محمد أومليل
هذا الرجل جدير بدراسة سيرته الذاتية لرصد العوامل التي جعلته شخصية مركبة جامعة بين متناقضات مثالا لا حصرا؛ الجمع بين الصلابة واللين، الأصالة والمعاصرة..، ورصد العوامل التي جعلته متطرفا صارما متشددا في بعض المواقف العقدية والسياسية؛ لا يتحلى بالحد الأدنى من المرونة!؟
بالإضافة إلى بعض السلوكيات والاختيارات من شخصيته وشأنه الخاص مثل؛ عزوفه عن الزواج، إلى غير ذلك مما يساهم في تحليل نفسي لشخصيته ومدى تأثير ذلك على ما تبلور وتشكل لديه من معتقدات وقناعات وآراء وأفكار.
القصد من ذلك كله، القيام بقراءة نقدية لتراثه المعرفي المتعدد والغني نقدا مزدوجا؛ رصد ما له وما عليه؛ الصواب والخطأ على السواء.
لديه جانب جد مشرق؛ القيم الإيمانية، القيم الروحية، القيم الأخلافية، القيم الفطرية، النزعة الإنسانية، السنن الربانية الناظمة للآفاق والأنفس، مواكبة علوم العصر الحقة والإنسانية والاجتماعية، البعد الكوني القيمي، الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الآدمية، بالإضافة إلى جمالية التعبير ليس غاية في التعقيد ولا تبسيط ساقط، بل السهل الممتنع.
أما الجانب، السلبي باختصار شديد، رهين بمجموعة عقد نفسية نظرا لعدة أسباب غير خافية عن المعالجين النفسيين.
إنه سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي (1966،1906) مصري من والدين متدينين مستقيمين معروف عنهما الاستقامة والجدية (مما أثر إيجابيا على باقي أفراد الأسرة محمد قطب وأخواته)؛ والده كان من وجهاء القرية مناضلا ثوريا سياسيا ضمن الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، كان متعلما مواضبا على قراءة جريدة الحزب (الأهرام)، نشأ سيد قطب في بيئة مسيسة مهتمة بالشأن العام. كما تأثر بتربية أمه المتدينة الصارمة كونها تتحلى بالكثير من الاستقامة والجدية.
حفظ القرآن الكريم في سن مبكر، تدرج في التعليم حتى تخرج من كلية العلوم عام 1933، فأرسل، ضمن بعثة، إلى الولايات المتحدة لدراسة المناهج سنة 1948، له اطلاع واسع في العلوم النقلية والعقلية؛ أدب، نقد، فلسفة، منطق، علم النفس، علم الاجتماع، مقارنة الأديان، المذاهب الفكرية، المناهج الغربية، النظريات العلمية، مواكبا ما استجد من العلوم الحقة.
يقول هو نفسه متحدثا عن نفسه في كتابه الشهير (معالم في الطريق): “إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة”.
كان متأثرا بعباس محمود العقاد، وهذا الأخير كان معحبا بنجابة سيد قطب وذكائه الحاد ونباهته، كان سيد قطب ملازما له حاضرا بشكل دائم “الصالون الأدبي” في بيت العقاد كان يعقد مرة في الأسبوع. لكن، حين أصبح سيد قطب عضوا في جماعة “الإخوان المسلمين” انفصل التلميذ عن أستاذه كونهما اختلافا سياسيا.
بحكم معارضة سيد قطب للنظام الملكي وغزارة ما كان ينشره من مقالات نارية في الجرائد استقطبه جمال عبد الناصر للتنظيم السري للضباط الأحرار وعينه عقب الإطاحة بالملك مستشارا لمجلس قيادة الثورة وخصص له مكتبا في مقر المجلس. لكن سرعان ما اختلف قطب مع توجهات جمال عبد الناصر، فانضم إلى جماعة “الإخوان المسلمين” واشتغل في قسم الدعوة والإعلام والثقافة، إلى أن تم اعتقاله مرتين مدة ما يقرب من عشر سنوات فحكم عليه بالإعدام سنة 1966.
