بقلم: اسامة البحري
ينقسم الارث السوسيولوجي الذي تناول الرابط لاجتماعي الى شقين كلاسيكي و معاصر ، و هو ما يضعنا امام براديغم مهم لفهم واقعنا الاجتماعي و خصوصا على ضوء التاثيرات التي طرأت عليه و على روابطه الاجتماعية ، تماما كما سبق و ان وقع بتاريخ الاوبئة في المغرب من تغييرات ، و التي لازال لها حضور نستشعره في الخطاب العام ، و الذي يحتفظ من خلاله على رواسب الماضي التي تشكل اساس بنيته.
وهذا ان دل فانه يدل على قدرة الاوبئة على خلخلة و بناء تصورات اجتماعية تظل محفورة في الذاكرة الجماعية ، و هذا ما تبينه لنا بعض الخطابات التي لازالنا نشهد حضورها داخل مجتمعاتنا، كبوكليب ” الله يعطيك بوكليب ” وباء التيفوس ” الله يعطيك التوفيس ” الخ ، وهذا ان دل كما اشار الى ذلك د زكرياء الابراهيمي فانه يدل على ” استمرار القيم الوبائية داخل عالم الامراض الحديثة 1 ” وخاصة في الخطاب العام .
ويظهر ذلك اساسا في المماثلة التي قدمها لنا دوسوسير بين الدال و المدلول ، فهي علاقة تنهل بالاساس من الثقافة ، فاللسان هو اجتماعي و ثقافي بالاساس و هذا ما اتفق عليه كل من د زكرياء الابراهيمي 2 و د عبد الغني منديب 3 ، و هو ان الصحة والتفاعل داخل المجتمع مجرد كلمة ، و تجد هذه الكلمة نطاقها و وضعيتها داخل النظام المعياري القيمي ، و هذا ما رصده د ربيع اوطال في تحول الفيروس زمن الكورونا الى النظام المعياري القيمي و الذي جعل من الكورونا جند من جنود الله ، و هذا ما جعل من افراد المجتمع يرفضون الاحترازات الصحية مؤمنين بان الحل لا يمكن ان يكون الا من المتعالي ، وهذا ما انعكس الى سلوكات ، من بينها التهليل اعلى السطوح داعيين الله لحمل الوباء 4 ، و هذا ان دل فانه يدل على الدلالة التي يضفيها الفرد الفاعل او اللاعب حسب تعبير بورديو ، و الذي يكون مرتبطا اساسا بالمعيار الثقافي للحقل الاجتماعي الذي تواجد فيه.
ولهذا فان المعنى الذي كان يضفيه الافراد على اوبئة من قبيل بوكليب او التوفيس يخالف جذريا المنطق الذي كان ينتجه الطب في تفسير الطاعون و التيفوس ، و هذه الثنائية كما اشار الى ذلك د عبد الهادي الحلحولي بين الطب الشعبي و الطب الحديث ، هي ثنائية دائمة الصراع كانت و لازالت مستمرة و هي ما تسعى الاثنوطبية في استمرار لابرازه ، و بهذا فان ما انطبق على الطاعون وباقي الأوبئة بتاريخ المغرب ، تعيد احيائه الكورونا من جديد ، و هذا ما بينه د عبد الهادي الحلحولي ، و هو ان الكورونا ، “اعادت احياء اهمية النظرية الفيبرية حول النظرة الى الكون : طبيعة – علاقة – ثقافة 5 ” ، فكيف حافظ اذن المجتمع المغربي زمن الكورونا على نسيجه و على روابطه الاجتماعية و ما الوسائط التي تدخلت في ذلك ؟
1 – الاطار النظري للرابط الاجتماعي:
يحظى حضور الرابط الاجتماعي داخل اطروحة إميل دوركهايم، بمكانة مركزية منذ كتاباته الاولى و خصوصا، تقسيم العمل الاجتماعي، فبالنسبة له لتقسيم العمل الاجتماعي دور كمالي في بناء نسيح الروابط الاجتماعية بين الافراد و هذا ما عبر عنه قائلا ” وظيفة تقسيم العمل كمالي، ان حاجات النظام و الانسجام و التعاون الاجتماعي تعتبر عادة من الامور الخلقية 6 “، فالتضامن و الاخلاق اذن حسب دوركهايم تنسج لنا روابط توحد المجتمع فيما بينه.
ويقسم لنا دوركهايهم التضامن الى نوعين، مرتبط بنوعية المجتمع، فالمجتمعات التقليدية يحكمها تضامن آلي، و يعرفه دوركهايم بالفصل الثاني من عمل تقسيم العمل الاجتماعي ، على أنه ” انسجام يجمع بين عناصر الاجسام بعضها الى بعض 7″ و حينما يفعل هذا التضامن فعله فان شخصيتنا تنمحي ، اذا صح هذا القول اذ لا نكون حينها نحن نحن ، بل نكون الكائن الاجتماعي 8″ وبهذا فانه يكون هنالك تطابق بين الافراد والمجتمع على مستواهم الاجتماعي و النفسي و الذهني ، مما يخلق بينهم روابط اجتماعية ناتجة عن وعي جمعي يوحد الافراد فيما بينهم ، فقوة هذا الوعي كما يقول د زكرياء ابراهيمي ، تتضح لنا جليا في قدرته على توطيد المعايير و القيم ، مما يجعل من كل مخالف له ، يتعرض الى اشد العقوبات ، و هذا ما بينه دوركهايم في الفصل الاول من عمله تقسيم العمل الاجتماعي.
