9 سبتمبر 2025 / 11:21

الدين والسياسة: وصل لم يكتمل وفصل لم يتحقق

ما زال في عالمنا العربي والإسلامي من يكرر مقولات مسكوكة عن ضرورة الفصل التام بين الدين والسياسة، وكأنها مسلمات لا يأتيها الشك، وحجتهم في ذلك أن التجربة الغربية أثبتت حتمية هذا المسار، وأن التحديث لا يكتمل إلا بإقصاء الدين عن المجال العام.

ويستند هذا التصور إلى ميراث فلسفي غربي ممتد منذ عصر الأنوار، حين رسمت قطيعة مع المرجعية الدينية (الكنيسة)، ورفع لواء العقل والعلم بوصفهما الطريق الأوحد للنهضة، في مقابل تهميش الإيمان والغيب.

لكن المشهد الراهن يكشف عن مفارقة لافتة: النزعة الدينية تعود بقوة إلى قلب المجال العام في أعتى الديمقراطيات الغربية (لا اقصد البناء القانوني للدولة الغربية).

خذوا مثالا من واشنطن، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب شدد، في خطاب ألقاه أمس بمتحف الكتاب المقدس، على أن قوة الولايات المتحدة تكمن في “متانة إيمانها”، مؤكدا أن عبارة “أمة تحت رعاية الله” هي ركيزة ثابتة في الهوية الوطنية الأمريكية.

بل أطلق مبادرة “أمريكا تصلي” داعيا الملايين إلى التوحد في الصلاة من أجل الأمة، ومبشرا بتعليمات جديدة تضمن حق الصلاة في المدارس (قراة الوصايا العشر في الأقسام المدرسية)، في إشارة واضحة إلى أن الدين بات في نظره مكونا ضروريا لوحدة المجتمع واستمرار الدولة.

وتشير الأرقام بوضوح إلى هذا التحول، فأغلب سكان العالم ما زالوا مرتبطين بجماعات دينية، بالتوازي مع تنامي أنماط جديدة من “الروحانية”، وازدياد انفتاح شخصيات فكرية وعلمانية بارزة على القيم الدينية والرصيد الروحي.

وتكمن المفارقة في أن بعض الخطاب العربي ـ الإسلامي المطالب بالفصل الصارم بين الدين والسياسة يستند إلى نموذج غربي لم يعد قائما بالشكل الذي يتصوره أصحابه، فالغرب نفسه يعيد اكتشاف الدين كطاقة روحية واجتماعية وسياسية تسهم في إعادة تشكيل المجال العام.

وإذا كان ترامب قد جعل من الدين ركيزة في برنامجه السياسي، فإن الهند تعرف صعود القومية الهندوسية، وإفريقيا تشهد تمددا متسارعا للكنائس البروتستانتية والإنجيلية (بغض النظر عن توسع الاسلام السني والشيعي والصوفي).

بينما العالم الإسلامي يعيش تجاذبات واختلافات عميقة بين رؤى ومرجعيات متباينة للإسلام، تتصارع على تشكيل واقعه وصياغة ملامح مستقبله، في ظل سياقات إقليمية ودولية تزيد هذه الانقسامات تعقيدا وحدة.

لهذا لم يعد السؤال المطروح ـ في تصورنا ـ هو: هل يجب فصل السياسة عن الدين أو فصل الدين عن السياسة؟

وإنما كيف يمكن إدارة أو تدبير هذا الحضور المتجدد للدين، بحيث يوظف لخدمة الحرية والعدالة والتسامح، ذاك هو التحدي الأكبر أمامنا في عالم يعيد بسرعة، وربما بعنف، تشكيل العلاقة بين المقدس والسياسي.