ذ. محمد جناي
لعل قيمة الدين في الاجتماع الإنساني، أنه يوفر للإنسان القاعدة الفكرية التي تفسر الظواهر الكونية والإنسانية بالاستناد إلى القوة الإلهية الخالقة القادرة والحكيمة، التي ركزت الوجود في كل تفاصيله على أسس ثابتة في قوانينها ،متوازنة في حركتها،ممايسمى السنن الإلهية ، فانطلاقا من هذه القاعدة ،يمتد الإحساس بهذه الوحدة إلى داخل المجتمع الإنساني الذي يعيش كل أفراده في نطاق الرابطة الإنسانية التي تجمع كل تنوعات الناس في وحدة يلتقون عليها ،وفي دور يتكاملون فيه ولذلك، لايمثل التنوع تباينا ،بل يمثل تكاملا في الخصوصيات ،حيث ينضم بعضها إلى البعض الآخر، من أجل الإعمار والتكامل الإنساني ،وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم ،في تأكيده وحدة عنصر الخلق وتنوع خصائص الإنسان :(( يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ )) الحجرات الآية 13 ،فالتنوع هو الوسيلة الفضلى للتعارف ، لأنه يفضي إلى انجذاب الإنسان إلى الإنسان الآخر ، لبناء علاقات تسد الحاجات الخاصة ،وتتبادل الإفادة من الطاقات المتنوعة .
وإذا كان الإسلام يركز على العلاقة الإنسانية في دائرة التعارف الحيوي، فإنه يثير الجانب الحركي في هذه العلاقة، ليدعو الجميع إلى التعاون على البر والتقوى، بحيث يتكامل الجميع في تحقيق هذين العنوانين الكبيرين في الواقع، اللذين يمثلان الخير كله في علاقة الإنسان بالإنسان في جهة تعزيز العدل والتكافل الاجتماعي، وفي علاقة الإنسان المنفتحة على الله، في دائرة السلوك الفردي والاجتماعي، على أساس الضوابط الروحية والعملية ،وليبعدهم عن التعاون على الإثم والعدوان، اللذين يمثلان الشر في نطاقه الفكري والحركي، وقهر الإنسان الآخر في كل أبعاده وأوضاعه، وهكذا نجد الإسلام يؤكد رفض الركون إلى الظالم، والسكوت على فعل المنكر وترك المعروف، مايجعل للرقابة الاجتماعية دورا إلى جانب الرقابة الرسمية، ومن ثم فالدين في طبيعته الروحية والعقائدية، يملك العناصر التي تترك تأثيرها الإيجابي في عملية تكتمل الاجتماع الإنساني.
في المقابل ثمة من يعتبر أن الدين بفعل ثباته يتحول إلى عنصر يحافظ على الأوضاع القائمة، بما يؤمن مصالح أصحاب الامتيازات، ويمنع قوى الاحتجاج من أن تتطور وتصبح من قوى التغيير الاجتماعي، فلا يملك المحرومون عندها حرية الحركة وفاعلية الاحتجاج اللتين تتطوران وتنضجان عملية الوعي الحركي الذي يطلق الطاقات ويدفع إلى التغيير.
ولكن هذا الأمر ليس دقيقا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة تندرج في إطار الوظيفة الدينية للمؤمن، والتي تمثل إلتزاما دينيا للفرد والمجتمع، بحيث يعتبر إهماله معصية دينية، كما هي المعصية الأخرى في إهمال الواجبات العبادية، ما يجعل من المسألة الاجتماعية في تصحيح الفاسد ،وتقويم المنحرف، وردع الظلم، وإسقاط الاستكبار، مسألة دينية حيوية، يمثل الالتزام الفكري والعملي بها واجبا شرعيا على غرار الالتزام بالواجبات العبادية.
إن المضمون الديني يقف بقوة ليوجه المؤمن إلى أن يعيش في هاجس الملاحقة لكل تفاصيل الواقع ومفرداته، بحيث يعيش حالة القلق الإيجابي تجاه القضايا الكبرى أو القضايا الجزئية، ليرصد الضعف هنا والقوة هناك،والانحراف في هذا الجانب، والاستقامة في ذلك، مايجعل من هذا الإنسان الفرد والمجتمع، إنسانا يزرع وينمي بذرة الاحتجاج وحركية الثورة، ويعمل على إنضاج قوى التغيير وتطويرها، من خلال المسؤولية الدينية، حتى تساهم في تبديل النظام الاجتماعي نحو الأفضل.
إن الدين قد يكون ثابتا في خطوطه العقيدية والشرعية، ولكنه متحرك في فعاليته الاجتماعية ،على مستوى التطبيق العملي، في موضوع الاستقامة والانحراف، فهو يدعو إلى التغيير الداخلي للوصول إلى التغيير الخارجي، بحيث يدفع الإنسان إلى ثورة على ذاته لتغيير محتواه النفسي الداخلي ،الذي يتمثل في فكره وخطه العملي، ويدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حركة الواقع الخارجي، كما في قوله تعالى: ” وَلْتَكُن مِّنكُمُۥٓ أُمَّةٞ يَدْعُونَ إِلَي اَ۬لْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُفْلِحُونَۖ” سورة آل عمران الآية : 104.
