محمد عسيلة، أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للوظيفة العمومية والشرطة وبالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بألمانيا
تشدني أحيانا بؤر التوتر التي نقحم أنفسنا فيها بشكل إرادي أو إجباري حسب الوضعية و المناسبة و السياق و تلبسني أسئلة تورطني في رحلة غير محسوبة المآل في فاهمية هذا الإنسان الذي هو نحن. لماذا نخسر ربح المعنى ونحن من المميزين بالخطاب و باللسان بدرجة عالية تبعدنا عن “حوار” الحيوانات التي وضعت لنفسها نظاما اجتماعيا قارا حسب الفطرة التي جبلها الله عليها منذ غابر العصور و الازمان و قسمت أدوارها مثل ما نعرفه عن تواصل النحل و النمل و الثعالب و الذئاب و كل ما يعيش في جماعات و أسر مثل القردة كذلك؟
لماذا نخسر فهم الحوار و تذوق معناه الحياتي في ضبط المسؤوليات و توزيعها و لنا في القرآن الكريم آيات و حكم و مواعظ لا تعد و لا تحصى أذكر منها مساءلة الله الشيطانَ بإعطائه سبب رفضه و عدم امتثاله لقضاء و أمر رباني لا يقبل الجدل علما أن جواب الشيطان لن يزيد في علم الله شيئا لأن علمه وسع كل شيء. من هنا يظهر لي و الله أعلم القيمة الكبيرة التي يتوفر عليها الحوار في إثبات و تحمل المسؤوليات و إظهار الادوار و ملء الاستفهام و المبهم من الكلام و الذي هو في اعتقادي الحياة؟
في بعض قراءاتي تعرفت على تعريف الحوار لدى الفيزيائي ديفيد بوهم و الذي يعرفه (الحوار) بالمعنى الأصلي للكلمة: “ديا” و التي تعني “من خلال” و “لوج” و التي تعني “الكلمة ذات معنى” بمعنى “سيولة و تمرير المعنى “.
هذا التعريف يحيلنا كذلك على معنى التواصل كما نعيشه و عرفه العلماء و الذي يعني بالتالي تدفق المعنى وتطويره من خلال تفاهمنا و تواصلنا. فالغرض من الحوار هو فهم الافتراضات والأفكار والمعتقدات والمشاعر الانسانية التي تتحكم في التفاعلات. وبالتالي فإن الحوار لا يمكن حصره في الجدل و الجدال و النزاع و المنازعة فقط، بل في خلق نوع من الارتجاج و تشريح المحتوى من أجل خلق أرضية مشتركة للتفاهم و إزاحة مكامن سوء التفاهم التي تؤدي أو قد تؤدي الى التشنج. و في هذا السياق فإن الحوار ليس تنسيقا منسجما بل يقود الى الانسجام من خلال التدافع الذي نادى به الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم.
الحوار ليس مسلكا لتحقيق الذات التي تبحث عن الفوز على الاخر بتقنيات خطابية و بلاغية و منطقية، ولكن البحث بكل هذه الوسائل على فوز لجميع المشاركين في الحوار من خلال خلق و دعم رؤى جديدة و تبني مواقف صائبة كنا نرفضها من قبل و و اقتناعنا بحسنها من داخل و بالحوار.
للاسف أقف في كثير من الأحيان على ان المحاورين يريدون ابطال مشروعية و مصداقية بعضهم البعض تحقيقا لمصلحة شخصية او دونية لا تخدم المجتمع او المبدأ او لا تحقق القيمة المُضافة التي قد تعطي لعلاقاتنا ذوقا جميلا و اضافيا و تقوي مواقفنا و تموقعنا.
إن عملية الحوار هي وسيلة لتوضيح كيفية عمل تفكيرنا و الإفصاح عن نفوسنا و خفاياها و مركباتها ومكبوتاتها أو ليس الانسان وراء لسانه؟
فالحوار “يفضح”سلبا و ايجابا جميع الإبداعات البشرية، وأنظمة القيم، و يعري عن سلوكنا، ولغتنا، وهندسة عقولنا ، وثقافتنا و جودة تكنولوجياتنا بأكملها إن صح التعبير.
فإذا أردنا حقا أن نستكشف أسس ظواهر الأزمة الراهنة، علينا أن نستكشف مختلف مستويات التفكير من خلال فحص طرق حوارنا وسياقته و مآل نتائجه.
ويعني المفكر ديفيد بوهم بالتفكير ليس النتائج الفكرية لعمليات التعلم الواعية، ولكن أيضا العواطف والمشاعر والرغبات والنوايا والتلميحات والمخاوف المشروطة بالقيود التاريخية حسب الجنس والقوة والتقاليد ذات الصلة بالثقافة.
علينا اعادة النظر في حوارنا و طرق تحقيق التواصل بنية تحقيق الفوز للجميع و تحقيق المصالح المرسلة ليستقيم مجتمعنا – أي مجتمع نعيش فيه و نتحاور داخله: صغيرا كان أم كبيرا- و في ذلك فليتنافس المتنافسون.
Source : https://dinpresse.net/?p=13488