16 أغسطس 2025 / 18:47

الدراسات القرآنية بين القديم والحديث: سعيد النورسي

محمد أومليل

يعتبر الرجل من أبرز العلماء الأتراك وأكثرهم تقوى وورع؛ شهد له بالنبوغ المعرفي وسعة العلم مع أدب وحلم وتواضع جم وزهد في الدنيا الخصوم قبل الأتباع والأحباب، حياته لم تكن نمطية بل كانت حافلة بالأحداث والمحن والتقلبات مما جعله يقوم بعملية “الاستدراك الذاتي”؛ وعلى أساسها جعل من نفسه شخصين: “سعيد القديم” و”سعيد الجديد”.
” سعيد النورسي المعروف ب(بديع الزمان النورسي) رأى النور سنة 1876 وتوفي سنة 1960، عالم كردي مسلم سني أحد أبرز دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي في عصره ذو نزعة صوفية فيلسوف مفسر مصلح مفكر إسلامي مشهور ب “رسائل النور” و”جماعة رسائل النور”. مرت حياته من مرحلتين يطلق عليها هو نفسه ب “سعيد القديم” و”سعيد الجديد” نتاج ما قام به من “استدراك ذاتي” لما تلقاه وكان عليه من معتقدات وقيم وعادات، وتقاليد وقناعات..، كما هو حال الأكابر من أهل العلم والفكر والمعرفة؛ حين يتجاوزون مرحلة الشباب والحماس والقصور ويبلغون مرحلة النضج والرشد؛ يقتحمون عملية “الاستدراك الذاتي”، من ضمن تلك الاستدراكات؛ طلاقه للسياسة وزهده في الدنيا وبحثه عن الله جل وعلا!
هو صاحب شعار: “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”؛ أخذ هذا الموقف بعد نضال سياسي مرير ومحن واعتقالات دون جدوى ظاهرة أو نتيجة تذكر!
ترك عدة مؤلفات على رأسها “رسائل النور” و”اللمعات”، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى جلها تتمحور حول التربية والإصلاح “.
كان متأثرا بأهل التصوف مثل أبي حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني والفاروق السرهندي وبالطريقة النقشبندية.
كان بينه وبين محمد إقبال تقدير متبادل أشاد كل منهما بما عند الآخر من مميزات وخصائص ومواهب وفضائل مع ما بينهما من اختلاف تكاملي يثري التراث الإسلامي، على أي بينهما عموم وخصوص.
له تلاميذ كثر، كونه مؤسس جماعة وله أتباع، أبرزهم وأعظمهم شأنا وأكثرهم تأثيرا في الشأن العام والتربية والتعليم والإصلاح وبناء الإنسان (فتح الله غولن) حيث اقتدى بمنهجه في العمل الجمعوي تربية وتعليما وإصلاحا بمعزل عن الصراعات السياسية، لكن حين اقتحم، في السنين الأخيرة من عمره، هذا المجال الملغوم انقلب عليه بالضرر ونالت من سمعته التي بناها عبر سنين من العمل الجاد والدؤوب في التربية والتعليم والإصلاح.
اهتم كثيرا بالقرآن الكريم؛ كان ذلك نتيجة عملية “الاستدراك الذاتي” وما صاحبها من أزمة روحية.
منهجه المعتمد في تعامله مع القرآن؛ التركيز على تجديد الإيمان والتزكية والتربية والصلاح والإصلاح، وعلى العدالة الاجتماعية وإبراز مواطن الإعجاز، بالإضافة إلى رصد القيم الروحية والأخلاقية والسنن الربانية الناظمة للآفاق والأنفس.
عانى كثيرا، سعيد النورسي، في بداية عمليته الاستدراكية من الناحية النفسية حيث كان يعيش قلقا تجاه أسئلة وجودية وبحثا عن الله وعن دين الله الخالص من الشوائب ودين الشركاء.
توجه إلى قراءة كتب التصوف، فاختار أكابر هذا الفن؛ من ضمنهم (الشيخ عبد القادر الجيلاني وكتابه “فتوح الغيب”، والإمام الفاروقي السرهندي وكتابه “مكتوبات”).
يحكي سعيد النورسي عن أزمته الروحية:
” هوت صفعات عنيفة على رأس سعيد النورسي الغافل، ففكر في قضية أن الموت حق، فوجد نفسه غارقا في الأوحال استنجد وبحث عن طريق وتحرى عن منقذ يأخذ بيده.. رأى السبل أمامه مختلفة.. حار في الأمر وأخذ كتاب (فتوح الغيب) للشيخ عبد القادر الجيلاني متفائلا، ووجد أمامه العبارة الآتية: “أنت في دار الحكمة فاطلب طبيبا يداوي قلبك.. ثم انتقلت إلى الإمام الفاروقي السرهندي فوجدت كتابه (مكتوبات) فتحته فوجدت فيه عجبا.. حيث وردت لفظة (ميرزا بديع الزمان) فأحسست كأنه يخاطبني باسمي مباشرة.. فقلت: سبحان الله هذا يخاطبني أنا بالذات.. فحار في أمره بين الشيخين (الجيلاني والسهرندي).. وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة.. إذ بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف: إن بداية هذه الطريق جميعها.. ومنبع هذه الجداول كلها. وشمس هذه الكواكب السيارة.. إنما هو (القرآن الكريم).. فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستممدت منه “(1).
الرسالة طويلة، نقلت منها جوهرها ضمن ما تقدم ذكره..
بعد تلك اليقظة الروحية والاستمساك بكتاب الله؛ أصبح تحت تأثيره وتوجيهاته وأضحى كل ما كتبه، بعد ذلك، نتاج ذلك التأثير القرآني والوحي الرباني والشعاع النوراني.
لا يوجد، على الإطلاق، روحانية أعلى من روحانية كتاب الله، ولا نور أقوى من نور كتاب الله، ولا تأثير أعمق من تأثير كتاب الله، ولا رشاد أشمل من رشاد كتاب الله؛ إنه الله الهادي النور الرشيد..، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، سبحانه وتعالى عدد خلقه ورضا نفسه وزينة عرشه ومداد كلماته.
تلك هي قناعة كاتب هذه السطور منذ ما يقرب من عشرين سنة، كان ذلك نتاج عملية “الاستدراك الذاتي” بحيث أصبح كتاب الله مقدما على غيره وحكما عليه، جل ما أنشره مصدره كتاب الله في مجال العلم والمعرفة والتربية والسلوك والسنن الناظمة للآفاق والأنفس، ونشرت عدة رسالات مطولة في الفيس في موضوعات مختلفة؛ الإبستمولوجيا، السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، الأكسيولوجيا، الأنطولوجيا..، إلى غير ذلك من مواضيع العصر الحديث واهتماماته.
حصلت على هذه القناعة بعد الاطلاع على أغلب انتقادات الملاحدة والمستشرقين والعلمانيين والحداثيين..، وجل ما صدر عن أعداء الإسلام، في حق القرآن، وخصومه وأصحاب الحياد الأيديولوجي والتحيز الإبستمولوجي، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
مخطئ من يعتقد أن هناك، في الأغيار، روحانية أعلى من روحانية كتاب الله ونور أقوى من نور كتاب الله!
المراجع:
-1، اللمعات، لمعة 430، نقلا عن: بديع الزمان سعيد النورسي4.