نشر الدكتور معتز الخطيب-حفظه الله ورعاه- على صفحته مقالا يحمل نفس العنوان يناقش فيه هذه المسألة الكلامية، وقد احتد النقاش في هذه المسألة سنة 2005م بعد دعاء الشيخ يوسف القرضاوي للبابا حين موته بأن يرحمه الله بقدر ما قدم للإنسانية من خدمة (كان ذلك في برنامج الشريعة والحياة)، وهو ما أثار حينها جدلا واسعا و نقاشات كلامية كثيرة تمحورت في انتقاد أغلب علماء العصر لصنيعه، وكنت ممن دافع عن تأويلات الشيخ المسوغة لدعائه المقيد، باعتبار المقصد الحسن الذي يطمح إليه وراء دعائه، وأن ذلك داخل في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء وهو الأمر الذي لا تسعفه الادلة القرءانية والنبوية.
وقد احتوى مقال الدكتور معتز الخطيب على مجموعة من المغالطات وهي تحتاج إلى بيان وتبيين، وأرجو أن يتسع صدره لهذا الانتقاد.
بادئ ذي بدء أقول إن الدكتور معتز حفظه الله يطيل كثيرا في تقرير الشيء اليسير الذي لا يحتاج إلى إطالة وهذا مما يلاحظ كثيرا في منشوراته ومقالاته، ولاشك ان دافع ذلك البحث والتمحيص، وهو مايجر إلى الحشو – وهذا رأيي على كل حال غير ملزم به –
وقد أطلت أخي فضيلة الدكتور معتز في تحرير ما هو خارج محل النزاع ومالايحتاج إليه في الجواب عن هذا الموضوع، فالبابا الذي دعى له الشيخ يوسف بالمغفرة والرحمة المقيدة مجمع على كفره وشركه بل هو نفسه يكفر المسلمين ولايعتبرهم ناجين ولايؤثر عنه دعاء للمسلمين ولعلمائهم بالرحمة والمغفرة..
وقد تقرر في القرآن أنه – ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين-، فكيف يدعى له والله يخبر عن الكفار ان أعمالهم محل حبوط في الآخرة وأنهم يجازون عليها في الدنيا بمايقتضيه عدل الله تعالى “وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا” وهي دالة على العموم ، والسؤال الذي يدور حوله المقال هو: هل يجوز الدعاء للكافر بالمغفرة والرحمة (المقيدة) وهل الاجماعات المحكية عن الشافعي والقاضي عياض غير سديدة؟
وقد قرر الدكتور معتز أن المشرك لا يدعى له فنازع في جواز الدعاء له مما هو خاص بالأعمال الصالحة التي فعلها المشرك، مع ما يعرفه من أن الموت على الشرك أو الكفر محبط للأعمال الصالحة كما تقرر في قواعد علم الكلام وأصول الدين المستمدة من نصوص القرآن الكريم. وتجدر الإشارة إلى أن هذا السجال العقائدي مختص بالجدل الديني والمعنيين به، فهو إذن غير موجه إلى منكري الأديان كالمحلدين وغيرهم.
والجواب عنه من وجوه:
فيقال إن نقد ونقض إجماع محكي يلزمه حكاية قول عالم مجتهد معتبر ينقض بقوله الإجماع المدعى وهو مالا يوجد في هذه المسألة. فالقاصي عياض المالكي والإمام الشافعي حكوا الإجماع على عدم جواز الدعاء للكافر أوالمشرك وهو إجماع غير منتقض.
– مسألة انتفاع الكفار بأعمالهم الصالحة أو عدم انتفاعهم خلاف كلامي قديم معروف، و لايلزم منه جواز الدعاء لهم ابتداء بل هو داخل في الفعل الإلهي المتمثل في العدل والرحمة، وقد انتفع ابو طالب من دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم فخفف الله عنه، ولم ينتفع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، بل لم يثبت أن دعى له النبي الأكرم بالرحمة تجاه عمله الصالح الذي تمثل في مواقفه العظيمة في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته.
هذا والخلاف في مسألة نجاة أبوي النبي معروفة ومدارها على صحة حديث الاستغفار الذي لم يأذن فيه الله تعالى للنبي بالاستغفار لأمه.(وأنا اميل إلى أن ابوي النبي صلى الله عليه وسلم ناجيان وأنهما من أهل الفترة) وحديث أبي وأباك في النار(يرجى مراجعة رسالة الشنقيطي المفسر في ذلك).
– كان الأجدر بمن يحرر في مسألة كلامية مشكلة عنده أن يحشد لها اصولا من القرءان والسنة باعتبارهما المصدران الأساسيان من مصادر التشريع والاستدلال، وهذا الذي لم نجده عند الدكتور معتز في مقاله الطويل.
