الخطبة الموحدة بين الاجتهاد والانضباط

8 نوفمبر 2025

محمد المهدي اقرابش

عضو أكاديمية نيم وعضو منتدى إسلام فرنسا

إمام خطيب ومرشد ديني بالمستشفيات

إن من نعم الله على العبد المؤمن ان جعل له يوم الجمعة ليسعى إلى ذكر الله وليسمع كلام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فيقوى إيمانه ويزداد ويتذكر إذا نسي ويعمل الصالحات. قال الله تعالى “ياأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله” الآية 9 سورة الجمعة.

وبناء على هذا فان الخطيب يضطلع بشرف ومسؤولية تبليغ دين الله إلى الناس ووعظهم وإرشادهم إلى الخير. قال الله تعالى “ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين”. الآية 33 سورة فصلت.

قال القرطبي في تفسير هذه الآية ” قلت: وقول ثالث وهو أحسنها؛ قال الحسن: هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله”. الجامع لأحكام القرآن.

وقال شيخ المفسرين الإمام الطبري” تلا الحسن “ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين” قال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خَيْرَة الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب اللهَ فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال إنني من المسلمين”. تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن.

إن الخطيب الجاد يدرك ثقل وكبر المسؤولية المنوطة به. فهو يكابد عناء الإعداد والتفكير وجمع شتات الذهن لإلقائها غيبا أو كتابة. و تكمن فائدة الخطبة في تناول المواضيع التي لها علاقة بالإيمان وواقع الناس ومعاشهم ساعية بذلك إلى إحداث أثر إيجابي في حياتهم وفي المجتمع.

لهذا كان لزاما على الخطيب أن يلتزم آداب وأحكام الإمامة والخطابة فيخلص أولا النية لله تعالى، ويتطهر حسا ومعنى، ويتطيب ويلبس أجود مايملك من اللباس التقليدي المعروف والمتعارف عليه، ويعد خطبته مبتدئا بالمقدمات المعروفة كالحمدلة والصلاة والسلام على النبي وآله وصحبه، و ذاكرا لآيات وأحاديث نبوية لكيلا تكون خطبته بتراء. ولا يُغْرِب في انتقاء الكلمات للتعالم وإبراز القدرة والُمُكْنَة فالتكلف مذموم وقد قال الله تعالىآمرا نبيه صلى اللهُ عليه وسلم “وما أنا من المتكلفين” الآية 86 سورة ص. وانما يختار السهل وأفضل الكلام السهلُ الممتنع. وأن يكون وسطا في إلقائه لخطبته فلا يصرخ ولا يخافت بها، وإنما يبتغي بين ذلك سبيلا.

لا يخفى على من نظر وتأمل حال بعض خطب الجمعة الملقاة على المنابر -اليوم- و ما تعانيه من ظواهر سلبية. فقد تجد أحيانا خطيبا لا يحسن إلقاء خطبته شكلا وموضوعا! بل قد يلحن في كلامه فيرفع خبر كان! وينصب خبر إن! وقد سمعت من بعض الخطباء أحيانا مايندى له الجبين من حيث الأخطاء اللغوية والبيانية وما إلى ذلك من القواعد التي يعرفها التلاميذ والطلبة.

وقد يعجز الخطيب ولا يكاد يبين لسبب من الأسباب. إما لتراجع في مستواه المعرفي والأدائي بسبب مرض وإما لخمول أو كسل يعتريه!

وهنا ياتي دور الخطبة الموحدة التي تيسر للخطيب مهمته وتعينه عليها. ولكن هذا الأمر لا يعفيه من الاجتهاد في إلقاء خطبته واستيعاب ماجاء فيها وتعزيزها بأسلوبه الشخصي بدل قراءتها ببرود وسآمة توحي بتضجره او امتعاضه فيلحق هذا الضجر والسآمة بالمصلين.

لاشك في أن خطبة الجمعة هي عبادة و رسالة نبيلة وسامية، يهدف من خلالها الإمام الخطيب إلى إرشاد الناس الى الخير والفضيلة، وتحقيق السكينة والاطمئنان الروحي والنفسي للمسلمين خاصة وللناس عامة.