اذن ” فالمجتمعات ذات التضامن الالي، تقوم على حالة قوية من الوعي الجمعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، اي باعتباره كل منظم، من المعتقدات و الأحاسيس المشتركة بين كل أعضاء الجماعة 9″ فهو عبر اختراقه للاوعية الفردية، يخلق روابط اجتماعية مستنبطة من الوعي الجمعي ، و التي تصبح حسب تعبير دوركهايم منقوشة داخل الضمائر الفردية للافراد ، و هذا ما يجعلهم يتضامنون ، اما النوع الثاني كما يقول دوركهايم بالفصل الثالث من عمله تقسيم العمل ، و هو التضامن العضوي، فانه ” كلما تقدمنا في مدارج التطور الاجتماعي ، كلما يزداد التضامن الالي في التراخي، فالراوابط الاجتماعية التي تنشأ عن ذلك تتغير تبعا لشروط 10 ” تتلخص في فكرة ، أنه ” كلما ازدادت قواعد السلوك و التفكير شمولا و غموضا ، ازدادت الى التدخل الفردي 11″ وهذا ما ينتج ” تكاثر للميول المتنافرة على حسب انسجام الاجتماعي و التناغم بين الحركات 12″ و يتعلق الامر هنا بالمجتمع الصناعي ، الذي يطغى عليه اختلاف المهن ، و هذا ما يجعلهم مضطرون الى الدخول في رابط المصلحة و الذي لا يستغي فيه الفرد عن الاخر ، و هذا الرابط له علاقة وطيدة بتقسيم العمل الاجتماعي ، فمنه يتمخض الرابط الاجتماعي، كما ان في خضم الفردانية التي يعيشها الانسان المعاصر ، يزداد هذا الرابط الاحتماعي قوة.
وبهذا فان تقسيم العمل الاجتماعي بالمجتمع الحديث، يغذوا بمثابة الضمير الجمعي الخاص بالمجتمع التقليدي ، ولكن تكمن ازمة الرابط الاجتماعي حسب دوركهايم في حالة اللامعيارية ، الانوميا ؛ و التي هي غياب القاعدة المنظمة لسلوك الافراد، فالانوميا باعتبارها خللا وظيفيا ناتجا عن تضامن عضوي ناقص تظهر عندما يعجز المجتمع عن توفير اطار مستقر و منتظم و منسجم لتقسيم العمل و تحديدا أدوار كل واحد داخل النظام و المعايير المحددة لهذه الادوار 13″، وقد فتحت الاطروحة الدوركهايمية هامشا كبيرا لاحد السوسيولوجيين المعاصرين الذي يعود له الفضل في احياء و تعديل الاطروحة الدوركهايمية على واقعنا المعاصر، و هذا ما تقدم به سيرج بوغام في عمله ” الرابط الاجتماعي ” فمن خلال مصدري الرابط الاجتماعي و هما الحماية والاعتراف ، اقترح اربع روابط اجتماعية ، اولا رابط الانتساب و المتمثل في الابوة و العلاقة مع الاسرة ثم رابط المشاركة المختارة ، و هو رابط نجده في علاقات الصداقة ” فكل الافراد يسعون الى بناء و اعادة بناء و تشكيل هذا الرابط 14″.
زد على ذلك رابط المشاركة العضوية و هو الرابط الذي تحدثنا انفا حول تقسيم العمل ، و هو ان العمل يتطلب تقسيما و تضامنا، علاوة على ذلك رابط المواطنة و الذي يرطبنا بنظامنا المعياري ، و بهذا فان هذه الروابط الاجتماعية حسب بوغام تساهم جمعاء في دور الادماجية 15 ، فهي اذن من تساهم في توازن المجتمع بكون كل موحد ، ، و رغم اختلاف اصناف هذه الروابط ” اسرة / صداقة / مواطنة ” الا انها حسب بوغام تخلق خاصية الاعتراف و الحماية .
2 الرابط الاجتماعي زمن الكورونا
فكلما كان الفرد كما قال د عبد الهادي الحلحولي يشعر بالاعتراف داخل الاسرة و جماعة الرفاق و الدولة كلما تعززت له خاصية الحماية ، و هذا ما لاحظناه زمن الكورونا فقد تعزز رابط الحماية و الاعتراف في بداية الجائحة ، من حضور للدعم من طرف الدولة و هذا ما عزز رابط المواطنة ، لكن زمن الكورونا لاحظنا ان بعض الروابط من قبيل رابط الصداقة قد غيبه حضور الاحترازات الصحية و من بينها الحجر الصحي ،و بهذا فقد غير الفرد المواطن موطن اقامته و خصوصا الشباب “، حيث اصبحت الاقامة الدائمة على شبكات التواصل الاجتماعية 16”.