وقد وجدنا القرآن ينص في سورة التوبة انه لايجوز ذلك.. فلايجوز الدعاء للمنافقين الذين يظهرون الإسلام، فمابالك بغيرهم كما قال الله تعالى في سورة التوبة: “ولا تصل على أحد مات منهم أبدا ولاتقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون”.
وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين وعلل ذلك بأنهم ماتوا وهم يكفرون بالله ورسوله وهم فاسقون.. فالعلة من منع النبي من الصلاة عليهم أي الدعاء لهم هي كفرهم بالله ورسوله وموتهم على الفسق الأكبر المخرج من الملة لا الفسق الأصغر.
فالصلاة دعاء كما هو معروف..
قال ابن العربي في أحكام القرءان تعليق على قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم ” الآية” نص في في الامتناع من الصلاة على الكفار”. 1/433
وبهذا يتضح أن النص القرءاني يقضي بعدم جواز الدعاء للكافر بعد موته على الكفر، أما حال حياته فيجوز الدعاء له بالهداية والتوفيق للخير وهو من البرالذي لم ينه عنه القرآن تجاه من لا يعادي المسلمين كما نص على ذلك الفقهاء رحمهم الله.. في تفسير قوله تعالى ” لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم” .
وممن حكى الإجماع على عدم جواز الاستغفار والدعاء للكافر بالرحمة بعد موته النووي في في المجموع 5/119
وابن تيمية في الفتاوى 12/489وغيرهما نص على ذلك.
أما حال حياته فيجوز الدعاء لهم بالهداية كما هو مقرر معروف.
وفيما يتعلق بسؤال الأخلاق فإن هذا الأمر لا يخرم من قاعدة سمو الأخلاق في الإسلام، لأن الأمر أخروي حيث تعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا.. ويجوز عقلا أن يكون من ظاهره الموت على الكفر الموت على الإسلام، لكن الأحكام الدنيوية تتعلق بالظواهر ويلزم عنها لوازم منها عدم جواز الدعاء لهم بالمغفرة للنص والاجماع، أما الاستدلال بآية “إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء”، فغير متجه.. ذلك أن ماكان في مرتبة الشرك فهو معني بالآية.. ومنه الكافر الذي مات على الشرك الذي هو نوع من أنواع الكفر بالله تعالى.
وقد حسم القرءان في ذلك فقال ولو أشركوا لحبط عنهم ماكانوا يعملون، فالشرك وما هو في مرتبته كالكفر بأنواعه محبط للأعمال فلاطائل من الدعاء لهم فهو لغو.. وأعتقد أن دعاء الشيخ يوسف كان دعاء سياسيا في ظل هجمة الغرب على المسلمين واتهامهم لنا بتهم كثيرة، فقد كان يوجه الشيخ رسالة للغرب مفادها أن المسلمين متسامحون، وهي حقيقة لا غبار عليها، فتاريخ المسلمين شاهد بتسامحهم مع أهل الملل والاديان وقرءاننا دال على ذلك ويكفي منه أنه سماهم أهل كتاب.
وإظهار التسامح لايلزم منه الدعاء فهي طقوس عبادية خاصة بكل دين، ولأن النصارى أنفسهم يكفرون المسلمين ولايدعون لهم بالنجاة ويعتقدون أنهم في النار.. وهو أمر خاص بالأحكام العقائدية في الأديان، التي توجد في علم الكلام سواء علم الكلام المسيحي اواليهودي والإسلامي.
وأعتقد أن الشيخ القرضاوي حفظه الله قد أدخل فتواه تلك في كتابه الفتاوى الشاذة التي اعترف فيها حفظه الله وشفاه أنه أخطأ فيها، وساق لذلك نماذج -ولم يتيسر لي مراجعة الكتاب إذ كان عهدي به قديما-.
فانتقاد الشيخ الألباني (توفي1999م) لجنس العمل (اي الدعاء للكفار والمشركين بعد موتهم بالرحمة والمغفرة ولو كانوا صالحين) – كما ذكر الدكتور- و انتقادات غالب علماء العصر حينئذ لصنيع الشيخ القرضاوي كان مستنده مخالفة الإجماع والنص القرءاني.
وقول الله تعالى “ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” معناه أنه يغفر ما هو دون ذلك من الأعمال التي لم يصاحبها شرك أو كفر وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة ومقرر في قواعد أصول الدين وعلم الكلام الإسلامي ولاينفع مع الكفر في الآخرة عمل صالح.. .
هذا و الله أعلى وأعلم.
وتقبل تحياتي وكل عام وانتم بخير ..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14325