17 سبتمبر 2025 / 20:00

الرسالة الملكية السامية.. وثيقة تاريخية تضع السيرة النبوية في صلب المشروع الحضاري للأمة

الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
في خطوة ذات رمزية بالغة العمق، وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله تعالى، رسالة سامية إلى المجلس العلمي الأعلى بشأن إحياء الذكرى ال 1500 سنة على ميلاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، هذه الرسالة في الحقيقة لم تأت في سياق احتفال عابر أو مناسبة تقليدية؛ بل تحمل في طياتها رؤية استراتيجية ومقاصد روحية وفكرية وحضارية، تجعل من الذكرى النبوية محطة للتأمل وإعادة وصل الأمة بجذورها العريقة.

فالملك محمد السادس حفظه الله، وهو يضع هذه المبادرة تحت إشراف المؤسسة العلمية العليا في المملكة، يؤكد من جديد على مركزية المرجعية الدينية المغربية القائمة على الوسطية والاعتدال، ويمنحها بعداً يتجاوز الاحتفال الشكلي ليجعل منها ورشاً فكرياً وروحياً يفتح الأفق أمام قراءة متجددة معاصرة للسيرة النبوية، ويضع القيم المحمدية في صلب النقاش المجتمعي والإنساني.

إن التذكير بمرور خمسة عشر قرناً على ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ليس مجرد إحصاء زمني، بل هو دعوة إلى مساءلة الذات الجماعية: إلى أي مدى استطعنا أن نظل أوفياء لرسالة الرحمة والتعايش التي حملها الرسول صلى الله عليه وسلم؟، وإلى أي حد نقترب أو نبتعد عن روح الإسلام وهدي النبي العدنان الذي أرسله الله رحمة للعالمين .

وتبرز الرسالة الملكية في هذا السياق كوثيقة تاريخية ذات أبعاد استراتيجية، إذ تهدف إلى إعادة الاعتبار للبعد الأخلاقي والإنساني في السيرة النبوية، وإلى ترسيخ الوحدة الروحية والوطنية عبر جعل المناسبة إطاراً جامعاً لكل المغاربة، علماء ومثقفين ومواطنين، داخل الوطن وخارجه.

فقد أدخلت الرسالة الجالية المغربية في الخارج ضمن هذا النفَس الروحي، تأكيداً على أن المغاربة حيثما كانوا يظلون جزءاً لا يتجزأ من هذا الفضاء الإيماني المشترك، وأنهم شركاء في حمل الرسالة المحمدية وقيمها السمحة؛ بل إن للجالية دوراً محورياً في التعريف ب “الإسلام المغربي” الوسطي في أوروبا وأمريكا وأماكن وجودهم، حيث يشكلون جسراً حضارياً لنقل قيم التعايش والاعتدال، وللتصدي لمحاولات اختطاف صورة الإسلام وتشويهها، ولم تغفل الرسالة البعد الإفريقي، إذ إن المغرب ظل على امتداد تاريخه صلة وصل روحية وحضارية بين شمال القارة وجنوبها، من خلال روابط العلم والتصوف والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

وإدماج إفريقيا في هذا الأفق النبوي يعكس حرص المملكة على إشراك الشعوب الإفريقية في هذا الإحياء، بما يرسخ البعد الإفريقي للمغرب كعمق استراتيجي وديني، ويؤكد دوره في نشر الإسلام المعتدل بالقارة السمراء، حيث يمثل “الإسلام المغربي” نموذجاً ملهماً لمجتمعات كثيرة تواجه تحديات التطرف والانقسام.

كما أنها تسعى إلى إبراز البعد الكوني للرسالة النبوية في مواجهة موجات التطرف وخطابات الكراهية التي تسعى إلى اختزال الإسلام في صور مشوهة، وتؤكد على أن قيم “الإسلام المغربي” المعتدل يمكن أن تقدم للعالم نموذجاً في التدبير الديني القائم على العقلانية والاعتدال، ولا تقف مرامي الرسالة عند حدود الداخل المغربي، بل تنفتح على الفضاء الإقليمي والدولي، حيث يضع المغرب نفسه مرة أخرى في صدارة الدول الساعية إلى إعادة تقديم الإسلام في صورته الحقيقية، كدين رحمة وعدل وتوازن، قادر على الإسهام في معالجة أزمات العالم المعاصر.

إن الرسالة الملكية السامية لا تدعو فقط إلى تخليد ذكرى تاريخية، بل إلى استلهام درس حضاري وروحي عميق، قوامه أن الأمة التي تستلهم سيرة نبيها الكريم لا بد أن تجد في قيمه الكبرى – من رحمة واعتدال وتسامح – زاداً لمواجهة تحديات الحاضر وبناء مستقبل يليق بتاريخها وإرثها، وهكذا تتحول الذكرى إلى محطة للتجديد والتفكير، وإلى لحظة تاريخية تؤكد من جديد على دور المغرب كمرجعية دينية وفكرية في العالم الإسلامي، وكمحرك أساسي لحوار حضاري إنساني يضع القيم النبوية في خدمة الإنسان أينما كان.

ختاما، الرسالة الملكية السامية بشأن إحياء الذكرى الـ 1500 لميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مجرد إعلان ديني، بل هي مشروع حضاري شامل، يهدف إلى إعادة وصل الأمة بجذورها النبوية، وترسيخ الإسلام المعتدل كأنموذج عالمي، وإطلاق حوار إنساني واسع حول قيم الرحمة والعدل والتسامح في عالم ممزق تنخره الحروب والطائفية والمذهبية البغيضة..فهل نجعل من هذه الرسالة الملكية السامية طريقاً للمصالحة والسلام والوئام بين الأنام؟