الرحيق المختوم: بشراب أهل الصفا يفلح أهل الوفا
د. محمد غاني
كل منا يعرف كتاب الرحيق المختوم بحث في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام لعبد الرحمن المباركفوري.
ما يمكن أن يرتشفه قارئ هذا الكتاب هو ان يخرج بخلاصة في غاية الأهمية وهو ان المؤلف جعله في حلة قشيبة مكتوب برصانة بليغة تليق بمقام النبوة فشكل بحق جوهرة ثمينة من جواهر ما ألف في المقام النبوي الشريف.
مساهمة مني كباحث في التصوف والفكر الاسلامي احتفاء بمرور 15 قرنا من المولد النبوي الشريف وتماشيا مع مضمون الرسالة السامية التي وجهها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله للمجلس العلمي الأعلى، يطيب لي أن أشارك القراء أهمية شراب أهل المحبة المعنوي الذي يسقي قلوب المحبين والعارفين والعاشقين للجناب المحمدي الشريف في فتح ابواب الخير المعنوي على القلوب. اخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ.
وفهم هذا الحديث في نظرنا مستويات حسب ترقي العبد في فهم الدين
ففي مقام الاسلام يفهمه المسلم فهما سطحيا هو ان رحمة الله مقسومة على العباد من انس وجن ومن الهوام والبهائم فبها يتراحمون
فاذا ترقى لمقام الإيمان وذاق حلاوته علم يقينا ذوقيا أن لذة العسل الروحي وهي محبة الرسول الكريم بالصلاة والتسليم عليه بكثرة لا يمكن وصفها.
أما حتى إذا وفقه الله للترقي بتلك الصلوات على أفضل رسول كريم الى مقام الإحسان فصار بفضل الله وقوته يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه، فإن تلك الرحمات التي سوف يحس بها غدا يوم القيامة تفتح ابوابها له في هاته الحياة الدنيا. لان المصلي على النبي بكثرة هو الشكور حقا، فمن شكر الله، بادله المولى بشكر خير من شكره فيشكره العبد ويشكره مولاه حتى يتجوهر القلب شكرا ولا نهاية لأفضاله ونوالاته عز وجل.
حال في قصيدة سيدي عليّ بن عبد الله النُّمَيري الأندلسيُّ، المعروف بالششتري:
تشرب شراب اهل الصفا ***ترى العجائب
مع رجال المعرفة*** والخمر طيب
***************
ومن أجمل ما أنشد العارف بالله أبي مدين الغوث:
قد لاح لي ما غاب عنّي
وشملي مجموع ولا افتراق
جمعُ العوالم رُفِعَت عنّي
وضوء قلبي قد استفاق
تراني غائب عن كل أين
كأسُ المعاني حلوُ المذاق
لقد تبطّى ما كان مخفى
والكون كله طربت طيا
منّي عليّ دارت كؤوسي
من بعدِ موتي تراني حيّا
جاء في آي الذكر الحكيم من سورة الأعراف الآية 56: ان رحمة الله قريب من المحسنين.
وفي ذلك خير دليل على ما نرومه، فكلما ترقى العبد في ربط حواسه بعالم الغيب كلما كانت ظواهر الاشياء مجرد مفاتيح لعوالم المعنى.
فيكون شم الانف مفتاحا للمعراج من أجل تحقيق شم الارواح كما شم يعقوب عليه السلام قميص يوسف عليه السلام من مسافة لا يستهان بها.
ويضحى البصر مجرد مدخل لبصيرة ثاقبة لأهل الوفا يرون بها ما لا يرى الناظرين
جاء في قصيدة شهيد العشق الحلاج: قُلوبُ العاشِقينَ لَها عُيونٌ
تَرى ما لا يَراهُ الناظِرونا
وَأَلسِنَةٌ بِأَسرارٍ تُناجي
تَغيبُ عَنِ الكِرامِ الكاتِبينا
وَأَجنِحَةٌ تَطيرُ بغَيرِ ريشٍ
إِلى مَلَكوتِ رِبِّ العالِمينا
وَتَرتَعُ في رِياضِ القُدسِ طَوراً
وَتَشرَبُ مِن بِحارِ العارِفينا.