين. وهكذا فقد كان لزاما على الأكثر تجربة بينهما، من أجل طمأنة الأخرى، أن تُشكك في الأحكام المسبقة الكاثوليكية والخرافات الدينية. المناقشة إذن تتناول الأوامر الإلهية والطبيعة: هل باستطاعة الله أن يُدين ما هو طبيعي؟ هو الذي خلق الأجساد والمتعة والحياة: هل من المعقول أن يرضى لنا بحياة العزوبية وسجن الأديرة؟ المناقشة تتناول أيضا الأخلاق: هل يجب على الأخلاق أن تنبع من أفكار رجال الدين المميتة أم يجب أن تقوم على أسس متعلقة بالطبيعة البشرية والتفاعلات الإنسانية؟ وهي تتناول أخيرا السياسة: لماذا يتم سجن كل هؤلاء الفتيات الصغيرات في أديرة، إن لم يكن ذلك من أجل خدمة مصالح العائلات التي لا ترغب في تبديد ثروتها؟
على هذا النحو انبثق جنس أدبي حقيقي جديد شكَّل أزهى أيام الطباعة السرية طيلة القرن 18: يتعلق الأمر بالرواية الإباحية بتطلع فلسفي، والتي تمزج في عمل واحد بين وصف – تَخِفُّ أو تزيد درجة حدته – المشاهد الجنسية والعروض والحوارات الفلسفية. أكثرها شَهرة كانت تحت عنوان “دوق مُغفل أو بواب آل شارترو ” (1741) و”تريزا الفيلسوفة” (1748). ديدرو الشاب نفسه جرب حظه مع هذا الجنس الأدبي من خلال رواية “الحلي الواشية” (1748) – والتي ساهمت إلى جانب ” رسالة حول العميان ” (1749)، في إلصاق تهمة التجديف به، وفي سجنه الوجيز ببرج فانسين. لكن العديد من الروايات الأخرى التي كانت على هذا المنوال الإباحي ظلت تتنقل بشكل سري: “مُذكرات سوزان، أخت د.ب.، بواب آل شارترو…”، ” نقيضة – تريزا أو جولييت الفيلسوفة”، ” رسائل غزلية وفلسفية بين أختين”..الخ. فقد قامت هذه الروايات بتموين تجارة الكتب “الفلسفية” التي قام المؤرخ روبيرت دانتون بإعادة رصد تَنَقُّلِهَا من خلال كتاب لذيذ(2).
قد يتعلق الأمر، بالنسبة لقارئ اليوم، بمجرد متون مُربكة ومُحيرة. ففي الظاهر، لا وجود لعلاقة بين وصف مشاهد جنسية والخُطَب الفلسفية. في المقابل، بالنسبة لقارئ القرن 18، الذي كان يَتَحَصَّل على الكتب الفلسفية الأكثر جرأة والكتب البورنوغرافية من عند نفس الشبكات السرية، فقد كانت تنتمي إلى نفس عالم الأدب المُحرم، ويجب أن تحظى بنفس جاذبية المنع والتحرر من الأحكام المسبقة. وبذلك يمكن البرهنة على أنها ساهمت، وربما أكثر من أبحاث الفلاسفة، في صياغة ونشر فكر الأنوار في مجتمع القرن 18. في حقل الفلسفة الأخلاقية، على وجه التحديد، شَكَّل هذا النوع من الروايات، في غالب الأحيان، مناسبة من أجل مساءلة العلاقات التي تربط بين الأخلاق والدين. بمناسبة اللقاء الغرامي، يتساءل أبطال الرواية حول القواعد الأخلاقية، وحول إمكانية تأسيس الأخلاق بناء على الطبيعة البشرية عوض الأحكام الدينية المسبقة : وبالتالي يبتكرون وجها جديدا للفضيلة المُعَلْمَنَة، والتي لا تعني الالتزام بطاعة تعاليم دين بعينه، بقدر ما تعني الخَيِرِيَّةَ، والشرف، والمنفعة الاجتماعية.
عندما يكون الله هو الطبيعة
رواية مثل ” تريزا الفيلسوفة “، والتي شَكَّلت واحدة من بين أكبر نجاحات النشر السري آنذاك، تذهب إلى حد تقديم درس متكامل حول الفلسفة الهرطقية. بعد أن تحررت تريزا من سطوة رجال الدين، راحت تنجز تربيتها الجنسية والفلسفية من خلال مشاهدة وسماع لقاءات حاميتها وعشيقها. وبالتالي، فالرواية تُجَاوِز بين وصف المشاهد الجنسية والحوارات الفلسفية.
مع مرور الصفحات، تتعلم تريزا التحرر من الشعور بالذنب المتعلق بالرغبة والجنس اللذان هما من صميم الطبيعة الإنسانية، لكنها تَتَلَقَّنُ أيضا، بشكل أساسي، فلسفة كان بالإمكان نعتها في ذلك الوقت ب “السبينوزية” ( الأمر الذي لا يعني بالضرورة قراءة حقيقية لأعمال سبنوزا، ولا حتى وفاءً كبيرا لفكره الأصيل). فتفهم بأنه لا وجود لحرية ميتافيزيقية، بما أننا محكومون كبقية الكائنات الطبيعية بتعاقب العلل والنتائج، وبأننا لا نختار الدوافع التي تحركنا، كما لا نختار انفعالاتنا. وتُدرك بأنه لا وجود لنفس روحية مختلفة عن الجسد وبمعزل عنه، بل إننا نَتَكون من جوهر واحد – وهذا ما يعني أنه علينا ألا نشغل تفكيرنا بمصير أرواحنا بعد الموت، وهو الأمر الذي يحررنا من خوف الموت. تتعلم تريزا أيضا، بأن الديانات هي نتاج بشري، من صنع سياسيين مَهَرَة من أجل إحكام قبضتهم على نفوس ضعيفة وخائفة. وفي الأخير تؤكد بأن الله هو الطبيعة. وهكذا بعد تحررها من أوهام الصبا، تخرج من ذلك بنمط سلوكي في الوجود قائم على احترام النظام الاجتماعي القائم، والتسامح، والخَيْرِيَةَ. الميتافيزيقا الربوبية تُنشئ أخلاقا مُعَلْمَنَة.
ما نلاحظه من خلال هذا المثال المميز، هو كالآتي: لم تكن كتابات الفلاسفة وأعمالهم وحدها من تضمنت، وبشكل حصري، أكثر أفكار عصر الأنوار جرأة. فهذه الأخيرة قد صِيغت ونُشرت، في نفس الوقت وعلى نطاق أوسع بكثير من خلال متون روايات بورنوغرافية لم يولها تاريخ الأفكار الاهتمام الذي تستحقه. ومع ذلك، فإنه أيضا في هذه الأعمال الدنيئة، ومن خلال احتفال بهيج بالتفكير والشهوانية، حيث نُشرت، من تحت المعاطف، أفكار الحرية والتسامح التي تُشكل أفكارنا اليوم.
ـــــــــــــــــــ
(1) Voir chavigny de la bretonniére, la religieuse en chemise et le cochon mitré, présentés et édité par Jean Sgard, publications de l’université de Saint-Etienne, 2009.
(2) Robert Darnton, Edition Er Sédition. L’univers de la littérature clandestine au 18e siècle, Gallimard, 1991.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7678