إنها مهمة تتطلب صبرا جميلا وحلما، لتحمل المتاعب التي تنتج عن التفكير العميق في القضايا التي تطرح على المسلمين من حيث ممارستهم لدينهم خاصة في المجتمعات التي تتميز بالتعددية الثقافية والدينية.

قد يستعين الخطيب الماهر بالخطبة الموحدة كورقة إرشادية تساعده على التركيز على الموضوع ووحدته وما يتضمن من استدلالات بالقران والسنة وله أن يضيف مزيدا من الشرح والبيان إن آنس ذلك من نفسه،لأن الخطباء ليسوا سواء، فمنهم الفقيه الحصيف و المفوه ومنهم دون ذلك.

حبذا لو التزمنا في الغرب حيث نقيم خطة الخطبة النموذجية الموحدة أو على الأقل الاستعانة بالفكرة العامة ورؤوس الأقلام المقترحة والواردة فيها. فهذا كفيل بحفظ المنابر من الزلل والقول على الله بغير علم اوتوجيهها إلى أهداف ماأنزل الله بها من سلطان.

إن الخطبة الموحدة كفيلة بسد النقص الذي قد يعانيه البعض ممن ليس له دراية بالتأصيل وفقه المقاصد خاصة في البوادي حيث قلة الزاد المعرفي التطبيقي أو في بلاد غير المسلمين والتي تصدر فيها أدعياء لا علاقة لهم بالوعظ والإرشاد والإمامة فأفسدوا من حيث أرادوا أن يصلحوا! وليس كل من ابتغى الحق يدركه. فالخطيب قد لايدرك نتائج ماينطق به فوق المنابر خاصة في إطار قانوني صارم لا يعفيه أبدا من زلة لسان او عجز بيان.

فمثلا عندنا في فرنسا هناك قوانين ينبغي ان ينتبه اليها الامام أوالخطيب عند القائه لخطبته. اذكر أهمها وهي ما يلي:

– قانون 1881 الذي يجرم الإهانة والسب العلني والقذف المنشور في الصحف.

– ⁠قانون 1972 الذي يجرم التمييز و العنصرية ومعاداة السامية.

– ⁠قانون1990 الذي يجرم معاداة السامية.

– ⁠قانون 2004 الذي يجرم من يحرض على القانون في العلاقات التي تتجاوز الزواج.

– ⁠قانون 2021 المسمى بقانون ضد الانفصالية ولتكريس مبادئ وقيم الجمهورية وغيرها من القوانين.

على الخطيب إذن أن يراعي الواقع ويدعو إلى الله على بصيرة مستحضرا ما ذكره أهل العلم في الباب: أن يكون عالما بما يعظ به عدلا في ما يعظ به رفيقا في ما يعظ به.

ان مهمة الخطابة جسيمة وثقيلة لا يستطيعها الا من الم بكل هذه الأمور والشروط ولكن مالايدرك كله لايترك كله وحسبنا أن نستشير علماءنا ومفكرينا لإرشادنا وتوجيهنا و الدال على الخير كفاعله.

لقد ترسخت لدي قناعة انطلاقا من التجربة والممارسة والمعاينة، مفادها أن المجتمع الأوروبي برمته ينتظر من الإمام أو المرشد أن يكون فاعلا إيجابيافي المجتمع على الصعيد الثقافي والإجتماعي، لأنه هو الذي يعبر أساسا عن العاطفة الدينية للمسلمين. يطالبه المجتمع ان يكون ناطقا بضمير جماعة المسلمين.

وإن النجاح في مهمة الوعظ والإرشاد رهين بأربعة شروط وهي كما يلي:

أ-نكران ذات في توجيه وتأطير المؤمنين والتركيز على جانب اليسر والسماحة في الدين. وعدم استعمال المنبر لاهداف تخدم النفس أو الدعاية.

ب-التكوين المستمر والاطلاع على العلوم الإنسانية وتعلم لغة البلد إلى جانب العلوم الدينية للتمييز بين الثابت والمتغير. فالخطيب والامام وغيرهما سائرون في طريق التعلم إلى أن يلقوا ربهم.ورحم الله الإمام ابن حنبل حين قال: “من المحبرة إلى المقبرة” فلا مجال للكسل والخمول. ولا يزال المرء طالبا مهما علم.

ج-الاندماج الفعلي في المجتمع الأوروبي والغربي عموما من أجل التعايش مع الديانات والاختيارات الفكرية والفلسفية في إطار المواطنة الكاملة.

د- استعمال وسائل التواصل الإجتماعي لتوعية أكبر عدد ممكن من الناس في ما يتعلق بالشأن الديني، ولو أني أتحفظ على نجاعة هذه الوسائل في الوعظ والإرشاد لان العلاقة والاتصال الحضوري والحسي في المسجد ضروريان جدا. فقد تُفْرَغُ المساجد بحجة الاكتفاء بوسائل التواصل الاجتماعي. وهناك تواصل أرواح واشياء لا نراها وهي من الاسرار الربانية في التبليغ ف”الأرواح جنود مجندة ماتعارف منها ائتلف وماتناكر منها اختلف” حديث نبوي شريف/ أخرجه الإمام مسلم.

لهذا أكد الدين على أهمية الاجتماع للمدارسة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. رواه مسلم.وهنا استحضر قولة السيدة العالية لابنها الامام مالك: ” خذ من أدبه- أي عبد الرحمن بن أبي ليلى- قبل أن تأخذ من علمه”.

تسعى الخطبة إلى بناء نموذج ديني يحافظ على أصالة الإيمان ويغير الصورة النمطية السلبية للتدين والتي لا علاقة لها بالإسلام وإنما هي مرتبطة بتصورات ثقافية ذات علاقة برواسب تاريخية قديمة.

و لابد من الثناء على السادة العلماء والفقهاء و الأئمة والخطباء الذين بذلوا طيلة عقود وسعهم وجهدهم في التأطير الديني. ولا بد من الاعتناء بهم والنهوض بشؤونهم المعنوية والمادية لان مهمتهم في الإصلاح والإرشاد عظيم جدا.

خطبة الجمعة الموحدة مقصد نببل ان استطعنا ان نستفيد منها بتجرد ودون تحيز. ولا يعني هذا ان تكون شخصية الخطيب ملغاة، فكل خطيب إلا وله سمة يتميز بها. ومن لم يستطع إلى الخطبة سبيلا بسبب ضعف في التكوين او عدم قدرة على الصياغة فان الخطبة الموحدة كفيلة بتبليغ وتسديد الوعظ والإرشاد. وجميل أن يستعين الخطيب في خطبه ودروسه بدليل الأساتذة والمعلمين من حيث البيداغوجية و الديتاكتيكية والمقاربة الفارقية او الجمعية وما إلى ذلك من نظم وأساليب.

إن الخطبة الموحدة مفيدة جدا لمن اعتمد حصرا الخطب المنبرية لابن نباتة الشيخ الشهير أوالفتوحات الربانية وغيرها من الخطب الملقاة والمدونة والمطبوعة في سياقات مختلفة.

وأختم مقالتي بهمس للخطيب الحبيب إلى الله فأقول:

إن الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله هي وظيفة الأنبياء تستلزم التجرد وإخلاص النية المتجدد لله تعالى والصبر. ولا اهتمام بعدد من استمع واتعظ واتبع، إذ أن الله يقول: “ليس عليك هديٰهم” الآية 272 سورة البقرة. ويقول: “فعززنا بثالث” الآية 14 سورة يسن.ومن رحمة الله بنا أن قال نبينا صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم : “فو اللَّهِ لئن يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم”. متفق عليه.

توكل على الله وقل كلمتك واسأل الله الثبات والقبول فبشراك وسعداك.

نسأل الله الصدق في القول والعمل وأن يدخلنا جنته بغير حساب ولاسابقة عذاب والحمدلله رب العالمين.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...