ومن هنا، بل من مجموع التعاليم الدينية نعرف، أن المقولة التي قالها (كارل ماركس) مؤسس الفلسفة الشيوعية، من أن (الدين أفيون الشعوب) ليس بصحيح تماما، فأما الشيوعية والدول الراديكالية، فقد اتخذت أسلوب القمع والتنكيل والتخويف بإزاء ذلك، وأما الدول الرأسمالية، فقد ألهت شعوبها والشعوب الأخرى بالمال والمشاكل الاقتصادية، وبالبرامج الرياضية والخلاعية وغير ذلك، مما أدى إلى أن لاتحس الشعوب بمشاكلها الواقعية وآلامهم الأساسية، وليس في الدين الحق شيء من هذا القبيل، فإن كل ما فعلوه هو محرم في الدين، ولاسبيل إلى مشروعية إيجاده.
وكارل ماركس أو غيره من الدعاة الأولين للشيوعية ربما كانوا معذورين في ثورتهم على الدين ورجاله، بسبب الملابسات الخاصة التي واجهتهم هناك فقد كان الإقطاع يمثل أبشع أدواره في أوربا، وفي روسيا بوجه خاص، حيث يموت الألوف جوعا كل عام، ويموت الملايين بالسل وغيره من الأمراض، والصقيع يقضي على عدد مماثل، كل ذلك والإقطاعيون يلغون في دماء أولئك الكادحين، ويعيشون في ترف فاجر يستمتعون فيه بكل ما يخطر على القلب من ألوان المتاع، فإذا خطر للكادحين أن يرفعوا رؤوسهم، بل إذا خطر لهم أن يحسوا مجرد إحساس بالظلم الذين يعيشون فيه، أسرع رجال الدين يقولون لهم: “من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فاترك له الثواب أيضا”. وذهبوا يخدرونهم عن ثورتهم أو إحساسهم بالألم، بما يمنونهم به من نعيم الآخرة الذي أعد للصابرين على الظلم، والراضين بالشقاء،ومن هنا كان الدين عدواحقيقيا للشعب هناك، وكانت قولته في محلها تلك التي قالها كارل ماركس: “الدين أفيون الشعوب”… هناك!
نعم يوجد عندنا في بعض الاتجاهات الإسلامية مايخالف ذلك، فقد ورد في صحيح مسلم وغيره مايدل على وجوب طاعة الحاكم ،وإن كان ظالما، ووجوب المحافظة على حكمه والخضوع له وإن كان فاسقا ، وفي بعض الأخبار هناك (لا ماأقامو الصلاة) أي ماداموا على ظاهر الإسلام ، وفي بعضها وجوب الطاعة (حتى لو ضرب ظهرك أو أخذ مالك) ونحو ذلك ،وسياقها يدل على أنه حتى لو فعل ذلك عن طريق الظلم والإعتداء ،فإنه يجب طاعته والحفاظ عليه.
وهذا اتجاه شاذ في الدين، وهو ناشئ من فهم معين لقوله تعالى :(( يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِے شَےْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَي اَ۬للَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِۖ ذَٰلِكَ خَيْرٞ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاًۖ (58) ) ، على أن المراد من أولي الأمر كل حاكم مسلم مهما كانت صفاته وعمله، ولعل ماركس قد اعتمد على مثل هذه الإتجاهات المنسوبة إلى الدين ، في الطعن في الدين ،والدين منها براء.
وفي سياق ذلك ، لايمكن أن تصدق المقولة الماركسية حول الدين بأنه أفيون الشعوب، أو أنه مجموعة من المنظومات القيمية التي تمنع الصراع البناء ، وتحد من التجديد والثورة ، لأننا نرى أن الدين يمثل عنصرا حركيا فاعلا في الثورة على الظلم في الداخل ، وعلى الاستكبار في الخارج ، فمواجهة الظلم والاستكبار قضية عميقة الصلة بالالتزام الديني ، حتى إن القيمة الدينية ترى في الحياد بين العدل والظلم ، وبين المستكبرين والمستضعفين ، قيمة سلبية ، فالساكت عن الحق هو شيطان أخرس ، وترى في الالتزام بقضايا الحق والعدل قيمة إيجابية :(( كن للظالم خصما وللمظلومين عونا)).
وختاما ، يتضح لنا أن( كارل ماركس) حاول من خلالها أي مقولته (الدين أفيون الشعوب ) بيان أن الأديان هي بمثابة «المخدر» للناس، وتدفعهم لنسيان المطالبة بحقوقهم أمام سطوة أصحاب المال والنفوذ،فمقولته كانت في إطار الترويج للشيوعية كبديل للأديان، لكن الواقع يقول وللأسف بأن ما يمنح الأفكار البديلة للأديان للانتشار والتأثير، هو الوضع المؤسف الذي وصل له التسويق لهذه الأديان، فهي ليست أبداً «أفيوناً» يخدر الناس، كما يدعي ماركس، بل «أفيون الشعوب» هم أولئك الذين يستغلون الأديان ليحولوها لأفيون يسيطرون من خلالها على الناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1):الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل ،المؤلف محمد حسين فضل الله، المركز الثقافي العربي -الدار البيضاء المغرب-.
(2): فقه الأخلاق الجزء الثاني ، المؤلف محمد الصدر ، دار مكتبة البصائر بيروت لبنان.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=12719