وقد رصدت بعض الدراسات الاثنوغرافية داخل المجتمع المغربي ان الشباب الذين لا يتسعملون شبكات التواصل الاجتماعية في المناطق الهامشية ، لم يتقبلوا فكرة الحجر الصحي ، و قد لوحظ انهم كانوا يخترقون الحجر الصحي في استمرار ، بغيية احياء الروابط الاجتماعية ، كما اننا لاحظا ان في المجالات الحضرية التي فرضت الحجر الصحي بصرامة ، انها لم تترك مجالا للافراد الا لتحويل الاجساد و الالتقاء من ممارسة اجتماعية واقعية تلى ممارسة رقمية فقد قدر مستخدمي موقع الفايسبوك حينها ب 22 مليار مستخدم يوميا ، كما انه يتم انشاء 5 حسابات على الفايسبوك كل ثانية ، اما الانستغرام فاكثر من 800 مليون مستخدم شهريا ، و يقدر مستخدمي الواتساب الى نحو 700 مليون مستخدم شهريا ، اي ما يقارب 320 مليون مستخدم يوميا.
وقد لاحظنا في هذا التحول الى الرقمي انتقال ايضا من النحن الاجتماعي الى النحن الافتراضي، وقد سجلنا هنا العديد من الهشتاغات التي ظهرت بقوة زمن الكورونا ، و التي عبرت عن تعزز رابط المواطنة ، اما رابط المشاركة العضوية فقد لاحظنا العديد من اللايفات في شهر رمضان ، لاناس تطوعوا من اجل اقامة صلاة التراويح ، اما المشاركة المنتقاة فقد سجلنا تعزز هذا الرابط داخل الاسر خاصة عبر الاتصالات بالفيديو ، و خصوصا في صفوف الشباب و الشابات ، و هذا يعبر عن بعض التغيرات التي حققها الفيروس في رابط المشاركة المنتقاة ، حيث تقبل اولياء الامور زمن فترة التعليم عن بعد الحوارات الثتائية بين الشباب و الشابات ، عبر اتصالات بالفيديو او اتصالات عادية.
وهذا ما نلاحظه لازال ساريا الى حد الان فقد غير ذلك الاتحاد الذي طرأ بين الابناء و الاباء و الامهات العديد في طبيعة فهمنا لبعض الروابط الاجتماعية، فقد اصبح الان داخل العديد من الاسر المغربية ، رابط الصداقة بين الشباب و الشابات ، و حديثهم الثنائي عبر اتصالات فيديو بالواتساب مسموحا ، كما ان رابط المواطنة قد تعزز عبر العديد من الوقفات التضامنية التي شهدناها زمن الكورونا و التي لازلنا نرى امتداداتها في ابسط المجموعة ، فسجلنا مؤخرا ، حديثا عن التعليم عن بعد داخل بعض المجموعات التي تضامن فيها اعضاء المجموعة بهشتاغ نريد الدراسة الحضورية ، كما اننا سجلنا ايضا امتداد بعض الممارسات التي كانت زمن كورونا بين الاصدقاء ، و من بينها jeux en ligne و التي كما لاحظنا داخل المقاهي انه رغم عودة الروابط الاجتماعية الى واقعها الا اننا لازلنا نلاحظ الشباب و الشابات قد نقلوا لعية بارشيسي على سبيل المثال ، من لعبتها الواقعية التي كانت تلعب على الطاولة قبل الكورونا الى كل لاعب افتراضي على الهاتف رغم ان الذوات قد اجتمعت من جديد ، و هذا ان دل فانه يدل على ان زمن الكورونا قد غير و اعاد تعزيز و بناء الروابط الاجتماعية داخل المجتمع المغربي .
ـــــــــــــــــــــــ
المراجع :
1- زكرياء الابراهيمي – الصحة و المجتمع – ص : 148
2- نفس المرجع – الفصل الثاني : الثقافة محدد اجتماعي للصحة
3- عبد الغني منديب – الدين و المجتمع – ص : 120
4- جائحة كوفيد 19 و اثارها الاجتماعية و التربوية كتاب جماعي – تنسيق ربيع اوطال – ص: 97
5- مداخلة للدكتور عبد الهادي الحلحولي – كورونا و مسرحية الالم و العلاج – نقلها اسامة البحري
6- اميل دوركهايم – تقسيم العمل الاجتماعي – ص : 79
7- نفس المرجع – ص : 101
8- نفس المرجع – ص : 102
9- زكرياء الابراهيمي – اميل دوركهايم و التأسيس السوسيولوجي للحداثة ص : 10
10 – اميل دوركهايم – تقسيم العمل الاجتماعي – ص : 177
11 – نفس المرجع – نفس الصفحة
12 – نفس المرجع – ص : 178
13 – خديحة الهلالي – الرابط الاجتماعي و كورونا – دينبريس
14 – عبد الهادي الحلحولي – الرابط الاجتماعي على ضوء فيروس كورونا
15 – سيرج بوغام – الرابط الاجتماعي – ترجمة اسامة البحري
16 – الوباء في المدينة تنسيق ادريس ايتحلو – ص : 170
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15671