تمت مساومته لكي ينال العفو فرفض وتقبل الشهادة بصدر رحب كون ذلك ما كان يتمناه وهو القائل: “إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا، ولكن بشرط واحد: أن يموتوا لتعيش أفكارهم، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم. أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء، انتقضت حية، وعاشت بين الأحياء”!
وذلك ما حدث؛ بعد استشهاده انتشرت كتبه لا سيما “معالم في الطريق”، الذي قال عنه هنري كيسنجر المفكر الاستراتيجي:
“ألف سيد قطب خلال وجوده في السجن كتاب (معالم في الطريق) وهو إعلان عن حرب على النظام العالمي”(1).
تدخل المرحوم علال الفاسي لد جمال عبد الناصر كي لا يعدم سيد قطب فرفضت شفاعته، فكان رد فعل علال الفاسي بطباعة كتاب (معالم في الطريق) بالمغرب فانتشر انتشارا واسعا بين أبناء الحركة الإسلامية حتى أصبح المرجع الثالث بعد القرآن والسنة!
من أساتذته في الفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي أخذ عنه مفهومي “الجاهلية” و”الحاكمية” وتوسع في الاشتغال عليهما.
ترك الكثير من المؤلفات نصفها لم يرى النور لأسباب معينة، منها على الخصوص:
– العدالة الاجتماعية في الإسلام
– معالم في الطريق
– في ظلال القرآن.
أغلبية نقاده يفضلون سيد قطب صاحب كتاب (العدالة الاجتماعية) على سيد قطب صاحب كتاب (معالم في الطريق)، من ضمنهم محمد الغزالي رحمه الله.
بالنسبة لي، كل كتبه يؤخذ منها ويرد مع الاختلاف في النسبة؛ ليس هناك قبول مطلق ولا رفض مطلق.
منهجه المعتمد في تفسيره رهين بسعة اطلاعه وثقافته النقلية والعقلية والأدبية وتخصصه في المناهج التي درسها في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مواقفه السياسية الراديكالية وبعض عقده النفسية ومشاكله الشخصية ومعاناته النضالية؛ اضطهاد، مضايقات، سجن، تعذيب، كل ذلك ساهم في تشكيل منهجه المعلن منها والمستور الذي يتم رصده بين السطور.
عموما، سيد قطب في تفسيره اعتمد على الجانب الأدبي والوجداني (العاطفي والروحي) والسياسي والاجتماعي والدعوي والحركي مذكرا، بين الفينة والأخرى بما استجد من علوم حقة وعلوم إنسانية حسب ما تقتضيه شرح بعض الآيات التي رهينة ببعض العلوم الحديثة بشيء من الدقة دون مبالغات، وبالسنن الربانية الناظمة للآفاق والأنفس، بالإضافة إلى تركيزه على النزعة الإنسانية والكرامة الآدمية والقيم الأخلاقية، مركزا كثيرا على دين الفطرة، مجتنبا الدخول في التفاصيل اللغوية والفقهية والإغراق في ذكر: مؤمن/كافر، حلا/حرام، سنة/بدعة..، إلى غير ذلك المتداول عند الوهابيين والسلفيين والكثير من الإخوان، لكن في المقابل له مفاهيمه الخاصة لا يمل من تردادها: الجاهلية، الحاكمية، المنهج الرباني، العزلة الشعورية، الاستعلاء الإيماني، الاستشهاد.
حسب رأيي الشخصي، تفسير سيد قطب يعد أفضل تفسير، رغم ما تم تجاوزه ومواطن تطرفه، وما تم إنجازه مؤخرا من جديد دراسات وتفاسير، رغم ذلك كله ما يزال “في ظلال القرآن” أستظل بظلاله بين الفينة والأخرى نظرا لما يتضمنه من قواسم مشتركة بيني وبينه!
بالنسبة لي، سيد قطب يعد ضمن الأساتذة الذين ساهموا في تشكيل خريطتي الذهنية المعرفية، سواء تعلق الأمر بأسماء عربية أو غربية. تغمدهم الله، جميعا، بواسع رحمته.
المراجع:
-1، النظام العالمي: هنري كيسنجر تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ.