محمد أومليل
قبل القيام بعملية رصد “الدراسة القرآنية القديمة” في القرون الخمسة الهجرية الأولى من تاريخ المسلمين وجب رصد “السقف المعرفي” لتلك المرحلة الزمنية وجوها الثقافي العام؛ كون ذلك له تأثير على أهل العلم ومحدد أساسي لما سينتجونه من دراسة إسلامية بشكل عام و”دراسة قرآنية” على وجه الخصوص والذي نحن بصدد الاشتغال عليه ضمن بحثنا المتواضع الموسوم بـ”دراسة قرآنية معاصرة”.
أهل العلم، بشكل عام، يجتهدون في حدود شروط ذاتية (جينات، هرمونات، مستوى الذاكرة، مستوى الذكاء، الطبيعة النفسية، نوع الشخصية، معتقدات، قناعات..)، وشروط موضوعية (البيئة، المناخ، الجو الثقافي العام؛ تقاليد، قيم، عادات، تدين، أخلاق..) ويندرج ضمن الشروط الموضوعية؛ “السقف المعرفي” الذي يختلف بين مجتمع وآخر، وفي نفس المجتمع يختلف بين النخبة والعامة، وبين الجيل السابق والجيل اللاحق.
بحكم قانون التطور؛ “السقف المعرفي” دوما في ارتفاع من خلال السيرورة والصيرورة التاريخيين، بالإضافة إلى مبادرة وجرأة بعض أهل العلم والفكر الذين يأتون، بين الفينة والأخرى، بجديد صادم للعقل الجمعي، بل صادم حتى بالنسبة للأكثرية من أهل العلم؛ تاريخ العلم شاهد على ذلك في العلوم الحقة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والأنثروبولوجية وحتى الدينية.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
يروي البروفسور وليم باريت: إن الحاكي الذي اخترعه أديسون، حين عرض لأول مرة في أكاديمية العلوم بباريس أعلن العلماء [لاحظوا: “العلماء”] الحاضرون جميعا [جميعا] أنه مستحيل حيث لا يمكن، في زعمهم، أن يسجل صوت الإنسان على اسطوانة من المعدن “(1).
” وقد وقف مثل هذا الموقف البروفسور تيت من جامعة أدنبرة حين سمع عن اختراع التليفون، فقد قال: إن كل ما في الأمر هو طنين، ذلك اختراع مثل هذا الشيء مستحيل فيزيائيا “(2).
كلمة “مستحيل” ورد ذكرها، أعلاه، مرتين؛ وقد ألف حولها الفيزيائي الشهير ميشيو كاكو، حاصل على جائزة نوبل في الفيزياء النظرية عن نظريته في الأوتار الفائقة، كتابا تحت عنوان: (فيزياء المستحيل)؛ ذكر فيه بعض النماذج من أكابر أهل العلم الذين كذبوا بما لم يحيطوا به علما كونه فوق سقفهم المعرفي، من ضمنهم آينشتاين نفسه!
لنستمع لمشيو كاكو:
” اعتبرت الثقوب السوداء في وقت ما خيالا علميا. لقد كتب آينشتاين نفسه ورقة علمية في العام 1939 برهن فيها على أن الثقوب السوداء لا يمكن أبدا أن تشكل. لكن منظار هويل الفضائي ومنظار أشعة إكس لتشاندرا أظهرا آلاف الثقوب السوداء في الفضاء “(3).
كذلك الأمر في العلوم الدينية، وفي كل ما يناقض التعاليم الدينية؛ غير أن الوضع مختلف، فإذا كان مصير المجتهدين في ما ليس له علاقة بتعاليم الدين؛ الاعتراض والتكذيب فحسب، فإن مصير من يأتي بما يناقض تعاليم الدين؛ الحرق والقتل..، كما وقع لمن قال بدوران الأرض؛ جوردانو برونو الفيلسوف والفلكي الإيطالي أحرق حرقا، في القرن السادس عشر، بتهمة الهرطقة من قبل رجال الدين!
وقبله بقرون نفس المصير (القتل بواسطة شرب السم) الذي لقيه الفيسلوف (وفي نظر البعض يعتبر نبيا) سقراط، في القرن الرابع قبل الميلاد.
وكذلك كان مصير بعض العلماء المسلمين؛ القتل بتهمة الردة والزندقة (ابن المقفع، الحلاج، السهروردي المقتول، والقائمة طويلة) كونهم رفعوا السقف المعرفي بحيث أصبح مخالفا لمألوفات النخبة والعامة!
على أكتاف هؤلاء “شهداء المعرفة”؛ يرتفع السقف المعرفي جيلا بعد جيل، بين الفينة والأخرى، في العلوم الحقة والعلوم الإنسانية والاجتماعية وحتى الدينية!
مما يميز هؤلاء العباقرة؛ يسبقون زمانهم عقليا ومعرفيا وعلميا وفكريا؛ لهم السبق في كل ذلك، بذلك يحدثون نقاشا وجدلا وحتى الإثارة وقد يصل الأمر إلى محاكمات وتصفيات!
وبفضل هؤلاء الرجال المقتحمين الجريئين حصل الفرق الشاسع بين علوم المتقدمين وعلوم المتأخرين في العلوم الحقة والعلوم الإنسانية والدينية.
تلكم معركة مجتمعية دائمة، بين “المحافظين”* و”المجددين”، لا يخلو منها مجتمع؛ ولولاها لم تقدمت المجتمعات إلى ما هو أحسن وإلى ما نلاحظه جليا في عالمنا المعاصر، لا سيما في البلدان المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة والصين واليابان وبعض البلدان الأسيوية.
فلا غرابة من وجود ذلك الصراع بين المحافظين والمجددين؛ كونه قانونا سوسيولوجيا.
على العموم، عنصر “السقف المعرفي” جد مهم في دراسة العلوم بشكل عام، و”الدراسة القرآنية” على وجه الخصوص، كونها موضع اشتغالنا في بحثنا المتواضع.
ذلك من محاسن “علم تأريخ العلوم” و”علم الاجتماع المعرفي”، وغيرهما من العلوم المهتمة بنشأة العلوم والمعرفة والثقافة والدين.
كان ذلك تمهيدا لما سوف نقوم به من رصد “السقف المعرفي” للجزيرة العربية وما حولها وللرقعة الجغرافية الإسلامية في القرون الخمسة الهجرية الأولى من تاريخ المسلمين.
المراجع:
– 2،1، علي الوردي، خوارق اللاشعور، ص 43.
– 3، ص 12.
– * أقصد بالمحافظين: المتشبتون بكل ما لديهم من معتقدات وتقاليد وعادات وقيم وقناعات، ويرفضون تغيير ذلك أو المساس به.