الدكتور عبد المجيد الصغير ـ أستاذ أستاذ الفلسفة والتصوف والفكر الإسلامي
دحضا لدعاوى المتطاولين على التاريخ، وادعائهم الانتساب إلى البحث العلمي الأكاديمي، ودوران عملهم على هدف أساسي هو ادعاء تأخر تدوين القرآن الكريم إلى القرن الثامن الهجري أو العاشر، وليس هناك أسهل من دحض هذا الادعاء، بالوقوف على أقدم كتب تفسير القرآن، والتي ترجع إلى القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني، وبعضها موجود بيننا اليوم، وهي تتناول تفسير القرآن الكريم من فاتحة المصحف إلى آخر سورة الناس، فالرجوع إلى كتاب “الأشباه والنظائر” لمقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150 ه، وإلى كتاب “معاني القرآن” للفراء الذي ألفه سنة 204ه، في حين ألَّف أبو عبيدة بن المثنى كتابه “مجاز القرآن”، سنة 188ه، وقد وصل إلينا كتابه هذا كاملا، ولنرجع إلى كتاب “الحوادث والبيع” لأبي بكر الطرطوشي، حيث يورد صاحبه العديد من الأخبار حول شيوع حفظ القرآن، والعناية بكتابته في عصر الإمام مالك، الذي أخذ القرآن عن شيوخ له عاشوا في القرن الأول.
لذا، وعلاوة على الشواهد التاريخية العديدة الدالة على حضور القرآن متنا يحفظ، ويتلى، ويتعبد به، ومصدرا للتشريع ومرجعا لتدبير الاختلاف… فقد بات “من المعروف، على حد قول الدكتورة زينب عبد العزيز، أن ثبات النص القرآني منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أكثر الأمور التي تثير النفوس المريضة في الغرب، ويجاهدون منذ بداية انتشاره حتى يومنا هذا النيل منه” (1).
يبدو لنا مع “قرآن المؤرخين” أننا لسنا قطعا أمام “قراءة جديدة”، أو منهجية مبتكرة في دراسة الإسلام، بقدر ما نحن أمام “إعادة تجميع” كل الطروحات الكنسية القديمة، والتنصيرية والاستشراقية الحديثة والمعاصرة المواكبة للحملات الاستعمارية، والطروحات الإلحادية المتربصة بالأديان، فلا جديد يلاحظ في هذا العمل المليء بالأوراق المملوءة الايديولوجيات المتلاطمة، كنسية ويمينية وإلحادية معروفة.
لكن يبقى تدبير توقيت إخراج هذا العمل التجميعي التلفيقي في هذه الظرفية تحديدا، ونعتقد أن هذا العمل جاء مستجيبا لخطة استراتيجية جديدة، سبق أن دعا إليها أحد القساوسة الفرنسيين علنا على وسائل التواصل الاجتماعي، ولقيت استجابة سواء من اليمين الفرنسي المتطرف، أو من العلمانيين المتطرفين على السواء، خطة أو استراتيجية تستهدف بوضوح العمل إسكات صوت الإسلام في العصر الحديث، خاصة في أكثر التجمعات المسلمة في أوروبا، “فرنسا”، ولو تطلب الأمر إقامة ما يشبه محاكم التفتيش في القرون الوسطى، كما يتوضح ذلك من القوانين التطبيقية على الإسلام والمسلمين في المدة الأخيرة بفرنسا. كل ذلك يستهدف بوضوح وضع حواجز بين الأوروبيين وسماع صوت الإسلام.
لهذا فإني لا أستبعد أن تكون مطاردة بعض الأصوات الإسلامية ذائعة الصيت في فرنسا والهند وحتى في مصر، تحت ذرائع واهمة، مختلقة، كالاغتصاب والإرهاب أو المس بالأمن العام، فإننا تندرج ضمن نفس استراتيجية أصحاب “قرآن المؤرخين”.
وإني على يقين أن الحاقدين على الإسلام اليوم، سواء كانوا من متطرفي العلمانية، أو من متعصبي الكنيسة، أو من القوميين الشوفينيين، لا زالوا يعانون من ذلك “الوعي الشقي”، المتمثل في ضياع أصول “الكتاب المقدس”، فلم يبق لهم من سلاح سوى جر القرآن الكريم ليكون مصيره مصير “كتابهم المقدس”، ليعمنا جميعا ذلك “الوعي الشقي” بضياع كل الأديان، وينقطع كل حبل متين يشد الإنسان إلى خالقه.
ومن الغريب حقا أن تنخرط الكنيسة الكاثوليكية تحديدا في هذه الاستراتيجية البئيسة، اللاعلمية، وتضع يدها في يد الإلحاد المعادي لكل الأديان…
ثم بات مؤكدا أنه لفهم مشروع “قرآن المؤرخين” أن نضعه في سياق ما (يعتمل) اليوم داخل الدولة الفرنسية من تجييش كل إمكانياتها الأمنية والقانونية والتشريعية لمهاجمة الإسلام، والتضييق على المسلمين تضييقا يذّكرنا بمحاكم التفتيش في إسبانيا القرون الوسطى.
فأملنا أن يكون ظهور مثل هذه الأعمال الإيديولوجية فرصة يغتنمها الأكاديميون المتخصصون في الدراسات القرآنية في العالم الإسلامي، بل وفي العالم الغربي أيضا، لأجل مزيد من تعميق معرفتنا العلمية بالإسلام، ولدين الإسلام، دين جعل من العلم ومن طلب الحق سبيلا وبابا للولوج إلى رحاب الإيمان.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ ز ينب عبد العزيز: “تنصير العالم: مناقشة لخطاب البابا يوحنا…” ص: 81.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13333